السفير جمال محمد ابراهيم

أعزّيك أيّـتـهـا الإبنـة المكلومة في رحيلِ أمِّـكِ فـتحـيــة . . .
ولكن يكون عزائي لك منقوصاً إنْ لم يكتمل بعزاءٍ أرفعـه لأجيــالٍ عــرفـتْ الراحــلة فـتحـيـة ابراهيم، رمـزاً لامرأة نـبيـلة جليـلة وجميـلة، إسمها "نـور العيــن"، ولكن لـم يُتـح لأكثرهم معــرفة إسمها كاملاً كما أكتبه الآن وَعيني تدمع على "نور العيـن".

عرفها الناس أغـنية تركـتْ أثراً طاغياً، وبصمة راسـخة في وجدانهم، إذ لم تكن محضَ إســمٍ لأغـنيةٍ طـروبة شـــغف بها السودانيون، بل كانت الوسام الذي حمله صوت فـنان أفريقــيا الأوّل، وشفرة فتحتْ صفحـات لتغييرٍ كاسحٍ في الذائقـة الاجتماعية والجمالية لفن الغـناء. إنداحتْ تلكم الصفحات من شِـعـرٍ غنائي، صـدر مِـن قلــبِ شــاعرٍ إســمه اسماعيل حسن "ود حد الزين"، مـوسَــقـهُ عبقــريُّ الأغنية السّــودانية الرَّاحل محمّـد عـثمان وردي، بإيقـاعـات تشـرَّبتها روحـه من نهـرٍ خالـدٍ هو نهـر النيل.
نظمَ الشاعر إسماعيل حسن "ود حد الزين"، رحمه الـلهُ ، قصائده الأولى مصنوعة لتوافق بحور الشعر العربي الفصيح وقواعــده، غير أن العاطفة الجيّاشة الصادقة، لا ولن تحكـمـها الضوابط والقواعد والقيود الخليلية . جاء نظم شـعره بعد ذلك بعامـيـة دارجــة حُـراً سـلساً من عاطفةٍ طلـيـقة لعاشــقٍ رقَّ قـلـبه انقطاعاً ومَحـبـّةً لمـن جمعـته الحياة بها، رفـيقـة وزوجــة وصــديقة وأمّـاً لأولاده وبنـاته. لم تكن الراحلة فتحيـة مُلهِـمة يُنظـم فيها الشِّــعـر وكـفى. لم تكن معشوقة التقاها عاشق مُدنف وكفى. انفتح قلـب "نور العيـن" على قلبِ شـاعرٍ صـادق المشاعر، كصـدق النيل المُتحـدّر عبر سـهولِ ووديان بلاده مـِن جنــوب المنابع إلـى شــمال المصبّــات، فكان ســلـسـاً في مســيره، صخَّاباً في انحداره، قوياً في مجـراه. لقد شـهد جيلُ الخمسينات وما بعدها من سنوات أواسـط القرن العشــرين، غِـناءاً من الفنان محمد وردي وشعراً من إسماعيل، أحــدث ما قـد يُعـدَّ – بلا أدنى مبالغــة- ثورة في وجــدان تلكم الأجـيـال . انفـتحت أبوابٌ على مصاريعها لتغييرٍ طالَ مشـاعر شــباب تلكم الأجيال، فشكّل فـتحـاً مُباغـتاً لمجتمع تلك السّـنوات في السّودان، فوقف أكثر عــرّابو فـنــون الشعر والغناء في ذلك الزّمان، مواقف حَـذرة مُسـتريبة. لكن لســطوة قـدرات الفنان المُغـنّي وردي وموهبته الأصيلة، ما هدم جـدران ذلك الحذر وتلك الإســـترابة.
لم يكن في حُسبان تلـك الفتاة الجميلة ، ولا في حُسبان شـــاعرها المُحــبّ إســماعيل ود حدّ الزين، ولا في حساب فـنان عـذب الصـوتِ ، جاء من شمال مصبّات النيل باتجـاهٍ مُعاكـسٍ لمسـار منابعه، أن ثلاثتهم سـيجترأون على الذائقة الجمالية لمجتمعٍ ألِـفَ الانغلاقَ لا الانفــتاح، والاســتغفار قبلَ الضحـك، فـيتهـيّأ على تردُدٍ لفـتـوحــاتٍ كاســحةٍ قـادمـةٍ إلى ســاحات الغــناء واللحـــن والموسيقى. وإنّ الإستجابة لذلـك الإجتـراء الجميل لم تكن بعيدة الوقوع، إذ السّـاحات الإقليمية والعالمية، وبعد طيّ سنوات الحرب العالمية الثانية، شهدت ثوراتٍ فـنـيـة في الغناء والموسيقى والإطراب. عرفنا في تلكم السنوات بيئة تسـيَّدها الفيس بريسلي وفـرانك سيناترا والخنافس وأضرابهم .
نعرف للنيل الخالد مساراته السلسة ، كما نعرف عنه مساراته الصّـاخبة التي تصارع أمواجها الحاينة صخـور شلالاتها المرّقمة، فيتجاوزاها الواحد تلو الآخر. ترى هَـل كان النيل الخالد مرآة لذلك الإبداع الثلاثي الذي جمع فتحية بإسماعيل ووردي. .؟
كانت للرّاحل إسماعيل وللرّاحلة فتحية، مسيرة حيـاتيـة حفـلـتْ بسلاسـةٍ حانية في آن، وبصـخـبٍ حـميـمٍ في آن . لكأنّهـما اســـتلهما في مسيرتهما تلـك- وهُـمـا في خضــم قصّـــة رباطهما العاطفي في دنيـا الناس، ســلاسـة ذلـك الـنّـهـر الخـالد في حميميـتـه وفـي عنفوان تصخـــابه. ولأنَّ الإبداع أجمـله ما يخرج من رحِـم المعاناة ، وأنبـله ما تفصّـدت من عثراته ومكابداته، أكباد العشاق، فـإنَّ الأقدار أتاحـتْ للعاشقين شــاهداً مُبـدعـاً رافـقـهـما وارتبطتْ مشاعره بمـا عاشـاه في مسيرتهما تلك ، فكانت فتحيـة هيَ "نور العين"، والشاعر هو "ود حدّ الزين" والمفنان المطرب هـو محمد عثمان وردي، فاكتمل مثلث الجمال والشعر والغناء لثورة المشاعر تلـك، وفتحتْ صفحات للغنـاء في السودان جـــذّابة زاهــية . أوحـَـتْ ثورة المشاعر تلك لكلِّ مُحـبِّ بعدها، أن يقف أمام حبيبته ليقول لها بعبارات إعتذارية حميمة : "أوعك يا حبيبي أوعك تاني تزعل". ذلك فـتحٌ ليس في لغة الغناء فحَسب ، بل في الشعر الذي كانت تتخفّى حميميـته خجــلاً وراء توريات تقـول للعصـافير في غصــونها أنّـها تذكّـر العاشق بالـدُّرِّ المصوْن. .
صرنا ننادي محـبـوباتنا : "يا حبـيـبــة" ولا من أحد يرى في العبارة انكساراً أو ميـوعــة . ثُمّ جـاء محجـوب شريف ينادي محبوبته ، شريكة رحلة حياته : " أحِبّـك أحبِّـك أنا مجــنونك". رحم الـله مبدعين فتحوا أبواب الإبداع على مصــاريعها ، بلغــةٍ صـــرنا نتنـفســـها برئـاتنـا، وبموسيقى تلامس وجداننا، وبغـناءٍ مثل ذلك الغناء الذي جاء من حنجرة عـبــقـــري الغـــناء السوداني، فارتقى بإبداعـه ليـتـبـوأ الموقع الأول للإطراب في أفريقــيــا.
لا أعزّيك يا أحـلام وَحـدك، أو أعـزّي إخـوتك وأخـوانك، وأنتِ التي وَثَّقـتِ وَرَســمْتِ وَأنجَـزتِ لوحاتٍ، بقلمٍ باذخِ الرّويّ لتضـيفـيـنَ كلّ ألـوان قُـزحٍ إلى تجـــربةٍ إبداعــيـةٍ وفـنـيـةٍ وجمالـيةٍ، أحـدثتْ نقـلة بل حــراكاً وثورة رسَــخت في قـبـول مشــاعـر الناس لــها . لم تكن الرَّاحلة فتحـيـة مُلهمة فحسب، إذ ملهمات الشعراء يبقـيـن مُلهمات في قلبِ كلِّ شاعرٍ عاشـق، لكنَّ الرّاحـلة فـتحــيــة ألهـمَـتْ انـبـثاقِ تجــربـةٍ كاملة غـيـر مســبوقة ، بل ألهـبـتـهـا عاطفةً وشعراً وإطرابا ، فصــارت بذلك ومع شـاعرٍ عاشـقٍ ومطربٍ صدّاح ، رمزاً زاهـياً لتلك التجربة الفـريدة. .
عزيزتي أحلام. . عَـزائي لأجيــالٍ رافـقـت تلك التجـربة وعاشـتْ لهيـبها وحميميــتـها ، اعتذاراتها ومسامحاتها ، هدوء عواصفها وصخب توادُدِها . ما كتبتُ هُنا إلا بقلمٍ باكٍ لأمسح دمعات تحدّرت من عينيَّ، ودمعات أكاد أراها تتحـدّر من عينيك على راحــلةٍ عــزيزة. .
ألا رحم الله الثلاثي الذي أثرى حياتنا ومشاعرنا ونظرتنا للحياة من حولنا، وتبقى ذكرَى "نور العيـن" وإسماعيل ووردي، حيّـة دائـمـة في وجــــداننا. . .

القاهــرة 6 يوليو 2024

jamalim@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: لم تکن

إقرأ أيضاً:

إسماعيل الليثي: ما زالت أذهب إلى المقابر وأتحدث مع ابني وادعو له

تحدث المطرب الشعبي إسماعيل الليثي  عن يوم وفاة ابنه الراحل رضا، لافتًا أنه في صباح يوم وفاته كان يقيم مع جدته في إمبابة، قائلا:" قمت مبكرًا وذهبت أدفع مصاريف مدرسته ولم أكن أعرف أنه توفى، وذهبت إلى بيتي وقلت لوالدته سأذهب إلى إمبابة عشان أقعد مع ابني، وفي الثانية ظهرًا وجدت أحد أصدقائي من إمبابة قال لي وهو مرعوب رضا مات، وكانت صدمة كبيرة ووصلت إلى امبابة لا أعرف كيف وصلت، وكان في دم يسقط من وجه، ونظرت له وكأنه ينظر إلي وهو يبتسم وكانت صدمة كبيرة ولم أكن أتخيل".

إسماعيل الليثيأبرز تصريحات إسماعيل الليثي

 

وأضاف خلال حلوله ضيفًا مع الإعلامي د. عمرو الليثي ببرنامج واحد من آلناس علي شاشة الحياة: "في هذا اليوم كنت عامل فيديو له في السادسة صباح وهو يرقص في الفرح والجميع فرحان به، وكانت صدمة كبيرة، ومكثت فترة طويلة بعد الوفاة وأنا أشعر أن الحياة انتهت بالنسبة لي ومازالت أعيش في صدمة والحمد لله، وبيوحشني كتير والفراق صعب، وأغنية" ابن عمري "عملتها عشان ابني الراحل، وأنا راضي والحمد لله".

 

وأشار إلى أنه ذهب كثيرًا إلى المقابر لأكون بجواره وأقعد عند القبر واقرأ الفاتحة وأقول له وحشتني وامشي، ونفسي أكون معاه في الجنة وأشوف مرة ثانية والدنيا خلصت بالنسبة لي، وهو صاحبي وأخويا وابني والدنيا بقه ليها طعم بوجوده وكنت أحب أسعده واعطي له كل ما يتمناه، وكنت بشوفه نجم كبير وكان سنه أكبر من عمره، ومرة اخد فلوس من شنطتي واداها لناس من اهلنا في امبابة وعمل خير لله، وهو حنين جدًا وبيحب الكلاب وهو بياكل ياخد معلقة ويعطي للكلب فهو يعشق الكلاب والعصافير والقطط وكان حنين جدًا".

 

 

 

مقالات مشابهة

  • إسماعيل الليثي وقصة وجعه بفقدان ابنه رضا: ابن عمري اللي راح
  • التعداد السكاني: خريطة جديدة لأحلام التنمية والصراعات المؤجلة
  • بعد وفاة ابنه.. إسماعيل الليثي: الدنيا خلصت بالنسبة لي
  • إسماعيل الليثي يكشف حقيقة انفصاله عن زوجته بعد وفاة نجله
  • المطرب الشعبي إسماعيل الليثي يرد علي شائعات انفصاله عن زوجته بسب فرح شقيقتها
  • إسماعيل الليثي: ما زالت أذهب إلى المقابر وأتحدث مع ابني وادعو له
  • مافيش حاجة بإيدي| رسالة مؤثرة من إسماعيل الليثي لنجله الراحل «ضاضا»
  • بعد 7 أشهر من اعتقاله.. إطلاق سراح عضو هيئة الدستور “الزين العربي الدردير” ببنغازي
  • شيخة الجابري تكتب: الزين في العين
  • مبارك الهاجري لأحلام : الغالية عطرتني بـ 30 ألف ريال والأخيرة ترد .. فيديو