مؤتمر القاهرة وحالة التباعد بين السياسيين
تاريخ النشر: 7th, July 2024 GMT
زين العابدين صالح عبد الرحمن
أنهي مؤتمر القاهرة أعماله قبل الزمن الذي كان محددا له في جدول الأعمل، و أصدر بيانه الختامي.. و الشكر لمصر قيادة و شعبا على الاهتمام بالقضية السودانية، و استقبال مئات الآلاف من السودانيين الذين شردتهم أفعال الميليشيا التي حولت حربها على المواطن في كل مكان في السودان.. و الشكرا أيضا موصلا للقيادة المصرية للدعوة التي قدمتها لبعض القوى السياسية السودانية، من أجل الوصول إلي مشتركات بين الجانبين توقف الحرب و تسهل عملية توصيل الإغاثة للمتضررين و العالقين.
الذي تأكد من خلال مؤتمر الحوار في القاهرة، التباعد الكبير في المنطلقات السياسية بين المكونات السودانية، و التباعد ليس على خلافات يمكن ترميمها، أو تجاوزها، أنما هي خلافات جوهرية تؤثر على كيان الدولة، و وحدة أراضيه و شعبها، باعتبار أن أي حوار بين المكونات السياسية تحكمه مرجعياتها السياسية، باعتبار أن الأحزاب مؤسسات تحاول أن تعالج القضايا الوطنية و تقدم رؤى للتنمية و النهضة، هذه المشتركات نفسها تؤسس على روح الوطنية، و لكن هناك أجندة خارجية هي التي تقف حجر عثرة أمام التوافق الوطني، و هو الذي أغفل عمدا عدم إدانة الميليشيا التي تشن حربا على المواطنين، و أيضا أغفل عمدا الإشارة للدور المخرب الذي تلعبه دولة الأمارات العربية السودانية في السودان، و هذا ليس اتهاما يطلق على عواهنه أنما بموجب تقرير الخبراء للأمم المتحدة، و اعتراف مساعدة وزير الخارجية الأمريكي " مولي في " عندما تم استجوابها في الكونجرس، إلي جانب التقارير الإعلامية التي اشارت لدور الأمارات في الحرب الدائرة في السودان و دعمها العسكري الوجستي للميليشيا في الصحف الأمريكية و الأوروبية ..
أن الحوار و حتى البيانات لابد أن تسبر غور المشكل و تتحدث بوضوح عن الحرب التي تشنها الميليشيا ضد المواطنين في المدن و القرى البعيدة عن المعارك الحربية.. و أيضا عن الدور الأماراتي.. و أيضا يرجع البسبب المباشر للعامل الخارجي في حرب السودان منذ معركة " الإتفاق الإطاري" و الأمارات أدخلت ارنبة انفها حتى في الصراع السياسي بين القوى السياسية في السودان، و توظيفها لصالح أجندتها، و هي التي تحول الوصول إلي أي اتفاق بين القوى السياسية.. أن الحوار الذي دعت إليه مصر القوى السياسية بالفعل استطاع أن يبين أن القوى السياسية السودانية ليست تقف على مجموعتين وطنيتين تلك التي تقف مع الجيش و أخرى ترفض الحرب و لها رؤية مغايرة، و لكن هناك قوى أخرى ثالثة موكلة لها أن تدعم أجندة خاصة، و هي كتلة لا ترى في الأزمة إلا مصالحها الخاصة..
صدر البيان عن مؤتمر الحوار وقع عليه البعض، و رفض البعض الأخر عدم التوقيع عليه، و عللوا ذلك أن البيان لم يشير لانتهاكات الميليشيا، و إدانة حربها على المواطنيين، إلي جانب عدم الإشارة للدولة الداعمة عسكريا و ماليا للمليشيا، و هي التي صنعت للميليشيا جناحا سياسيا يدافع عنها.. و نجد هناك قوى سياسية كانت تقف مع الجيش و لكنها وقعت على البيان، و أكد أن البحث عن السلطة لوحدها، هو الذي قاد إلي الحرب.
رغم أن الحزب الاتحادي الأصل قد أصدر بيانا داعما للجيش من الأسبوع الأول لاندلاع الحرب، لكن الحزب نفسه له جناح كان يقف مع " قحت المركزي" و هذا الجناح جمد نشاطه العلني بعدم صدور أي بيانات له.. لكن تجد أن جعفر الميرغني رغم أنه رئيسا ل "للكتلة الديمقراطية" لكن الرجل مايزال في طور التنشئة السياسية، خاصة عندما ذهب إلي حوار باريس اسرع في ركوب البص رغم كان هناك جمع من الناس يؤيدون موقفه الداعم للقوات المسلحة، و لكن تخطاهم دون مخاطبة، الآن لم يتحفظ على البيان الذي لم يشير إلي حرب الميليشيا على المواطنين، و لا لدور الأمارات في الحرب الدائرة في السودان...! هل هذا له علاقة بسبب الزيارة السرية التي كان قام بها جعفر الميرغني قبل شهور إلي الأمارات، دون أن يفصح عن سبب الزيارة، أم أن هناك سببا أخر؟ أن أي مفاوضات تؤدي إلي "تسوية سياسية" سوف تحجب العديد من الحقائق التي يجب أن يعرفها الشعب، و أن هزيمة الميليشيا سوف تخلق واقعا جديدا تتغير فيه الأجندة و الاعبين، و من هناك العمضلة التي تدفع قيادات و غيرهم أن تكون هناك "تسوية سياسية" ختاما الشكر بالفعل لمصر قيادة و شعبا لاستقبالهم مئات الآلاف من السودانيين، و أيضا سعيهم الحسيس من أجل البحث عن حل للمشكلة السودانية، و إلي جانب التخفيف على معاناة الشعب السوداني.. نسأل الله حسن البصيرة..
zainsalih@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: القوى السیاسیة فی السودان
إقرأ أيضاً:
سردية لندن: مؤتمر لم يُصفّق له الكيزان ولم يحضره القتلة
حين انعقد مؤتمر لندن لم يكن ذلك فعلًا بروتوكوليًا آخر في روزنامة البيانات الدبلوماسية، بل لحظة استثنائية في زمنٍ تتراكم فيه المآسي حتى تفقد الأرقام معناها.
السؤال لم يكن: لماذا تأخر العالم؟ بل كيف أُتيح للخراب أن يتسلل من فجوة في الضمير الإنساني، ويتمدد بهذا الاطمئنان، كما لو أن الموت قد أصبح مشهدًا مألوفًا لا يستحق الإيقاف.
في قاعة تاريخية تزنها التقاليد الدبلوماسية الثقيلة، اجتمع صوت الإنسان مع صدى الجغرافيا الممزقة، واحتشدت الدول لا بحثًا عن مجد، بل لاستدراك ما يمكن إنقاذه من وطنٍ يتهاوى تحت ضربات البنادق وخيانات النخب.
وبينما كان البعض مشغولًا بحسابات الاصطفاف، كانت هناك إرادة خافتة تُجرب، من جديد، أن تقول: لا للحرب، نعم للمدنيين، ولو من بعيد.
المؤتمر في جوهره لم يكن محاولة للوساطة بقدر ما كان اعترافًا دوليًا صريحًا بأن ثمة كارثة فشلت كل المبادرات في لجمها. لذلك اختار أن يبدأ من حيث يجب: من المدنيين، لا من الجنرالات. لكن، وبلا مواربة، فإن غياب أطراف الحرب عن طاولة النقاش لم يكن نقيصة، بل فضيلة أخلاقية. لأن لا البرهان مؤهلٌ للسلام، ولا حميدتي يُحسن غير هندسة الموت.
كل ما قدّمه المؤتمر، هو قول ما يجب أن يُقال: أن هذه الحرب ليست قدرًا، وأن وحدة السودان ليست محطة عابرة في موجز الكوارث اليومية، وأن المدنيين ليسوا مجرد “كولاج” إنساني لإضفاء العمق على تقارير المنظمات.
الذين وقفوا خارج المؤتمر يصرخون، كانوا يرفعون شعارات تبدو، للوهلة الأولى، عادلة. لكن تفكيك شعاراتهم يُعيدنا للعبة المرايا القديمة. الكيزان، الذين لم يخرجوا من المشهد، بل أعادوا تدوير أنفسهم داخل خطاب الوطنية المزيفة، استطاعوا أن يزجّوا بهؤلاء الشباب في لعبة دلالات مضللة: صار كل حديث عن المدنيين في المخيلة المُضلّلة مرادفًا للدعم السريع، وللتآمر، وللعمالة، بينما لم يجرؤ أحد على طرح سؤال: من الذي صنع هذه الحرب أصلًا؟ ومن الذي أفلت المليشيات من قمقمها؟
الكيزان، وحدهم، أحسنوا تحويل التظاهر إلى قناع، والغضب المشروع إلى مسرحية مدروسة، تُرفع فيها الشعارات ليُعاد بها إنتاج القهر، لا مقاومته؛ حتى صار الهتاف سلاحًا في يد الجلاد، يرتديه بوجه مدني ويواصل به التنكيل باسم الشعب.
أما الذين يصرّون على أن المؤتمر تجاهل الفاعلين السودانيين، فعليهم أن يراجعوا تعريف الفعل أصلًا. لأن الفاعل هنا ليس من يُمسك بالبندقية، بل من يملك القدرة على إنتاج المعنى.
والحقيقة التي لا جدال فيها هي أن لا الجيش، ولا الدعم السريع، ولا تلك القوى المدنية التي تماهت مع هندام السلطة، ولوّنت خطابها بلون الزي العسكري، وانزلقت مع سرديّتهم الأمنية، تملك مشروعًا يُعتد به، أو رؤية تستحق الرهان.
أما القوى المدنية الوطنية، التي تحاول — رغم العزلة والقهر — أن تصوغ موقفًا أخلاقيًا من الحرب، فلا تُختزل مسؤوليتها في غيابها عن طاولة، بل في قدرتها على كشف الزيف، والإصرار على المعنى.
ولهذا، فإن اختزال مشهد لندن في غياب ما يُسمّى بـ«أطراف النزاع» ليس سوى تبسيطٍ مخادعٍ لمأساةٍ معقّدة، لا يعوزها الحوار، بقدر ما يعوزها الصدق.
البيان المشترك الذي صدر لم يكن بيان تسوية، بل بيان نفي: نفي لإمكانية استمرار الحرب بلا مساءلة. نفي لفكرة أن السودان شأن داخلي بينما يتم نهبه بالسلاح وبالسكوت. نفي لسردية البرهان الذي يريد رسم حدود السيادة على جثث المدن المدمرة، ولحميدتي الذي يتكلم عن السلام من فوق جماجم الفاشر.
لكن الأهم من كل ذلك: هو نفي للخذلان الجماعي. للمرة الأولى، منذ وقت طويل، قالت أوروبا شيئًا عن السودان لم يكن مجاملة، ولا ترتيبًا لنفوذ، بل إعلان قلق حقيقي.
هل يكفي ذلك؟ قطعًا لا. لكن في زمن صار فيه السكوت هو القاعدة، فالاعتراف، إذًا، هو بداية الطريق.
الدعم المالي الذي أُعلن عنه ليس إنجازًا، لكنه صرخة مضادة للمجاعة، ورسالة بأن من مات لا يمكن أن يُعاد، وأن النجاة الآن لمن لم تُسحق عظامه بعد.
الذين يسخرون من تلك التعهدات، لأن مصدرها «غربي»، يغفلون أن الحروب لا تُوقفها القبلية العاطفية، بل سياسات عالمية تُمسك بخيوط اللعبة.
والهجوم على المؤتمر، بحجة أنه مدفوع الأجر من السفارات، هو في ذاته تكرار بائس لنفس منطق الانبطاح الذي جعل من بيانات الجيش قُرآنًا مُنزلًا، ومن المساعدات الخليجية «حلالًا طيبًا»، بينما صارت أي لفتة أوروبية كفرًا وخيانة.
لقد حاول المؤتمر أن يخلق خطابًا جديدًا: لا ينتمي لخرائط القوى الإقليمية التي تتصارع فوق الجثث، ولا لصفوف النخب التي تكتب بياناتها من المنفى وتنتظر إشارات العواصم.
الخطاب الذي حاول المؤتمر أن يبلوره كان فعلًا مضادًا للصمت، لا بديلاً للثورة، ولا تسوية مع الجنرالات، بل منصة لكشفهم جميعًا.
ولعل ما يُحسب له أنه لم يهادن أحدًا: لا الدعم السريع، ولا الجيش، ولا حتى الدول التي تغذي الحرب سرًا وتُدينها علنًا.
فحين فشلت مصر والإمارات والسعودية في الاتفاق على بيان موحّد، سقط القناع عن فكرة أن الإقليم يمكنه صناعة سلام. لأن الإقليم، ببساطة، هو جزء من آلة الحرب.
الذين دعموا المؤتمر لم يفعلوا ذلك لأنهم يؤمنون بقدرة لندن على إخراج السودان من أزمته، بل لأنهم سئموا من خرافة أن الصمت هو الحل.
هذا المؤتمر لم يكن خيانة، بل فعل مقاومة ضد سردية الاستسلام.
أما الذين ينعقون بوطنية فُصّلت على مقاس العسكر، ويزعمون أن الدعوة لوقف الحرب مؤامرة، فهم ذاتهم الذين هللوا للانقلاب، وباعوا الثورة لحفنة جنرالات مهووسين بالدم والسيطرة.
لسنا في لحظة انتصار، ولسنا في مسرح هزيمة فقط. نحن في منطقة رمادية، فيها الكارثة تُعيد إنتاج نفسها كل صباح، والمستقبل يُصادر من فوق أنقاض الحاضر.
ولكن ما حدث في لندن، رغم كل تعقيداته، هو بمثابة نافذة فُتحت في جدار الصمت.
ليس المطلوب أن نُعلق عليها كل آمالنا، بل أن نُحصنها من التسفيه، ونربطها بحراك حقيقي يعيد تعريف من يتحدث باسم السودان، ولأجل من.
في عالم اختُزل فيه المعنى إلى صورة، وانكمش فيه العمق أمام سرعة البث، لم تعد الحقيقة تملك أثرًا ما لم تُقال بلغة تجرؤ على كسر الابتذال ومقاومة البلادة الأخلاقية.
ومؤتمر لندن، في صورته الأعمق، لم يكن مجرد مبادرة، بل تمردًا رمزيًا على ابتذال الدم السوداني، ورفضًا لأن يتحوّل الفقد إلى خلفية صامتة في مسرح السياسة الدولية.
يبقى القرار الآن في يد من تبقّى من هذا الشعب:
هل يرضى أن يظل مرآةً تعكس صراع الآخرين، أم يجرؤ على رسم خريطة نجاته، لا عبر فوهة البندقية، بل عبر شجاعة أن يقول — لا في لحظة انفجار، بل في لحظة وعي —: كفى.
zoolsaay@yahoo.com