كلام الناس
نورالدين مدني
لم أكن أود الخوض في هذا الامر المؤسف الذي كتبت عنه أكثر من مرة بشكل عام لأنه بالفعل تكرر في أكثر من دولة لكنه مستغرب في ظل العلاقات السودانية المصرية التي كانت نموذجاً طيباً من نماذج الأخوة التي ربطت بين شعب وادي النيل عبر الأسر المتداخلة تأريخياً.
يعرف الشعب السوداني فضل الشعب المصري الذي فتح له أبواب مصر قبل الاستقلال وبعده واحتضن أبناؤه الذين كانوا يسافرون لمصر لتلقي العلم في الأزهر والجامعات المصرية كما فتح الأبواب للسياسيين الذين لجاوا لمصر لتوفر لهم الحماية والأمان.
صحيح إن حجم الهجرة التي حدثت للسودانيين بعد الحرب التي أشعلها أعداء ثورة ديسمبر الشعبية وما زالوا يؤججونها كان كبيراً وأن ذلك أثر بصورة واضحة على الحياة الاقتصادية والمجتمعية المصرية، لكن معروف أيضاً ان هذه الأعداد الكبيرة من الأسر السودانية كانت تحت ضغط طارد بلا رحمة.
كنا ننتظر من المنظمات الأممية خاصة المفوضية السامية لشئون اللاجئين تحركا فاعلاً لمعالجة اوضاع هؤلاء اللاجئين لكنها فشلت بشكل واضح، إضافة للموقف السالب من الدول التي كانت تحتضن اللاجئين من مختلف أنحاء العالم الأمر الذي فاقم الأوضاع غير الإنسانية للاجئين السودانيين الذين وجدوا أنفسهم مضهدين وملاحقين.
المؤسف أكثر ما حدث في مؤتمر عقد بالقاهرة بمناسبة مرور عشر سنوات على قيام أول حكومة برلمانية في مصر يوم3 مايو2013م نظمته منظمة بان أفريكان موفمنت العالمية والمجلس الاقتصادي الأفريقي وجمعية أسرة وادي النيل بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني وجمعية هن للتنمية وجمعية نهل للعلم حيث طغى خطاب الكراهية المحرض على وجود اللاجئين في مصر وجاء خطاب الدكتور و سيم السيسي أكثر حدة في الكراهية ضد الوجود السوداني في مصر حيث قال أنه اينما حل في القاهرة يجد الخرطوم .. في هجوم غير إنساني على السودانيين بالقاهرة الذين أضطرتهم الحرب للخروج من منازلهم وترك ممتلكاتهم عنوة.
يعلم القاصي والداني أن هؤلاء السودانيين لم يأتوا للقاهرة غزاة، جاءوا في ظروف لايتمنونها لغيرهم وأنهم لا يستحقون هذه المعاملة التي لا تشبههم ولا تشبه المصريين.
هذا مادفعني للكتابة عن هذا المؤتمر الذي بدلاً من أن يكون داعما للوجود السوداني المؤقت في مصر جاء بخطاب مفخخ بالكراهية والعنصرية والعداء للاخر القريب، ومنظمات الأمم المتحدة وخاصة المفوضية السامية لشئون اللاجئين تقف تتفرج على هذه المأساة الإنسانية بلا حراك يذكر.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی مصر
إقرأ أيضاً:
هبوط مؤقت وديمومة خلود الأسرى الذين قضوا في زنازين الاحتلال
أحبال متدلية من سقف المسرح، تنتهي بجاكيتات وشال وبسطار ونظارات، مثلت مواد يتم استخدامها، حين تتغير الشخصية التي حوارها أو مونولوجها على خشبة المسرح. لكن واحدة ما إن تظهر حتى يواريها ياسر، إنها بدلة عسكرية للمحقق الاحتلالي، ليرمي بشخص المحقق وما يمثله من احتلال الى مزبلة التاريخ، في حين يخلد ذكر الأسير الذي قضى شهيدا في سجون الاحتلال البغيض.
يمكن أن تمثل مونودراما "هبوط مؤقت"، المسرحية لفرقة "كاريزما" القادمة من نادي ثقافي طولكرم، توثيقا عن كثير من الأسرى الفلسطيني، والتي تم تقديمها ضمن هذا المقترح الجمالي لفرقة شابة شغوفة بالمسرح والدور الوطني معا.
عرض الفنان ثائر ظاهر حالة الأسير ياسر، منذ طفولته، ومدرسته، وعمله بالأرض الزراعية مع والدته، واضطراره لترك المدرسة ثم زواجه وإنجابه، وتطوعه في مخيم جنين للاجئين، ومن ثم التحاقه بالمقاومة في الانتفاضة الثانية والتي على إثرها تم قصف مخيم جنين واجتياحه، حيث تكون النتيجة إصابته ثم تعرضه للأسر بعد تحقيق صاحبه عذاب تفنن الاحتلال به.
خلال سرد قصة ياسر، قام الفنان ثائر طاهر بتمثيل الشخصية الرئيسية الأسير ياسر، وعدة شخصيات: الأب، والأم، ومعلم التاريخ، والمناضل. وفي كل حالة كان يلجأ الفنان الى إحدى "العلاقات" ليرتدي شيئا منها جاكيت ونظارة وبسطار، إضافة للبندقية التي ظهرت من خلال تمثيلها لا حملها. كذلك كان الحال مع اختيار محاكاة المولودين من خلال الإيماء.
واستطاع الفنان الشاب الى حد جيد من التعبير عن تلك الشخصيات، لكن المميز في التمثيل كان تأدية دور المعتقل ياسر في زنازين التحقيق، حيث أدخل المشاهد في أجواء التعذيب لانتزاع الاعترافات.
أدى الفنان عدة أساليب للتعذيب كالشبح، مختارا صندوقا يحاكي الزنزانة، كذلك أسلوب غطس الرأس في الماء من خلال الإيماء. ميزنا للفنان عدة حركات جسدية تنبئ عن ميلاد فنان فلسطيني يجتهد في التعبير.
مشاهد مؤثرة تعرضنا لها، من خلال معاناة الأسرى، المرضى منهم، وما يصاحب التعذيب من حرمان من الاغتسال، وما يتعرض له المعتقل من أمراض جلدية. كان لتمثيل "حك الجلد مؤلما، لكنه ذهب به منحى كوميديا كان من الممكن التعمق فيه وزيادة الجرعات الكوميدية للتخفيف على المشاهدين الذين تعرضوا لمشاهد قاسية خلال معاناة الأسير من مرض القلب واستشهاده.
كان لتمثيل مشاهد التعذيب من جهة ومشاهد المعاناة من المرض من جهة أخرى، والاستغراق فيه، ما شدنا تجاه هذا الممثل الشاب، الذي أرانا ليس مشهدا مسرحيا، بل مشهدا سينمائيا مؤثرا.
اختار المخرج مقطوعات موسيقية وأغاني من التراث الغنائي الوطني، والتي تحيل المشاهد الى مضامين تلك الأغاني، فقد كان من الأولى اختيار موسيقى خاصة معبرة، حتى يظل المشاهد في جور الدراما المسرحية.
لعبت الإضاءة دورا مهما في إبراز الشخصيات، وموجودات المسرح، التي تم توظيفها للسرد عن الشخصيات التي أداها بحيوية الممثل الشاب ثائر ظاهر. كذلك لم نشعر بفراغات خلال المشاهد، ما أبعد العرض عن التراخي.
أخرج العرض وكتبه قدري كبسة، معلم تاريخ، ومحب للمسرح، حيث يعد الفنان كبسة أحد التربويين المهتمين بالمسرح المدرسي، حيث كان لذلك الاهتمام وتطوير الذات من خلال تدريبات في عالم الدراما دور في امتلاكه مهارات فنية ساعدته في إخراج مونودراما "هبوط مؤقت".
وكما يبدو التزم الكاتب بسيرة أحد الأسرى الشهداء، ياسر الحمدوني، وبالرغم أن العرض لم يذكره بالاسم، إلا أنه عبر عنه.
في الوقت نفسه، فإن العرض لم يكن متعلقا فقط بشخصية محددة، بل يمكن اعتباره معبرا عن عشرات آلاف المعتقلين الفلسطينيين، الذين تعد الأرض والارتباط بها والتعليم والنضال نواظم مشتركة في الحياة.
وهنا، نجح العرض في تصوير حياة الفلسطينيين، كيف تتحول مصائرهم، فهم كأي شعب لديهم طموحات فردية ذاتية أسرية، في تطوير النفس، والارتقاء علميا واقتصاديا، كذلك التضامن معا من أجل إنجاز أفضل للفرد والأسرة التي تعاني اقتصاديا في بلد يتعرض للاحتلال، وتقل فيه فرص الحياة. تتحول مسارات هؤلاء المواطنون من أفراد يهتمون بالخلاص الفردي والأسري من خلال العمل الجماعي في الأرض الزراعية التي تحتاج سواعدهم، الى الخلاص العام والوطني، حين يتطور الوعي بأن الخلاص الفردي الشخصي لن يكتمل إلا بجعله ضمن الخلاص العام، كون الأرض-الوطن هنا، هي الملاذ الذي لا ملاذ آخر غيره للعيش.
ولعل "هبوط مؤقت"، وهي تلقي الضوء على آلام الأسرى الفلسطينيين، تفتح النقاش حول اختيارات النضال الوطني لشريحة كبيرة من الأسرى، اختارت العمل الوطني للخلاص العام، وهي تعرف ضريبة ذلك إن كان استشهادا أو أسرا.
كذلك كان لتقنيات خالد الغول دور في تسهيل تعامل مسرحية الممثل الواحد مع الفضاء المسرحي، حيث منحت الممثل قدرة التعبير والحركة وحيوية الأداء، ما جعله يرتقي بالعرض المعتمد على كتابة تحتاج الى المزيد من التعمق في رسم الشخصيات واختيار لغة مسرحية لا إنشائية، فقد عانى النص من هذا الجانب.
استخدم السلمين المتقابلين، في العرض لأكثر من غرض؛ فهو شجرة وهو مرتفع للجلوس عليه والحوار، وهو طاولة في غرفة الصف، ما يعني أنه من المهم توظيف الموجود على الخشبة لاستخدامات متنوعة.
العرض يبشر بعروض قادمة، يدلل على ذلك شغف ظاهر لدى الطاقم الصغير، وهو من جهة أخرى يبشر بتطور الحركة المسرحية في مدن أخرى خارج رام الله والقدس؛ فوجد حركة مسرحية في مدينة طولكرم تعني أن هناك فرصة للتعبير عن الحياة المحلية من خلال فنانين وكتاب من البيئة نفسها.
"هبوط مؤقت"!
ثمة رمزية هنا، فقد يكون الهبوط من أعلى هبوطا للخلاص بالوصول الى الأرض، كما هو الوصول من الماء الى البرّ، وقد يكون هبوطا اضطراريا خشية من عدم القدرة على مواصلة التحليق. إنه "هبوط مؤقت" للمناضل، الذي من خلال استشهاده على الأرض، إنما يهبط كي يعلو ويخلد ذكره.