الخرطوم- بين نقص العلاج وارتفاع تكاليفه، ورحلة النزوح المستمرة من الخرطوم، كانت معاناة (م،ن) الذي لم تسفعه الحياة كثيرا بعد إصابته بمرض السرطان، ليفارق الحياة وهو يحاول أن يوفر تكاليف علاجه في مركز مروي، ويسد قيمة إيجار المنزل الذي نزح إليه في الولاية الشمالية.

هذه واحدة من قصص معاناة أصحاب الأمراض المزمنة في السودان، بعد خروج حوالي 70% من المستشفيات عن الخدمة.

ودقت منظمة الصحة العالمية ناقوس الخطر، معلنة أن النسبة المتبقية من المرافق الصحية قيد الخدمة تعمل بالحد الأدنى، وأن الإمدادات الطبية لا تلبي سوى 25% من الاحتياجات.

يبحث 95% من هؤلاء المرضى عن علاج، في حين توقفت 70% من المستشفيات بالسودان عن الخدمة (الجزيرة) معاناة مرضى السرطان

يصف مدير المراكز القومية لعلاج الأورام بالسودان دفع الله عمر أبو إدريس مأساة مرضى السرطان بالـ"منسية"، حيث لقي ما لا يقل عن 20% من مرضى السرطان حتفهم في منازلهم أو في المراكز، لعدم توفر العلاج أو صعوبة مغادرة بيوتهم.

وقال إن 80% من المرضى كانوا يتلقون العلاج في الخرطوم والجزيرة، لكن الولايتين أصبحتا خارج الخدمة بعد انتقال المعارك لهما، وأصبح هؤلاء المرضى هائمين على وجوههم، فمنهم من عبر الحدود إلى مصر طلبا للعلاج، ومنهم من نزح إلى ولايات آمنة، لكن هناك من لم يستطع حتى المغادرة ولا يزال موجودا داخل مناطق الحرب دون تلقي أي علاج، لعدم قدرته المالية أو صعوبة خروجه.

ويتم تسجيل 30 ألف حالة جديدة سنويا، يتابع أبو إدريس في حديثه للجزيرة نت، متوقعا أن يصل عدد الأشخاص الذين يترددون على المراكز إلى 80 ألف حالة.

وعن ظروف العلاج، قال إن السودان فقد 5 آلات للعلاج الإشعاعي كانتا في ولايتي الخرطوم ومدني، ولم يتبقَ إلا آلية واحدة في مروي شمالي السودان، وهي الوحيدة التي تعمل الآن، ومن ينجح بالوصول لن يتمكن من تلقي العلاج إلا بعد انتظار طويل قد يمتد لأشهر، بينما يحتاج السودان كدولة نامية إلى 42 آلية علاج، وفقا لمنظمة الصحة العالمية وتوصيات الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

وفيما يتعلق بالعلاج الكيميائي، قال دفع اللّه إنه تم افتتاح مراكز لتلقي الجرعات في عدد من ولايات السودان التي تحملت عبء المرضى النازحين من الأقاليم، ولكن سعتها الاستيعابية لا تتسع لكل هذه الأعداد.

وفي الوقت الحالي، يبحث 95% من هؤلاء المرضى عن علاج، ولا تفي منح العلاجات التي وصلت حاجة مركز واحد من هذه المراكز، ويقول أبو إدريس إنهم بحاجة لميزانية تقدر بـ125 مليون دولار، وفرت منها الحكومة 35 مليون دولار، "لذا نحتاج إلى 90 مليون دولار لتوفير علاجات مرضى السرطان".

يعاني مركز غسيل الكلى في بورتسودان من نقص في الماكينات والأدوية والمياه (الجزيرة) تكدس العيادات

ومع تزايد أعداد النازحين داخليا في السودان (يقدر عددهم بحوالي 10 ملايين نازح) رصدت الجزيرة نت تكدس المرضى في عيادات مدينة بورتسودان في ولاية البحر الأحمر شرقي السودان، والتي يزيد عدد النازحين فيها على 239 ألف شخص حسب مصفوفة تتبع النزوح.

وقال استشاري الباطنية شريف أبو فاطمة إن المعاناة تضاعفت بعد توافد النازحين لبورتسودان بسبب نقص في الإمداد الدوائي، حيث تضاعف عدد المرضى في العيادات، إلى جانب صعوبة حصولهم على العلاج، ومواجهة مشاكل سوء التخزين بسبب عدم استقرار التيار الكهربائي.

وأضاف في حديثه للجزيرة نت: "نواجه معاناة معقدة، من ناحية اقتصادية وصحية، وستظل قائمة إذا لم تكن هناك خطط واضحة لتصحيح الأوضاع".

وتصف المديرة العامة لمركز بورتسودان لعلاج الأورام اعتدال السيد صالح حال المركز بعد الحرب، وتقول إنه بات يستقبل مرضى من كل ولايات السودان، وبات المركز بحاجة إلى توسعة بسبب محدودية طاقته الاستيعابية، مشيرة إلى استقرار في العلاج الكيميائي عبر وزارة الصحة الاتحادية.

ولتوضيح الصورة، قالت المديرة إن العدد الكُلي لمرضى المركز منذ افتتاحه عام 2015 وحتى نهاية 2022 بلغ حوالي 2500 مريض، بينما بلغ عددهم منذ عام 2023 وحتى الآن 3500 مريض، كما أن المركز كان يستقبل حوالي 50 مريضا شهريا كحالة جديدة قبل الحرب، لكن بعدها تجاوزت نسبة الزيادة 100%.

بلغ عدد المرضى بمركز بوتسودان لأمراض وجراحة الكلي 321 مريضا (الجزيرة) معاناة مرضى الكلى

ومن داخل مركز بورتسودان لأمراض وجراحة الكلى، وقفت الجزيرة نت على معاناة المرضى الذين بلغ عددهم 321 مريضا، في وقت قالت فيه وزارة الصحة إن ما يزيد على 10 آلاف مريض كلى في السودان يحتاج إلى خدمات الغسيل.

ووفقا لإحصائية لوزارة الصحة السودانية عام 2023، فإن عدد مراكز الكلى والوحدات المتخصصة بالمستشفيات التي بقيت تعمل بعد 3 أشهر من الحرب وصلت إلى 23 من أصل 105 مراكز بالبلاد، بينما يوجد حوالي 4500 زارع كلى، ويحتاج المرضى إلى 70 ألف غسلة شهريا.

ويعاني مركز غسيل الكلى في بورتسودان من نقص في الماكينات والأدوية والمياه، وقال المدير الطبي للمركز أحمد سيد إن السعة الاستيعابية للمركز تتباين بين الزيادة والنقصان على حسب توفر الماكينات، حيث تعمل في المركز 31 ماكينة، منها 10 قديمة وأخرى تتعطل باستمرار.

وأضاف سيد في حديثه للجزيرة نت أن المركز واجه ضغطا منذ بداية العام، ويوجد حوالي 72 مريضا على قائمة الانتظار، توفي منهم 10 حتى الآن.

من جهته قال المهندس الطبي بمركز بورتسودان علي إبراهيم للجزيرة نت إن هناك نقصا في الإمدادات وقطع الغيار، وإن 7 ماكينات خرجت عن الخدمة، وبعضها متوقف لأكثر من عام.

وبينما يحاول مرضى الكلى في بورتسودان جمع التبرعات لسد النقص في العلاج، بمبادرة من جمعية مرضى الكُلى، قال المنسق الإعلامي للجمعية ببورتسودان موسى محمد للجزيرة نت إن هناك ندرة في عدد من الأدوية التي يتلقاها المرضى.

من جانبه كشف رئيس الجمعية حسن يوسف عن تقليص جلسات الغسيل من 3 جلسات إلى جلستين، بينما تتجاوز تكاليف العلاج الشهرية للمريض الواحد 103 دولارات، وأضاف في حديثه للجزيرة نت أن بعض المرضى يتوقفون عن تلقي العلاج لعجزهم المالي، كما توفي آخرون نتيجة تأخر المحاليل وعدم القدرة على تحمل تكاليف الغسيل الكلوي.

أمراض الجهاز الهضمي

وفي ظل نقص الرعاية الطبية في السودان نتيجة الحرب التي اندلعت منذ أكثر من عام، يكشف مدير المركز القومي لأمراض الجهاز الهضمي والكبد عبد المنعم الطيب للجزيرة نت عن معاناة مرضى الجهاز الهضمي، ويقول إن مرضى التليف والتهاب الكبد الفيروسي يعانون من عدم توفر أدويتهم وارتفاع تكلفتها، إلى جانب انعدام التطعيم من التهابات الكبد الفيروسي المنتشر في السودان.

وقال إن الفحوصات المخبرية للجهاز الهضمي أغلبها غير متوفرة، حيث يسعون مع الوزارة لتوفيرها، أما مرضى زارعي الكبد فيتوفر حوالي 50% إلى 60% من أدويتهم، في حين يعاني مرضى التهاب القولون الأمرّين نتيجة عدم توفر الدواء.

وتكفلت وزارة الصحة الاتحادية بحسب عبد المنعم بمجانية علاج مرضى اليرقان الانسدادي، الذي تتراوح تكلفته بين 309 و463 دولارا للمريض.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات مرضى السرطان فی السودان نقص فی

إقرأ أيضاً:

فلسطيني بين حربين.. ألم غزة ونزيف السودان

بورتسودان- شارك في السابق في حفر أنفاق بين رفح ومصر وودع والده وشقيقه شهداء في غزة قبل أن يخرج باتجاه السودان بحثا عن حياة جديدة، لم يكد يهنأ فيها مع زوجته السودانية وابنتيه حتى باغتته الحرب في الخرطوم ودفعته لخوض تجربة نزوح قاسية اكتملت فصولها القاتمة بتوالي أخبار العدوان الإسرائيلي القادمة من غزة وما تحمله في كل يوم من نبأ استشهاد فرد من العائلة أو تدمير منزل قريب أو استهداف صديق.

استقبلني حسن النجار بحفاوة في ورشته البسيطة بالمنطقة الصناعية، ولم أكد ألتقط أنفاسي في تلك الظهيرة من صيف بورتسودان الساخن حتى اندفع يسرد حكايته الممتدة بتشعبات وفواصل عن فلسطين وتاريخها والسودان وكرم أهله، من دون أن يخلو الأمر من إشادة بالجزائريين ومواقفهم بعد أن أخبرته عن جنسيتي.

كنت أحاول أن أقطع حديثه الممتد لأكثر من ساعة بحثا عن معلومة أو تدقيقا لتفصيل في كلامه من دون أن يؤثر ذلك على خيط السرد الممتد من خان يونس في غزة، مرورا بأنفاق رفح نحو مصر، ومنها إلى الخرطوم ومدني قبل أن يحط الرحال ببورتسودان منذ قرابة 6 أشهر.

أنفاق غزة

حسن الشاب الثلاثيني قادم من أسرة بسيطة في غزة يقول إنه اضطر إلى العمل في سن مبكرة من أجل إعالة أسرته بعد رحيل والده شهيدا عام 1998 تاركا له مسؤولية العناية بوالدته وأشقائه الـ11.

يذكر تلك الأيام بكثير من الاعتزاز رغم أنها كانت حبلى بالتجارب القاسية ويوميات الفقر والعوز التي كان يكد فيها من أجل قليل من القوت يسد به رمق عائلة وجدت لها مأوى في مبنى متهالك لا يقي كثيرا من حر الصيف ويحتضن بأسقف مفتوحة برد الشتاء ومطره.

حسن (يسار) يستعرض لصديقه السوداني أحد المقاطع المصورة للمقاومة الفلسطينية (الجزيرة))

يعود حسن بذاكرته للأيام التي كان يعمل خلالها في حفر أنفاق كانت سبيل الفلسطينيين نحو بضائع وسلع غابت عن أسواقهم بسبب الحصار الإسرائيلي الممتد من عام 2006.

ويضيف أنه ودع عددا من رفاقه الذين دفنوا تحت رمال تلك الورشات، ونجا هو من حوادث كادت أن تخطفه شابا من أهله، وأسهم في إنقاذ آخرين بعزم وإرادة يستغربها وهو يستعيد تفاصيلها اليوم.

لم تكن تلك الأعمال كافية لتوفير ما يضمن حياة كريمة له ولأسرته، فقرر خوض تجربة الغربة بحثا عن غد أفضل، فكانت الرحلة إلى السودان مرورا بمصر مستغلا الفترة التي كان التنقل فيها سلسا خلال فترة حكم الرئيس المصري الراحل محمد مرسي.

بين السودان وأهله

حدثني حسن بلسان سوداني مبين، سألته عن الأمر فرده إلى أيام يتلذذ باستعادة تفاصيلها حين نجح في الاستقرار بالخرطوم بداية من عام 2013 والحصول على عمل ضمن له دخلا محترما ساعده على تأمين حاجات أسرته في غزة والتكفل بزفاف شقيقه الأصغر، قبل أن يقرر "استكمال نصف دينه" من فتاة سودانية أنجب منها بنتين.

كانت الفترة الأسعد حين اكتمل حلمه بدعوة والدته إلى السودان، لتقضي معه أياما من شهر رمضان ولتتعرف على زوجته التي لم تلتق بها من قبل. ورغم معاناتها في رحلة العبور من غزة إلى الخرطوم، التي امتدت لأسبوعين كاملين، فإنه يفخر بأنه دللها وسهر على قضاء وقت ممتع معها بين ساحات الخرطوم ومتنزهاتها.

ولأن الحياة تأبى أن يظل وجهها الباسم ماثلا أمام حسن، انقلبت الأمور فجأة حين صحا في ذلك اليوم من منتصف أبريل/نيسان 2023 على أصوات الاشتباكات وصيحات الشباب في الحي "كتمت".

وحينما استفسرت عن معنى تلك الكلمة، ظل يبحث عن مرادف لها، ولم يفلح إلا بعد الاستعانة برفاق الجلسة من السودانيين الذين أجمعوا أن أقرب معنى لها هو أن الأمور انفلتت والحرب دقت ساعتها.

استغل فترة سؤالي وارتشف قليلا من الشاي قبل أن يستأنف حديثه عن المعضلة الكبرى التي واجهته في بداية الحرب، وهي كيف سينجو بوالدته ويعيدها إلى غزة، معضلة لم يجد لها حلا إلا لدى السفير الفلسطيني الذي احتفظ برقمه صدفة قبلها بأيام. استجاب السفير لطلب حسن وأشرف على نقل والدته رفقة عشرات الفلسطينيين إلى غزة مرورا بمصر.

من الخرطوم إلى بورتسودان

وبعد نحو أسبوعين قرر نقل أسرته الصغيرة نحو منطقة آمنه في العاصمة السودانية، وظل هو يتنقل بين مناطق مختلفة في الخرطوم ومدني وأم ضوا بان، بحثا عن فرصة لكسب مبلغ يسد به احتياجاته اليومية.

استمرت تلك الرحلة لنحو 6 أشهر قبل أن يصل إلى بورتسودان، ويفتتح ورشته الصغيرة لتنجيد مقاعد السيارات، ويستقدم لاحقا زوجته وبنتيه ليبدأ معهم مشوارا جديدا يتوق لأن يكون بألوان أقل قتامة مما سبق.

يتمنى حسن أن تضع الحرب أوزارها قريبا لأن السودانيين عانوا ما فيه الكفاية عبر تاريخهم، ولا يستحقون حربا جديدة تثخن يومياتهم بمآس جديدة.

وتظل الأمنية الكبرى بالنسبة له أن يحظى بالشهادة التي يوقن أنه سيحصل عليها في أرض غزة يوما ما.

قبل توديعه، شكرني أبو بيسان وهو يستعرض أمامي صور ابنته بابتسامتها الجميلة، مكررا عبارات العرفان، لأني فقط منحته فرصة البوح بشيء مما بداخله، لأغادر وأنا أتساءل من منا يستحق الشكر من الآخر، ومن الأولى بعبارات الإشادة والعرفان، بعد كل تلك التجارب.

مقالات مشابهة

  • الآلام الجسدية: أنواعها، أسبابها، وطرق علاجها
  • التغذية والصحة العامة: دور التغذية في الوقاية من الأمراض المزمنة وتأثير الأنظمة الغذائية على صحة القلب
  • الجزيرة ترصد معاناة اللاجئين السودانيين بمخيم أدري بسبب نقص الغذاء
  • نائبة تطالب بتدخل عاجل لحل أزمة نقص أدوية الأمراض المزمنة
  • حرارة قاتلة ومياه نادرة.. شهادات للجزيرة توثق معاناة النازحين بالسودان
  • الإجهاد يجعل أدوية السرطان غير فعالة.. دراسة توضح
  • أبرزها السكر والضغط.. تحركات برلمانية بشأن نقص أدوية الأمراض المزمنة بالصيدليات
  • محافظ أسيوط يتفقد سير العمل بمستشفى الرمد ويلتقي مرضى للاطمئنان على الخدمات
  • شراكة بين المختبر الوطني و«إمبريال».. خدمات وقائية وعلاجية للارتقاء بتجربة مرضى السكري
  • فلسطيني بين حربين.. ألم غزة ونزيف السودان