مسقط "العُمانية": تُحاكي شواطئ صور حكاية حضارة عريقة، حكاية أمواج تتراقص على أنامل الحرفيين، حكاية سفن خشبية شاهقة تشقّ عباب الماء، حاملة معها عبق التاريخ وعبق التجارة وعبق عمان.

منذ فجر التاريخ، اتخذت صور مكانة متميزة في صناعة السفن، فكانت مهدًا للملاحة البحرية ومركزًا إشعاعيًا لصناعة السفن الشراعية التي جابت أصقاع العالم، تاركة وراءها إرثًا عريقًا يشهد على براعة أبناء عمان ومهارتهم الفائقة.

لم تكن صناعة السفن في صور مجرد حرفة عادية، بل كانت فنًا يتوارثه الأجيال، فنًا يمزج بين الخبرة والدقة والإبداع؛ فبأدوات بسيطة ومهارات متوارثة تمكنّ حرفيو صور من بناء سفن ضخمة تراوحت حمولتها بين 100 و250 طنًّا، قادرة على خوض عباب المحيط الهندي دون خوف أو وجل.

وما زاد من روعة هذه السفن هو بناؤها دون الاعتماد على مخططات مرسومة، بل كانت تُبنى بدقة متناهية بفضل خبرة بناة السفن الذين توارثوا أسرار هذه الحرفة جيلًا بعد جيل.

وخلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ازدهرت صناعة السفن في صور بشكلٍ ملاحظ، لتصبح من أهم مراكز هذه الصناعة في الجزيرة العربية.

وازدادت شهرة صور كمركز تجاري بحري مهم، إذ كانت سفنها تبحر إلى أنحاء العالم، حاملة معها بضائع عمان من تمور ولبان وعطور وغيرها.

وللسفن الخشبية مواصفات تميز الواحدة عن الأخرى، من حيث الشكل والحجم وغرض الاستخدام والحمولة ومن السفن التي كانت تصنع في صور سفن "الغنجة" التي اشتهرت مدينة صور بصناعتها، وتعد من أجمل السفن التجارية وأكبرها حجما، فمقدمة الغنجة مائلة يعلوها رأس بشكل قرص دائري، مع حلقات متساوية المركز، ثم تاج في أعلى المقدمة، أما مؤخرتها فتتجلى فيها إبداعات النجار العماني من خلال النقش على الخشب، كما يظهر في القوس النصف دائري المسمى (الشانده)، وكذلك النوافذ الخمس المقصورة الدبوسة، أما ذراع الدفة فمثبت من الأسفل.

وللغنجة صاريان كبيران ترفع عليهما الأشرعة، وتتراوح حمولتها بين ۱۰۰ - ۳۰۰ طن.

وهناك أيضا "السنبوج" وهي من سفن النقل التجارية العمانية الكبيرة، وتوازي سفن الغنجة من حيث الحجم إلى حد ما وهي ذات مقدمة منحنية، يعلوها طرف عريض مدبب، أما مؤخرتها فعريضة مربعة الشكل ولاشك أن الأسطول البحري العماني كان معظم سفنه من الغنجة والسنبوح، حيث كانت تبحر بأشرعتها إلى الساحل الغربي للهند والساحل الشرقي لأفريقيا واليمن وبحر عمان والخليج العربي، في رحلات تجارية تستغرق حوالي تسعة أشهر من كل عام.

ومن السفن أيضا "البدن" التي تعد من أقدم السفن العمانية، وهي صغير الحجم نسبيا ويطلق عليها أحيانا (بدن عويسي) وكانت تستخدم في صيد الأسماك والتجارة البحرية، وخاصة إلى اليمن والساحل الشرقي لأفريقيا، أما الأنواع الأصغر من سفن البدن فكانت تستعمل في النقل الساحلي حول الساحل العماني، وتتميز "البدن" بمقدمة معطوفة ومؤخرة قائمة، ويبحر باستخدام الشراع والمجاديف.

وهناك أيضا "البوم" التي تعد اليوم من أشهر السفن التجارية في دولة الكويت خاصة ودول الخليج العربي عامة، ولكن صناعته في سلطنة عُمان بدأت متأخرة، وبالتحديد في بداية العقد السادس من القرن العشرين ( ١٩٥٣م )، وتتميز "البوم" بأنها مائلة المقدمة والمؤخرة وأهم ما يميزها السنام المستطيل في أعلى المقدمة.

وتتراوح حمولة البوم بين ۱۰۰ - ٤٥٠ طنًّا، كما أن صناعتها أسهل من صناعة سفن الغنجة والسنبوج.

وإضافة إلى السفن الكبيرة، كان يصنع في صور سفن صغيرة منها "الجالبوت" وهي سفينة تجارية صغيرة الحجم إذا ما قيست بسفن الغنجة والسنبوج، وكانت أعدادها قليلة، ومقدمة الجالبوت قائمة وتنتهي بطرف عريض ولا توجد في الجالبوت لمسات جمالية إلا نادرا، واستخدم هذا النوع من السفن في النقل البحري الساحلي وتتراوح حمولة سفينة الجالبوت بين ۱۰ - ۱۰۰ طن.

كما تم تصنع "الماشوة" وهو القارب المرافق لسفينة الشحن الكبيرة، وهذا القارب متوسط الحجم يتم تحريكه بالمجاديف التي لا يقل عددها عن أربعة ولا يزيد عن عشرين مجدافًا، وتستخدم "الماشوة" حلقةَ وصل بين السفينة والشاطيء، وكلما كانت السفينة بعيدة عن الشاطيء يتوجب استخدام الماشوة لنقل البحارة والركاب والبضائع ومواد الإعاشة والنوخذة من وإلى السفينة، وإذا أبحرت السفينة ربطت الماشوة خلفها، أما إذا كانت الرحلة طويلة فلا بد من رفعها على سطح السفينة تحاشيا لغرقها وفقدانها.

كما اشتهرت صور أيضا بصناعة سفن الصيد؛ حيث شاع استخدام "هوري الصد" على امتداد السواحل العمانية، وكان الأصلح نظرا لكبر حجمه واستيعابه عددًا أكبر من الصيادين، وقدرته على الإبحار وسط الأمواج ولمسافات أبعد وحمل كمية أكبر من الأسماك حيث يصل طوله إلى 8 أمتار تقريبا وارتفاعه ١،٥ متر، وعدد بحارته بين ٤ - ٦ أفراد، يستخدمون المجاديف والشراع في الرياح المناسبة.

ويعد قارب الصيد هذا في أصله قاربًا محفورًا يستورد من "الملبار" بالهند ويتم محليا زيادة ارتفاعه بالألواح والمسامير وتشكيل مقدمته ومؤخرته المتشابهتين.

كما ظهر أيضا في ذلك الوقت "هوري اخر" وهو هوري العبور، الذي يعد قاربًا صغيرًا محفورًا يستورد من الملبار (الهند) ولا يزيد طوله عن 5 أمتار وارتفاعه ٨٠ سنتيمترا وكانت الحاجة إليه ماسة لخفته وسهولة تسييره بمجداف واحد أو اثنين، كما يمكنه نقل 4 أفراد للعبور من شاطيء إلى آخر أو من سفينة إلى أخرى أو لرحلة صيد قصيرة، وبالرغم من الاستغناء عن القوارب الخشبية إلا أن هذا القارب لا يزال يشاهد مبحرا للصيد أو للتسلية أو للسباق في الوقت الحاضر.

ومع تغير العالم إثر الثورة الصناعية وظهور السفن الحديثة التي تعمل بالبخار والديزل، والتغيرات في أنماط التجارة العالمية؛ بدأ نجم صناعة السفن التقليدية بالأفول، تاركًا وراءه إرثًا عريقًا وحكايات خالدة.

ومع ذلك، تبقى صناعة السفن في صور رمزًا لحضارة عمان العريقة، وشعبها المبدع، وإبداعهم في التكيف مع ظروف البيئة والبحر؛ فصناعة السفن ليست مجرد حرفة تقليدية، بل قصة إنسانية تروي حكاية شعب عشق البحر، وتحدى الأمواج، وبنى حضارة عظيمة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: صناعة السفن السفن فی فی صور

إقرأ أيضاً:

السمدوني: اتفاقية تخريد وبناء السفن بميناء دمياط تسهم في زيادة التجارة البحرية

أكد الدكتور عمرو السمدوني، سكرتير عام شعبة النقل الدولي واللوجستيات بغرفة القاهرة التجارية، أن توقيع اتفاقية لتخريد وبناء السفن بميناء دمياط سيسهم في زيادة حجم التجارة البحرية في مصر، مما سيجعله أكثر فائدة للاقتصاد المصري، حيث ستعمل الاتفاقية على زيادة الإيرادات الحكومية من خلال تعزيز الاستثمارات في القطاع البحري، بالإضافة إلى تطوير البنية التحتية للميناء لجعلها أكثر كفاءة وفعالية.

وكانت الشركة القابضة للنقل البحري والبري قد وقعت مذكرة تفاهم مع شركة إيه بي موللر – ميرسك إيه / إس، بهدف تخريد السفن وبناء سفن جديدة وتنفيذ أعمال الإصلاح المخططة والطارئة في ميناء دمياط.

وأوضح السمدوني في تصريحات صحفية له اليوم أن الاتفاقية تتكامل مع توقيع الشركة القابضة للنقل البحري والبري وشركة الوحدة للتنمية الصناعية في ديسمبر الماضي، لتأسيس شركة لإدارة أول مشروع من نوعه في المنطقة العربية وعلى مستوى الدول العربية والأفريقية، يهدف إلى تخريد السفن وبناء سفن جديدة، وتنفيذ أعمال إصلاح السفن سواء المخططة أو الطارئة.

وأشار د. السمدوني إلى أن التوقيع يأتي في إطار تنفيذ التوجيهات الرئاسية بتعظيم التعاون مع القطاع الخاص في مختلف المشروعات. كما أن التعاون مع الشركات المحلية والدولية في مجال إعادة التدوير المسؤول للسفن يتم وفقًا للمعايير الدولية مثل اتفاقية هونغ كونغ لإعادة تدوير السفن واتفاقية بازل الخاصة بنقل النفايات الخطرة، مما يساعد على حماية البيئة وتعظيم الاستفادة من الموارد.

وأضاف أن مصر تنتج حوالي 8 ملايين طن من حديد التسليح سنويًا، في حين أن القدرة الإنتاجية لمصانع الحديد المرخصة تبلغ حوالي 16 مليون طن، وذلك بسبب عدم توافر الخردة في السوق المحلية، حيث يتم تدبير نحو 1.5 مليون طن خردة سنويًا من السوق المحلي.

وطالب السمدوني بتطوير الميناء لمواكبة الاحتياجات المتزايدة، مشيرًا إلى أنه يواجه منافسة قوية من موانئ أخرى في المنطقة، إلى جانب تأثير التغيرات المناخية على العمليات الملاحية.

يذكر أن ميناء دمياط يُعَد أحد أهم الموانئ المصرية وأكثرها حيوية، إذ يلعب دورًا محوريًا في حركة التجارة العالمية بفضل موقعه الاستراتيجي على البحر المتوسط، على بُعد نحو 10 كيلومترات غرب فرع دمياط لنهر النيل. يمتد الميناء على مساحة 11.8 كيلومتر مربع، مما يجعله مركزًا رئيسيًا للتجارة والنقل البحري.

مقالات مشابهة

  • ننشر حركة تداول السفن والحاويات في ميناء دمياط
  • رفضًا لسياسات ترامب.. شركة نرويجية توقف تزويد السفن الأمريكية بالوقود
  • رياح قوية وأمواج عالية تضرب 13 ولاية اليوم!
  • انطلاق فعاليات النسخة الثالثة من مبادرة المنفذ «كل يوم حكاية- رمضان 2025»
  • السمدوني: اتفاقية تخريد وبناء السفن بميناء دمياط تسهم في زيادة التجارة البحرية
  • رياح قوية وأمواج عاتية تضرب 13 ولاية اليوم
  • السفن لازالت تستخدم هذه العبارة عند مرورها في البحر الاحمر
  • تفشٍ خطير للحصبة يضرب ولاية تكساس
  • جامعة حلوان الأهلية تعتزم تنفيذ 10 مشروعات من معرض حكاية مصرية
  • أسطول الظل.. آلية سرية لتهريب النفط وتجاوز العقوبات والرقابة الدولية