لا أريد حكر هوية «المكان» الذي سأكتب عنه هنا في المعنى التقليدي لـ«المكان»؛ أي فضاء الهوية والانتماء، بلد النشأة الحميم وأرض اللغة الخاصة وصندوق الذكريات والجهة الأبدية للحنين، كلا. بمعنى آخر فإنني لا أريد أن أبدو وكأنني أتحدث عن «الوطن» حين أتحدث عن المكان هنا. والتحدي الذي أواجهه في سبيل فك هذا الارتباط هو تفادي الوقوع في شَرك الترادف المألوف بين هاتين المفردتين اللتين أصبحتا من المتوازيات الشائعة، خاصة حين نصادف مفردة «المكان» قادمة من الأدب، حيث يغلب تأويلها بالوطن.
المكان هنا هو ذلك الحيز المأهول، حتى وإن اعتبرناه محطة انتقالية، المهم أنه يحمل بالنسبة إلينا شيئا من خصائص الوطن والبيت دون أن يكون بيتا أو وطنا بالضرورة، لكنه قد يكون شقةً مستأجرة على سبيل المثال، أو غرفة في فندق اعتدنا نزوله. كما من الممكن أن يتمثَّل هذا المكان بالنسبة للبعض في مبنى المؤسسة حيث يعملون، أو في مبنى المدرسة أو الجامعة حيث يدرسون لسنوات، بل يمكن أن يتمثَّل حتى في داخل السيارة! لم لا نتأمل السيارة الخاصة بوصفها مكانا، مكانا محمولا متنقلا عابرا للأمكنة؟!
«قال لي صاحبي: لا أريد مكانا
لأُدفَنَ فيه. أريد مكانا لأَحيا،
وأَلعنَهُ إن أردتُ.
فقلت له: والمكان يمرُّ كإيماءة
بيننا: ما المكان؟
فقال: عُثُورُ الحواسِّ على موطئ
للبديهة»
(محمود درويش).
المكان هنا هو حيث تعثر الحواس على موطئ للبديهة، كما يقول محمود درويش. ولكن لا بدَّ من النظر إلى المكان كنظام معقد أشبه باللغة، يصعب تفكيك بُناه وفصل عناصره عن بعضها. العشرة الطويلة مع/ في مكان معين هي من تطبع هذا المكان فينا. مع الوقت نبدو وكأننا نحفظ المكان عن ظهر قلب، متصالحين مع مظهره قبل كل شيء، ومن خلال التفاعل الحيوي معه نصبح أكثر وعيا بوظيفة كل جزء منه، متكيفين مع أخلاقه (نعم، للمكان أخلاقه أيضا). نعرف أبعاده وحدوده ومداخله ومخارجه ونتحرك خلاله بعفوية وأمان نسبي لا يشكو من أي نتوء للغرابة، باستثناء الحالات التي يتطور فيها المكان فجأة أو تتغير ملامحه بفعل كارثة.
وكما نتجذر داخل المكان ونمد فيه شبكة من العلاقات والمصالح، والتي تصبح ضرورية أكثر فأكثر، فإن المكان بدوره يتجذر فينا. نستطيع القول في هذه الحالة بأن المكان الذي نقيم فيه يقيم فينا. ونحن، إذ نتقن مكاننا بكفاءة عالية، نصبح كمن يتقن حرفة معينةً فتغدو رأسماله ومهارته الأساس التي تطبعه بطباعِها فلا يستطيع الانتقال منها بسهولة إلى مهنة أخرى. هذا المثال شائع في بيئات العمل، حيث يعبِّر الكثير من الموظفين عن عدم رضاهم، مشتكين من شح الراتب وتأخر الترقيات أو من علاقاتهم بمديريهم، لكنهم مع ذلك يفضلون البقاء في الوظيفة ذاتها، في المكان ذاته، مستكثرين الكلفة النفسية والذهنية التي تترتب على الخروج من «منطقة الراحة» أثناء الانتقال من مكان إلى آخر، أي من نظام مألوف إلى نظام جديد، غريب نسبيا، يثير استقباله الأول جهدا ذهنيا فوق العادة ويستثير نوعا من الحذر المرهق.
هكذا يصبح المألوف قيدا، وذلك حين تحُول خبرتنا مع المكان وفيه دون رغبتنا في الهجرة عنه، حادَّةً من شجاعتنا في تبديل المُقام نحو مُقام جديد قد يعدنا بشروط أفضل للحياة. ثمة خوف من الفقدان يتأجج بداخلنا كلما خطرت على البال فكرة جريئة للرحيل، خوف من خسارة المصالح والمكتسبات والارتباطات النفعية المباشرة وغير المباشرة في علاقتنا بحيثيات المكان وتفاصيله. هذا إذا ما أردنا التركيز على علاقتنا بالمكان بوصفها علاقة نفعيةً، استراتيجيةً بحتة، متجاهلين قليلا امتدادها العاطفي فينا وما ينسجه الزمن المتراكم من وشائج خفية في الذاكرة. فالبرغم مما نعانيه هنا، في هذا المُقام، إلا أن إتقانَنا لنمط المكان وأسلوبه يدثرنا بشيء من العزاء والقناعة بواقع الحال والمعطيات المتاحة.
إذن، فالتكيُّف مع المكان هو في العمق عملية ترويض بطيئة للتماهي مع النمط الاجتماعي الذي يفرضه، نمطه الاجتماعي الذي هو في واقعِ انعكاسٍ متبادل لهيمنة نمطه الهندسي والعمراني. فمن المذهل حقا أن نتأمل كيف يهندس الإنسان المعاصر، ممثلا بالدولة، مكانه باحترافية ودقة متناهية، ضابطا الصِلات والمسافات بين الشارع والحي والسوق، بين المداخل والمخارج، بين المسجد والساحة ..إلخ، دون أن يسمح لأي ملمح عفوي أو فوضوي خلاق بالخروج عن السيطرة. ولذا فإن المكان الذي نشكله بالمسطرة والفرجار والزاوية القائمة، وفقًا لمواصفاتنا الاجتماعية والأمنية واللوجستية، سيلقي بظلاله علينا كقالبٍ يشكلنا ويعيد هندسة أبعاد مختلفة من هويتنا، وتلك هي ردة فعل المكان إذ يغدو كائنا فاعلا هو الآخر، نتماهى معه ونقبله في عملية ترويض متبادلة، حتى إذا جئنا نغادره اكتشفنا بأنه يعتقلنا بلا وعي.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المکان هنا
إقرأ أيضاً:
كيف رد ترودو على ترامب الذي يرى في ضم كندا فرصة؟
أكد رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، مجددًا على استقلالية كندا ورفضه الفكرة القائلة بإمكانية تحولها إلى الولاية الأمريكية رقم 51، وذلك خلال مؤتمر صحفي عقده في بروكسل في ختام زيارته لأوروبا، حيث اجتمع مع عدد من زعماء العالم.
وقال ترودو في المؤتمر الصحفي: "كما أوضحت بشكل قاطع منذ البداية، لا توجد أي فرصة على الإطلاق لأن تصبح كندا الولاية رقم 51 للولايات المتحدة". وأضاف: "في الوقت نفسه، وبعد عملي مع الرئيس ترامب لأكثر من 8 سنوات حتى الآن، يمكنني أن أؤكد لكم أننا نأخذ تصريحاته على محمل الجد، ونتأكد من أننا نستجيب بشكل مناسب".
كما أشار ترودو إلى أن رد فعل الكنديين خلال الأسابيع الماضية كان "ملهمًا"، حيث أظهر المواطنون تضامنًا كبيرًا من خلال تغيير خطط إجازاتهم، ودعمهم للشركات المحلية عبر شراء المنتجات الكندية، والعمل على تنويع سلاسل التوريد باتجاه أوروبا وآسيا.
وأكد ترودو أن هذا التضامن يعكس روح الكنديين الذين يقولون: "نعم، سيكون الأمر صعبًا، لكننا سنعزز فخرنا الكندي ووقوفنا إلى جانب بعضنا البعض".
وفي مقابلة بثت الأحد الماضي قبل مباراة بطولة السوبر بول، صرح الرئيس الأمريكي بأنه جاد في رغبته بأن تصبح كندا الولاية الأمريكية رقم 51.
ورداً على سؤال عما إذا كانت فكرة ضم كندا "أمراً حقيقياً"، كما أشار إليه رئيس الوزراء الكندي، قال ترامب: "نعم، هو كذلك. أعتقد أن كندا ستكون في وضع أفضل بكثير إذا أصبحت الولاية 51، لأننا نخسر 200 مليار دولار سنوياً مع كندا. ولن أدع ذلك يحدث. لماذا ندفع 200 مليار دولار سنوياً كنوع من الإعانة إلى كندا؟".
وأوضح ترامب أن الولايات المتحدة لا تقدم إعانات لكندا، بل تشتري منتجات من الدولة الغنية بالموارد الطبيعية، بما في ذلك النفط. وأضاف أن الفجوة التجارية في السلع توسعت في السنوات الأخيرة لتصل إلى 72 مليار دولار في 2023، وأن العجز التجاري يعكس إلى حد كبير واردات أمريكا من الطاقة الكندية.
وعلى صعيد تاريخي، لم يخلو التاريخ الأمريكي-الكندي من "الشطحات الأمريكية"، حيث فشلت الولايات المتحدة في غزو جارتها الشمالية عام 1812، مما أدى إلى شن بريطانيا العظمى حرباً على الولايات المتحدة ودخولها واشنطن وإحراق البيت الأبيض.
ومن المعروف أيضاً أن الولايات المتحدة أعدت في عام 1930 خطة "الحرب الحمراء" لغزو كندا وإلحاق الهزيمة ببريطانيا، وتم إنفاق 57 مليون دولار في عام 1935 لتعديل خطة الغزو، لكنها لم تنفذ مع صعود هتلر.
في تقرير نشرته مجلة "تايم" في 4 شباط/فبراير الحالي، أشارت إلى أن ترامب ينضم إلى قائمة طويلة من الرؤساء الأمريكيين، منهم الآباء المؤسسون، الذين رأوا في كندا بلداً يجب السيطرة عليه. وكان الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون الأكثر ثقة بنفسه، إذ قال في عام 1812 لصحيفة فيلادلفيا إن "الاستحواذ على كندا... هو مسألة سير على الأقدام".