من الفلاسفة الذين تشدنى كتاباتهم وآراؤهم جان جاك روسو فيلسوف القرن الثامن عشر الشهير سواء فيما كتبه فى كتابه الشهير عن «العقد الاجتماعى» أو فى بحثه الأشهر «مقال عن الفنون والآداب» الذى كتبه قبل «العقد الاجتماعى» بعشرين عاما، وكم كان ملهما ورائعا حينما قال فى ذلك البحث بلغة فلسفية رائقة وشفافة تكشف عن رؤيته التنويرية المختلفة عن لغة معاصريه من فلاسفة عصر التنوير « انه لمنظر جليل وجميل أن ترى الانسان يرفع نفسه من العدم بجهده الخاص، ويبدد بنور عقله تلك الظلمات التى لفته بها الطبيعة، انه ليرفع نفسه فوق نفسه، وينفذ بروحه الى أطباق السماء وينطلق كالشمس بخطوات جبارة عبر الفضاء الشاسع للكون، وأما الامر الذى يبقى هو الأعظم وهو الأصعب فهو أن يعود الى نفسه ليدرس الانسان ويعرف طبيعته وواجباته وغايته»!
انه فى ختام هذا النص البديع يلمح الى اغتراب الانسان عن ذاته رغم التقدم العلمى والصناعى والتكنولوجى الهائل الذى الذى حققه منذ أن خلقه الله على الأرض، وهو يضيف اليه يوما بعد يوم انجازات جبارة جعلته يكاد يطال عنان السماء ويكتشف أسرار الكون الشاسع!، ان نفس الانسان الذى حقق كل هذا التقدم اغترب عن ذاته فى النهاية ولم يعد يعرف حقيقة ذاته وغايتها فى هذا الوجود وماذا عليه أن يفعل حتى يعود اليها من جديد ؟! وكم كان روسو صادقا فى ذلك وواعيا بأن هذا التقدم التكنولوجى والصناعى الذى يحققه الانسان سيقوده فى النهاية الى أن يخسر ذاته ويغترب عنها!
وبالفعل ها نحن وبعد أكثر من قرنين من الزمان نعيش عصرا طغت فيه الآلية والمادية على كل شيء ولم يعد ثمة قيمة للإنسان فى ذاته، عصرا مليئا بالتناقضات السافرة ؛ فنحن ندعو للعودة الى الطبيعة بغرض التقليل من الآثار والمخاطر البيئية المدمرة وفى ذات الوقت نواصل وندعم التقدم الصناعى وخاصة صناعات الأسلحة الفتاكة التى لا أعرف كم الذعر الذى كان سيتملك هذا الفيلسوف الانسان لو أنه سمع عنها !، وندعو الى الحب ونحلم بالرومانسية فى الوقت الذى انكشفت فيه العورات وذاعت العلاقات الجنسية الشائنة ولم يعد للحب قدسية ولم يعد للجسد حرمة ! وشاعت الجنسية المثلية بل وتم تقنينها وأبيح الزواج المثلى ! ويا لغرابة تعدى الانسان على الطبيعة وتكسيره لقوانينها التى يعرفها ويحترمها ويطيعها الحيوان بالغريزة، بينما يتمرد عليها الانسان العاقل بدعوى أنه «حر» وأن الشعور بالحرية أهم من احترام تلك التقاليد الأخلاقية المتخلفة البالية! وكم كان روسو صادقا أيضا وهو يصف انسان عصره وكأنه أيضا يصف انسان القرن الحادى والعشين حينما قال « ان الصداقة الخالصة، والتقدير الحق، والثقة الكاملة، قد انمحت من نفوس الناس، أما الغيرة والشك والخوف واللامبالاة والتكتم والخداع والكراهية فقد بقيت باستمرار متخفية تحت ذلك اللباس والحجاب الخادع للأدب الذى ندين به الى نور هذا العصر»!، إن روسو ينتقد معاصريه فى ذلك النوع من النفاق الاجتماعى الذى ساد عصره حيث كان يُظهر الناس من القيم النبيلة والخلق الرفيع مالا يؤمنون به فعلا، انه يتهمهم بالنفاق الاجتماعى حيث يظهرون عكس ما يبطنون ويقولون غير ما يفعلون!
لكن مازاد الطين بلة فى عصرنا الحالى أن الناس تجرأوا على القيم والمبادئ العليا لدرجة أنهم أصبحوا يتباهون بعكسها، وكلما ازدادت اخلاق المرء وضاعة وتدنيا كلما كان ذلك مثار الفخار والاعجاب !! لقد انقلب سلم القيم رأسا على عقب ـ ولم يعد هناك اهتمام يذكر من جانب البشر الا بكل ما يزيد من ثرائهم المادى أيا كانت الوسيلة !، الا بكل ما يشبع غرائزهم الحيوانية بصرف النظر عن العاطفة والجمال ! ولا عزاء للحب الصافى والعشق النبيل والإنسانية الحقة ! اننا فى عصر اغترب فيه الانسان عن ذاته وعن انسانيته وتناسى طبيعته الأصيلة! والسؤال هو : هل يمكن أن يكون هناك طريقا للعودة ؟!
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: نحو المستقبل عن ذاته ولم یعد
إقرأ أيضاً:
ذكريات من "السيرك"
لم أكن يوما ممن تستهويهم متعة مشاهدة عروض فقرات "الحيوانات المفترسة" فى السيرك، ولا أى عروض من هذا النوع، ولكن استهواني شغفي المهني فى بدايات رحلتى فى عالم الصحافة، لمعرفة كواليس عالم السيرك، فقررت الدخول من الأبواب الخلفية لهذا المبني المقام على كورنيش النيل بمنطقة العجوزة، والذى نشاهده جميعا فى الذهاب والإياب لمنطقة وسط البلد.
بدأت فى البحث عن رقم للتواصل مع مدربة الأسود الأشهر "محاسن الحلو" وقتها لم نكن نعرف الهاتف الجوال "الموبايل" وكنا كصحفيين نلهث وراء المصدر نطلبه فى المكتب فلا نجده، ثم نطلبه فى المنزل فلا يكون متواجدا أيضا، أو يكون الوقت غير مناسب، وهكذا نستمر فى رحلة التواصل تليفونيا مع المصدر لتحديد موعد للمقابلة، وفى ذلك الموضوع لى قصة شهيرة مع الدكتور أحمد عكاشة أستاذ الطب النفسي والعالم الكبير سأرويها فى مقام آخر.
من خلال الاتصال بدليل التليفونات كنا نحصل على أرقام المؤسسات، وكان هناك كتيب كبير فى معظم البيوت يضم أرقام كل من يملك خط تليفون فى منزله، طلبت رقم السيرك القومي بالعجوزة، ثم طلبت التحدث إلى السيدة محاسن الحلو وبعد محاولات عدة ومن خلال تحويل المكالمة من شخص لآخر، تمكنت من محادثة السيدة التى تجلس دائما بين أقفاص الأسود التى تتولى تدريبها، واتفقت معها على زيارتها لعمل موضوع صحفى عن كواليس عالم السيرك.
فى الموعد المحدد وكان صباحا اتفقت مع زميلى المصور وتوجهنا إلى هناك، وعندما وصلنا اصطحبنا أحد العمال إلى غرفة في الفناء الخلفي للسيرك كانت تجلس فيها المدربة على حافة سرير وتطعم أسدا صغيرا وضعته على رجلها، فلما لاحظت قلقنا من الدخول، قالت "تعالوا متخافوش دا أسد لسه صغير وأنا اللى مربياه" تحدثت معها قليلا ثم اصطحبتني لجولة بين أقفاص الحيوانات المفترسة، شرحت فيها طرق الترويض ومعاملة الحيوان وحتى علاجه وطريقة إطعامه والتى تتم تحت إشراف أطباء بيطريين.
ما زلت أتذكر بعض الروائح المنبعثة من مخلفات هذه الحيوانات المفترسة، وتساءلت وقتها عن المتعة التى يستشعرها المدرب وهو يتعامل فى وضع بهذه الخطورة، وما هو الترفيه الذى ينشده الجمهور فى مشاهدة هذه العروض؟ تذكرت كل ذلك وأنا أتابع الحادث الذى وقع منذ أيام من هجوم نمر والتهامه ذراع أحد مساعدي المدرب أثناء عرض للسيرك بمدينة طنطا، وهو الحادث الذى أحدث ردود فعل واسعة على المستويين الرسمي والشعبي، حيث أعلن محافظ الغربية خلال زيارته للمصاب، عن منحه دعما ماليا فوريا ووظيفة جديدة وتوفير أفضل رعاية طبية بالتنسيق مع جامعة طنطا.
وطالب أعضاء بمجلس النواب بضرورة حظر استخدام الحيوانات المفترسة فى فقرات السيرك، وتفعيل قانون حيازة الحيوانات الخطرة الذى وافق عليه مجلس النواب قبل عامين تقريبا.
الحيوانات ملك شخصي للمدربين، والسيرك الذي أقيم في طنطا لشركة خاصة حصلت على تصريح بعد استيفاء الاشتراطات اللازمة، هذا ما أكده مدير السيرك القومي فى تصريحات صحفية، أن اشتراطات الأمان الموجودة فى السيرك القومي لم تتوافر فى هذا السيرك الذى تم نصبه بينما أسياخ القفص واسعة وسمحت بالتهام النمر لذراع العامل، الذى يتقاضى مكافأة يومية لا تزيد على مائتي جنيه، كما أفتقد المكان لمعظم وسائل الأمان، وترك الأمر للاجتهاد الشخصي ولنا فيما حدث خير شاهد.
ليتنا نمنع فقرات عروض الحيوانات المفترسة حتى لا نصدم كل فترة بحادث مفجع جديد.