إنّ فَقدَ الرجال يفوق كثيرا أي فقد آخر، حينما يكون الفقد بوزن وقيمة السيد عبدالله البوسعيدي، الذي وافته المنية في الرابع والعشرين من يونيو ٢٠٢٤، أتيح لي أن أقترب من هذه الشخصية شديدة الاحترام، تعرفت عليه منذ بداية عملي بجامعة السلطان قابوس ١٩٨٦، وكان اللقاء في جامعة السلطان قابوس في مناسبة لا أتذكرها، وقد عرفني بنفسه (عبد الله بن حمد وزير الإسكان)، كان شابا ربما في العشرينيات من عمره، وقد سألته: حضرتك أصغر سنا من كل الوزراء في عُمان، وقد ابتسم ابتسامة رقيقة ولم يعلق، كنت سعيدا جدا بأن أجد وزيرا شابا يتولى مهمة وزير الإسكان في بلدٍ كان يواصل الإعمار والتنمية، وقد تملكني شعور بالفخار ودار بيننا حديث لا أتذكر تفاصيله، ربما كله كان عن الثقافة والتعليم، وقد شعرت منذ التقيته بقدر كبير من المحبة، ولفتت نظري تلك الابتسامة الرقيقة الصافية التي لم تفارقه طوال حديثي معه، ومنذ هذه البدايات الأولى لم تنقطع صلتي بهذا الرجل الجميل خلقا وتواضعا وثقافة.

دعاني إلى زيارته في منزله منذ هذه الفترة المبكرة، ووجدته قارئا للأدب، متابعا لكثير من الأعمال الفكرية والأدبية، حافظا أشعار الآباء العمانيين، الذين خلَّفوا تراثا شعريا بديعا، قارئا لتاريخ عمان في كل العصور، من بداية العصر الإسلامي الأول مرورا بعصر النباهنة فخورا بدور اليعاربة ودورهم في ملاحقة البرتغاليين، ليس على الساحل العربي للخليج فقط وإنما في الساحل الفارسي أيضا وملاحقتهم حتى غرب الهند وشرق إفريقيا، وكان رحمه الله عالما بتاريخ البوسعيد خصوصا وقد كان يتحدث كثيرا عن السيد سعيد بن سلطان، الذي أحال عمان إلى إمبراطورية كبيرة امتدت إلى شرق إفريقيا، وعندما سألته عن مصادر معارفه المتنوعة، أجابني بأنه قرأ الكثير من هذه الكتب في مكتبة والده، التي كانت تضم الكثير من صنوف المعارف الأدبية والفقهية والتاريخية، وظل اللقاء متواصلا بيننا حتى انتهت مهمتي في جامعة السلطان قابوس ١٩٩١، وكنت فخورا جدا بعد أن ارتبطت بصداقات مع كثير من أبناء هذا البلد العربي العريق.

ظل السيد عبدالله نموذجا للشخصية العمانية بتواضعه وثقافته ورقته ومحبته، وكان اختيار السلطان الراحل قابوس ـ طيب الله ثراه ـ له سفيرا لعمان في القاهرة (٢٣ يوليو ١٩٩٠) اختيارا مثاليا، فضلا عن توليه مندوب عمان في جامعة الدول العربية، وقد استقبل المجتمع الدبلوماسي والثقافي في القاهرة السيد عبد الله استقبالا يليق بعمان وبممثلها في القاهرة، فعلى الرغم من عمله الدبلوماسي إلا أنه ارتبط بعلاقات متنوعة مع كل فئات المجتمع المصري، وخصوصا الجماعة الثقافية، حاضرا في كل الأنشطة الثقافية، في الأوبرا، في الجامعة، في الصالونات الثقافية، وقد حظي باحترام ومحبة الجميع، فقد جمع بين الثقافة والدبلوماسية بمهارة فائقة، لذا توثقت علاقاته بكثير من الشعراء والروائيين والمثقفين والصحفيين.

دعوته لزيارة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية في مقرها القديم في شارع البستان في قلب القاهرة، تلك الجمعية التي تأسست عام ١٩٤٤، وقد احتوت على مكتبة نادرة في كل فروع التاريخ العربي والعالمي، وقد راح يتطلع إلى قوائم المكتبة ويسجل بعض عناوين الكتب وخصوصا ذات العلاقة بتاريخ عمان وشرق إفريقيا، وأتذكر أني أهديت إليه بعض مطبوعات الجمعية، وكان سعيدا جدا بهذه الزيارة، وفي القاهرة توثقت علاقتي بهذا الإنسان الكبير في خلقه ومعارفه وإنسانيته، وقد شرفني بزيارته في منزلي بالقاهرة، كان رحمه الله عروبيا خالصا، مؤمنا بأهمية الثقافة بمعناها الشامل أدبا وفكرا وفنا، وكان مؤمنا بأن الثقافة يمكن أن تصلح ما أفسدته السياسة، بل هي قادرة على حل كثير من المشاكل، وخصوصا فيما يتعلق بالعلاقات العربية العربية.

كانت الثقافة هي الموضوع الأهم في فكر الدبلوماسي الذي يمثل بلاده سفيرا ومندوبا لبلده في جامعة الدول العربية، من هنا جاءت فكرة إقامة صالون ثقافي يحمل اسم (الخليل بن أحمد الفراهيدي) ١٩٩٦، وهي الشخصية التي اعتبرها كل العرب إرثا لغويا يفتخر الجميع بالانتساب إليه، قد عاصرت إنشاء هذا الصالون منذ بداياته، وقد شاركته في اختيار الأسماء التي تحاضر في الصالون، والموضوعات المقترحة والتي كانت جميعها بمثابة العودة إلى العناية بجذور الثقافة العربية، وكانت جلسات الحوار تقام مساء الثلاثاء الأخير من كل شهر، ولما كان المرحوم السيد عبد الله مؤمنا بفكرة العروبة وتراثها المشترك فقد وضع الصالون تحت رعاية الأمين العام للجامعة العربية وقتئذ (الدكتور عصمت عبد المجيد)، وكان الموضوع الأول عن الخليل بن أحمد الفراهيدي، وتنوعت الموضوعات ما بين مشروع السلطان قابوس للأسماء العربية والمدائح النبوية في الشعر العربي، ولم يغفل قضية التواصل الحضاري ما بين مصر وعمان، ثم خصص جلسة عن الشعر في الحب الإلهي، بعدها كانت الجلسة السادسة عن الوجود العربي في شرق إفريقيا، ثم الجلسة الأخيرة عن عمان في عيون الرحالة.

كان لي شرف المشاركة في هذا الصالون في الجلسة المخصصة للتواصل الحضاري بين مصر وعمان، ولعل المهم فيها ما أشرت إليه عن مشروع اتفاق عسكري مشترك بين عمان ومصر في عهد السلطان برغش والخديوي إسماعيل، وقد ألقيت الضوء على بنود هذه الاتفاقية التي لم توقع بين الطرفين بسبب تدخل السلطات البريطانية التي مارست ضغوطا وهو ما حال دون توقيع الاتفاقية.

كنت سعيدا جدا بهذا الصالون الذي شارك فيه كبار الأساتذة اللغويين ومؤرخي الأدب والتاريخ، وحينما طلب مني السيد عبدالله أن أكتب مقالا عن ذكرياتي في عمان، وقد شارك في هذا الإصدار مجموعة من الأساتذة المصريين الذين عملوا في سلطنة عمان منذ بداية عصر النهضة الجديدة، وقد طبع هذا الكتاب من بين المطبوعات التي نشرها المرحوم السيد عبدالله.

اللافت للنظر في شخصية هذا الرجل الجميل أنه لم يأت من خلفية دبلوماسية، فقد عمل في مجالات كثيرة ولم يسبق له العمل في المجال الدبلوماسي إلا لسنوات قصيرة في تونس بعدها نقل إلى مصر، ورغم ذلك كان دبلوماسيا كبيرا منفتحا على المجتمع المصري، صديقا للمثقفين، محبوبا ومقدرا من الجميع، وكانت رؤيته للعمل الدبلوماسي مختلفة عن غيره، فقد اختار الثقافة مجالا متسعا لخدمة الدبلوماسية، فضلا عما كان يتميز به من علاقات مع الكثيرين من فئات المجتمع، وقد نظر إليه المجتمع الثقافي في مصر باعتباره مثقفا قبل أن يكون دبلوماسيا. رحم الله السيد عبدالله بن حمد البوسعيدي وتقبله بقدر ما قدم لوطنه وأمته، وعزائي لكل الأصدقاء في سلطنة عمّان ولأسرته الكريمة وكل محبيه.

د. محمد صابر عرب أكاديمي وكاتب مصري

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: السید عبدالله السلطان قابوس فی القاهرة السید عبد فی جامعة عبد الله عمان فی

إقرأ أيضاً:

مشيداً بالخروج المليوني.. السيد القائد يؤكد أن هناك خيارات تصعيدية أكثر إيلاما للأمريكي إذا استمر في عدوانه

يمانيون/ صنعاء وصف السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي – يحفظه اللهالخروج الشعبي الكبير في العاصمة صنعاء وبقية المحافظات بأنه “إحياء جهادي عظيم لذكرى غزوة بدر الكبرى”.

وأكد السيد القائد في محاضرته الرمضانية السادسة عشر اليوم الاثنين، أن هذا الخروج يمثل “نعمة كبيرة وتوفيقًا من الله” لتأكيد ثبات الشعب اليمني في مناصرة الشعب الفلسطيني والوقوف ضد “الطغيان الأمريكي والإسرائيلي” والتصدي للعدوان على اليمن.

وقال السيد القائد إن هذا الخروج “يعبّر عن وفائه لرسول الله صلى الله عليه وآله وللإسلام العظيم” وتمسك الشعب اليمني بـ”مبادئه الإسلامية العظيمة” وعزته الإيمانية ورفضه “للإذلال والاستباحة والخنوع لأعداء الله”.

واعتبر أن هذا الإحياء العملي لذكرى يوم الفرقان هو “تعزيز يصل به شعبنا العزيز حاضره بماضيه المجيد في نصرة الإسلام” ومواجهة قوى الكفر والشر والإجرام.

وأكد السيد القائد أن رسالة شعبنا العزيز بخروجه الواسع والعظيم هي رسالة واضحة للشعب الفلسطيني ورسالة صمود في مواجهة الطغيان والعدوان الأمريكي، وأن هذا الخروج يؤكد للفلسطينيين بأنهم “لم يكونوا وحدهم”.

وشدد على أن الشعب اليمني لن يقبل بأن يستفرد العدو الإسرائيلي بالشعب الفلسطيني وبشراكة وحماية أمريكية، وأن هذا الخروج هو رسالة صمود وثبات في مواجهة الطغيان والعدوان الأمريكي ورسالة للمجرم المعتوه الكافر ترامب.

وأعلن السيد القائد عن هرب حاملة الطائرات الأمريكية بعد الاشتباك مع قواتنا المسلحة المجاهدة إلى أقصى شمال البحر الأحمر إلى مسافة 1300 كلم، مؤكدًا أن قواتنا المسلحة تصدت لمحاولة الأعداء لشن هجوم عدواني على البلد.

ووجه السيد القائد “تحذيرًا جديدًا للأمريكي” أمام “المشهد العظيم في الحضور المليوني لشعبنا العزيز”، مؤكدًا أنه إن استمر الأمريكي في عدوانه على بلدنا إسنادًا منه للعدو الإسرائيلي فإنما يدفع بنا إلى مواجهة تصعيده بخيارات تصعيدية إضافية.

وأوضح أن اليمن يواجه العدوان الأمريكي حاليًا باستهداف حاملة طائراته وبوارجه وقطعه الحربية، لكنه أكد أنه حينما يستمر في عدوانه فلدينا خيارات تصعيدية أكبر من ذلك وأكثر إيلاما له وإزعاجا له.

ودعا السيد القائد، الأمريكي إلى أن يستفيد مما قدمه شعبنا اليوم من رسالة واضحة وقوية تؤكد على ثباته وموقفه، مشددًا على أن إصرار العدو الإسرائيلي على منع دخول المساعدات إلى قطاع غزة هو عدوان كبير وإجرام رهيب وفظيع لا يمكن السكوت عنه.

وأشار إلى أن حظر الملاحة على السفن الإسرائيلية خطوة أولى لكن عندما تشتد مجاعة الشعب الفلسطيني في غزة لا يمكن أن نتفرج وأن يكون موقفنا عند هذا المستوى.

وأكد السيد القائد أن المعيار لمواقفنا هو مسؤوليتنا الدينية والإيمانية والأخلاقية مع فعل ما نستطيعه وما نتمكن منه، وأنه “لا نتردد عندما يستلزم الحال وتقتضي المسؤولية أن نقدم على خطوة أكبر أو عمل أكبر ونحن مستعدون”.

وتوجه السيد القائد بالشكر والإشادة للشعب اليمني على هذا الخروج العظيم، سائلاً الله أن يكتب أجرهم ويرفع قدرهم ويتقبل منهم هذا الإحياء العظيم.

مقالات مشابهة

  • شيخ العقل التقى وزير الثقافة وشخصيات
  • إدارة ترامب ترحّل طبيبة لبنانية بسبب مشاركتها في تشييع السيد نصر الله
  • السيد القائد مخاطباً الشعب اليمني: نتوجه إليكم بالشكر والإشادة ونسأل الله أن يكتب أجركم وأن يبيض وجوهكم (إنفوجرافيك)
  • لقطات لبعض الذخائر والأسلحة والحبوب المخدرة التي عثرت عليها قوات الجيش داخل أوكار ميليشيا حزب الله بقرية حوش السيد علي بريف القصير غرب حمص
  • مشيداً بالخروج المليوني.. السيد القائد يؤكد أن هناك خيارات تصعيدية أكثر إيلاما للأمريكي إذا استمر في عدوانه
  • السيد القائد يشيد بالخروج المليوني ويعتبره رسالة صمود وثبات
  • الجيش السوري يطرد حزب الله من “حوش السيد علي”.. وعون يطلب الرد على “النيران”
  • هل ضيّعت الدولة اللبنانية فرصة طرابلس عاصمة للثقافة العربية؟
  • (نص + فيديو) كلمة السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي حول آخر التطورات والمستجدات
  • الهوية الوطنية والهوية العربية: جدلية التداخل ومسارات المشروع الثقافي الأردني