انتصار العمال في بريطانيا ليس تغييرا ولا تداولا حقيقيا للسلطة!
تاريخ النشر: 6th, July 2024 GMT
من المؤكد أن حزب المحافظين الذي حكم المملكة المتحدة لنحو عقد ونصف كان يستحق الهزيمة الساحقة التي أصيب بها. واقع الأمر أن الحزب كان يستحق العقاب الشعبي والخروج من الحكم منذ ٨ أعوام كاملة بعد فشل مقامرة زعيمه السابق ديفيد كاميرون الكبرى في ٢٠١٦ بإجراء استفتاء على بقاء أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
غير أن الهالة السياسية والإعلامية الهائلة التي أحاطت بها وسائل الإعلام الرئيسية في بريطانيا والولايات المتحدة والغرب انتصار حزب العمال ووصول زعيمه كير ستارمر لحكم ١٠ داوننج ستريت هي هالة مبالغ فيها، بل وتكاد تكون مضللة وغير صحيحة.
هذه الهالة الضخمة التي أحيط بها ارتكزت على فكرتين رئيسيتين تم تسويقهما بقسوة وبكفاءة وإلحاح إعلامي.
الأولى أن فوز حزب العمال بأغلبية مريحة هو دليل على استمرار فعالية وكفاءة النظام الديمقراطي الغربي بدليل تحقيقه لأهم آليات عمله وهو حدوث تداول للسلطة بين أحزاب متنافسة (في حالة بريطانيا تداول السلطة في نظام الحزبين الكبيرين).
الثانية هي أن تحقيق حزب العمال لأكبر نصر منذ ١٩٩٧.. هو وبتعبيرات رئيس الوزراء الجديد كير ستارمر بعد الفوز سيأتي «بالتغيير» في السياسات العامة ببريطانيا سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية.
لكن حقائق الأمور تقول إن انتقال الحكم من المحافظين إلى العمال لا يعبر عن تداول حقيقي للسلطة ولن يُحدث تغييرا جوهريا في التوجهات الكبرى للسياسة في المملكة المتحدة التي صيغت خاصة منذ عهد مارجريت تاتشر.. الزعيمة صاحبة الإرث السياسي الأهم في التاريخ البريطاني المعاصر بعد وينستون تشرشل.
نعم هو يدفع بهواء جديد للمجال العام وبوجوه وزراء جدد أكثر حيوية من عناصر النخبة السياسية البريطانية الحاكمة.. ولكن من المستبعد أن يعكس تداولا حقيقيا للسلطة بالمفاهيم المعروفة للتنافس الديمقراطي بين أحزاب تعكس مصالح اجتماعية وطبقية تنتج سياسات اجتماعية واقتصادية ودبلوماسية خارجية متباينة وشديدة التمايز عن بعضها البعض.
تمكن عهد مارجريت تاتشر «التاتشرية» الذي لا يمكن فصله عن عهد ريجان «الريجانية» من إرساء قواعد ما بات يعرف بالليبرالية المتوحشة التي استندت إلى قواعد مدرسة شيكاجو الاقتصادية شديدة التطرف في إطلاق العنان للحرية الاقتصادية والقطاع الخاص والذي أنتج سياسات الخصخصة وانكماش دور الدولة إلى أدنى حد ممكن. قادت هذه السياسات المعادية للعدالة الاجتماعية إلى أضرار جسيمة في نمط توازن المصالح بين الطبقات الاجتماعية التي ميزت الليبرالية الديمقراطية القديمة (خاصة بعد إصلاحات النيو أكت لروزفلت التي قامت على أفكار كينز أو الثورة الكينزية وتغلبت على الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي) كما قضت على منجزات لا بأس بها لدولة الرفاه الاجتماعية ولتضييق نسبي في الفوارق بين الطبقات.
بعد الثورة الريجانية والتاتشرية المضادة هيمن القطاع المالي على الاقتصادات الغربية على حساب القطاع الصناعي والإنتاجي المعروف بالقطاع السلعي وكانت النتيجة أن زاد الأغنياء غنى والفقراء فقرا وتركزت الثروة في يد نخبة «أوليجاركية» جديدة كان طبيعيا وتلقائيا أن تعمل باستمرار على أن تحصر عملية تداول الحكم فيما بينها.
العقبة الأساسية التي كانت تواجه سيطرة الأوليجاركية الجديدة هي وجود حزب العمال بأفكاره السياسية ذات الطابع اليساري وهنا جاء الدور التاريخي لتوني بلير الذي بات زعيما لحزب العمال منذ ١٩٩٤ فالسياسي الطموح الذي هاله خروج الحزب من الحكم لمدة ١٨ عاما متصلة تخلص من معظم قادة الجناح اليساري للحزب وحول حزب العمال من حزب يسار الوسط إلى حزب يمين الوسط أي أنه انتقل بقيادته للحزب والحكومة منذ ١٩٩٧ إلى ٢٠٠٧ إلى طبعة أخرى مخففة من حزب المحافظين. ومن هنا صارت الأوليجاركية الحاكمة متوزعة بين المحافظين والعمال ولا خطر كبير على حكم الأوليجاركية بنت الليبرالية الجديدة المتوحشة إن جاء رئيس الحكومة من المحافظين أو العمال.
لكن التحدي لمعادلة تاتشر - بلير المتناغمة عاد من جديد مع فوز الزعيم اليساري المبدئي المؤيد للحقوق الفلسطينية جيريمي كوربين برئاسة حزب العمال عام ٢٠١٥.. وهنا عاد معها ما يمكن وصفه بالفيتو الضمني من الدولة العميقة البريطانية المتحالفة مع الطبقة المالية الغنية على عودة العمال إلى الحكم بل تعرض كوربين المؤيد لحقوق الشعب الفلسطيني لأكبر عملية اغتيال إعلامي ومعنوي تعرض لها سياسي بريطاني منها اتهامه الأخطر بمعاداة السامية ما أدى لهزيمة حزبه هزيمة ساحقة في انتخابات ٢٠١٩ وخروجه بعدها من زعامة الحزب.
انتخاب كير ستارمر لزعامة العمال وهو النسخة الأقل كاريزمية من توني بلير ولكن المؤمن بخطه اليميني ترافق مع عملية تطهير قاسية للجناح اليساري ولأفكار كوربين تحت شعار تطهير الحزب من القيادات والكوادر المعادية للسامية خاصة وأن زوجة ستارمر يهودية نشطة متعاطفة مع إسرائيل ويعيش جزء من أهلها في إسرائيل. عندما استوفى ستارمر شروط عودة الحزب للصيغة التاتشرية للحكم المهيمنة على بريطانيا منذ ١٩٧٩.. صار بمقدوره وهو ابن بار وموثوق فيه للبيروقراطية البريطانية (كان مديرا للنيابة العامة لفترة طويلة) أن يتقدم مستريحا للزعامة السياسية للبلاد مستفيدا من أخطاء الزعماء المحافظين المتتابعين وفي إطار صورة إيجابية، عكس سلفه كوربين، يقدمها الإعلام له باستمرار. حقائق الأمور تقول، أيضا، إن حكم العمال لن يأتي بالتغيير الذي وعد به ستارمر. في السياسة الداخلية لن يحدثَ تغيير جوهري في السياسات الاقتصادية الليبرالية المحافظة المستمرة منذ ٤٥ عاما ولاتوجد فروق جوهرية بين العمال والمحافظين في سياسات الهجرة والمهاجرين والضرائب على الدخل.. إلخ. التحسن النسبي الطفيف قد يحدث في إنفاق أكبر ولكن محدود لحكومة العمال على مؤسسة الرعاية الصحية «إن إتش إس» والتعليم العام خاصة لتطوير الوجبات المجانية لأطفال المدارس.
لكن السياسة الخارجية لن يحدث فيها تغيير يذكر خاصة وقد تم تجربة ستارمر كمعارض وثبت أنه مؤيد صارم لعلاقة التحالف التبعي للولايات المتحدة تجاه الأزمات الدولية والإقليمية في القارة الأوروبية وخارجها. لم يقدم ستارمر كزعيم سابق للمعارضة في السنوات الخمس الماضية أي اختلاف جدي مع موقف حكومات المحافظين من الأزمة الأوكرانية وأيد الدعم العسكري والسياسي المفرط وغير المسبوق لحكومة زيلينسكي والمعادي بشدة لروسيا وبوتين. وفي أزمة غزة لم يعارض ستارمر تحالف بريطانيا مع الولايات المتحدة، بل أكثر من أي حليف غربي آخر، في دعم إسرائيل سياسيا وعسكريا وفي صد الهجوم الإيراني على إسرائيل وصد هجمات أنصار الله الحوثيين.
اختُبر ستارمر في هاتين الأزمتين الخطيرتين أوكرانيا وغزة وثبت أنه منسجم تماما مع المؤسسة الأمنية والعسكرية ذات التوجه الأطلسي العتيد، ولا يمثل أي تهديد لتقاليدها تماما كما فعل بلير عندما كان الشريك الأهم لجورج بوش الابن في غزو العراق ٢٠٠٣.
حسين عبدالغني إعلامي وكاتب مصري
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: حزب العمال
إقرأ أيضاً:
ترامب يتسلّح بالأوهام: لا صورة انتصار في اليمن
لطالما فشلت الولايات المتحدة، طوال فترة عدوانها على اليمن، في خلق «صورة» يمكن أن ترتكز عليها في حربها الدعائية والنفسية، كما في تعزيز معادلات ردعها - إن كانت الأخيرة موجودة فعلاً -، في وجه عدو «غير مرئي» يتخفّى في التضاريس والتشعّبات، ويستفيد من تكنولوجيا الاستخدام المزدوج، للتصدي باستمرار لأي عدوان يواجهه.
وعليه، اكتفت «القيادة الوسطى الأميركية»، خلال جولتي الحرب على اليمن، بنشر مقاطع فيديو، عبر حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، للطائرات الأميركية وهي تقلع من حاملات الطائرات في عرض البحر، لاستهداف الأراضي اليمنية، ما جعل العدوان الأميركي، وقبله الأميركي - البريطاني - الإسرائيلي، وقبلهما السعودي، تفتقر كلها ولو إلى صورة رمزية توحي بالانتصار والسيطرة والتفوّق، أو يمكن استخدامها كجزء من التكتيكات العسكرية والحرب النفسيّة وأرشيف المعارك المصوّرة في اليمن.
والواقع أن الحرب الإسرائيلية – الأميركية على قوات صنعاء والمقاومة في غزة شكّلت علامة فارقة، ولا سيما في ما يتعلق بمعركة السردية، بعدما «احتكرت» واشنطن وتل أبيب هذه الأخيرة، لعقود، مستفيدتَين من «إمبراطورية» إعلامية ضخمة، تتولى، عادة، الترويج لـ«انتصارات» جيوشهما على «قوى الشر»، بهدف إحلال «الخير والسلام».
إلا أنه بعد ثلاثة أسابيع من إعلانه بدء هجوم أميركي واسع على اليمن، تصوّر ترامب، أخيراً، أنه استطاع «تقديم» الصورة المنتظرة لـ«معجبيه»، من خلال نشر مقطع فيديو يظهر استهداف تجمع على الأراضي اليمنية، قبل أن يتضح أن المستهدَف هو مجرد تجمع قبلي تقليدي بالقرب من الحديدة.
وعلى الرغم من تبجّح الرئيس الأميركي بالمقطع، وكأنه وجد «ضالته» التي ستثبت، أخيراً، أن غاراته على اليمن تنجح في استهداف مواقع عسكرية، فقد بدا واضحاً، بالنسبة إلى المشاهد العادي حتى، أنّ من استُهدفوا كانوا من المدنيين الذين يشاركون في مناسبة عيدية، وفي موقع مخصّص للمدنيين.
على أنّ الخطوة الأخيرة غير نابعة من مجرد «سوء تقدير» من جانب ترامب، بل إن الأخير، على الأرجح، على اضطلاع على التقارير والاستنتاجات التي خلصت إليها وكالات الاستخبارات ووزارة الدفاع، والتي تولّت شبكة «سي أن أن» الأميركية، أخيراً، نشر جزء منها.
وتشير التقديرات المشار إليها، بوضوح، إلى «النتائج المحدودة جداً للضربات الجوية على اليمن وتكلفتها الباهظة»، والتي لطالما عارضها ترامب نفسه.
أما في الكونغرس، فهناك «من ينتظر الرئيس الأميركي ليسأله عن حقيقة وجود استراتيجية للتعامل مع الأزمة في البحر الأحمر، وما إذا كان الحل الفعلي يكمن في اليمن أم في قطاع غزة»، فيما يحتمل البعض أن تكون الإدارة الأميركية في طور تمهيد الطريق لطلب المزيد من الأموال لاستكمال عدوان، يقرّ الخبراء وكثير من أعضاء الكونغرس بأنه «ليس ذا جدوى».
وإزاء ذلك، يأتي مقطع الفيديو الأخير الذي يزعم استهداف مقاتلين «كانوا يخططون للزحف إلى البحر الأحمر» طبقاً لترامب، كمحاولة للإيحاء بأنّ الأخير يمتلك أجوبة على الأسئلة المشار إليها.
على أنّ تلك المحاولة قوبلت بمزيج من السخرية والازدراء، ليس لدى الشعب اليمني والعربي فحسب، بل في أوساط الخبراء وحلفاء الرئيس الأميركي والمقرّبين منه حتى.
وفي مقابل تعثّر السردية الأميركية، فإن «فيديو ترامب» يأتي في وقت لا يزال فيه المقطع المصوّر للمواطن اليمني، وهو جالس في بقالته إبان استهداف منطقة تبعد عنه أمتاراً قليلة بأربع غارات متتالية، يتصدّر وسائل التواصل الاجتماعي منذ عشرة أيام على التوالي، ولا سيما أن الرجل أدهش العالم بشجاعته، بعدما حافظ على ثباته، محاولاً تهدئة طفله، غير آبه بالقنابل التي تسقط بالقرب منه.
إلى ذلك، وفي محاولة على ما يبدو لتحقيق نتائج فعلية على أرض المعركة، كشف موقع «War Zone» العسكري الأميركي، الثلاثاء، عن استخدام واشنطن قنابل «ارتجاجية فتّاكة» لأول مرة في حربها ضدّ «أنصار الله»، من بينها القنبلة الانزلاقية «StormBreaker GBU-53/B»، باستخدام طائرات «أف -18»، وقنبلة «AGM-154»، ذات سلاح المواجهة المشتركة «JSOW»، جنباً إلى جنب الصواريخ المضادة للإشعاع وذخائر «الهجوم المباشر المشتركة» (JDAM)