بوابة الوفد:
2024-11-23@16:20:47 GMT

إنسان العصر المغترب عن ذاته

تاريخ النشر: 5th, July 2024 GMT

من الفلاسفة الذين تشدنى كتاباتهم وآراؤهم  جان جاك روسو فيلسوف القرن الثامن عشر الشهير سواء فيما كتبه فى كتابه الشهير عن «العقد الاجتماعى» أو فى بحثه الأشهر «مقال عن الفنون والآداب» الذى كتبه قبل «العقد الاجتماعى» بعشرين عاما، وكم كان ملهما ورائعا حينما قال فى ذلك البحث بلغة فلسفية رائقة وشفافة تكشف عن رؤيته التنويرية المختلفة عن لغة معاصريه من فلاسفة عصر التنوير « انه لمنظر جليل وجميل أن ترى الانسان يرفع نفسه من العدم بجهده الخاص، ويبدد بنور عقله تلك الظلمات التى لفته بها الطبيعة، انه ليرفع نفسه فوق نفسه، وينفذ بروحه الى أطباق السماء وينطلق كالشمس بخطوات جبارة عبر الفضاء الشاسع للكون، وأما الامر الذى يبقى هو الأعظم وهو الأصعب فهو أن يعود الى نفسه ليدرس الانسان ويعرف طبيعته وواجباته وغايته»!
انه فى ختام هذا النص البديع يلمح الى اغتراب الانسان عن ذاته رغم التقدم العلمى والصناعى والتكنولوجى الهائل الذى الذى حققه منذ أن خلقه الله على الأرض، وهو يضيف اليه يوما بعد يوم انجازات جبارة جعلته يكاد يطال عنان السماء ويكتشف أسرار الكون الشاسع!، ان نفس الانسان الذى حقق كل هذا التقدم اغترب عن ذاته فى النهاية ولم يعد يعرف حقيقة ذاته وغايتها فى هذا الوجود  وماذا عليه أن يفعل حتى يعود اليها من جديد ؟! وكم كان روسو صادقا فى ذلك وواعيا بأن هذا التقدم التكنولوجى والصناعى الذى يحققه الانسان سيقوده فى النهاية الى أن يخسر ذاته ويغترب عنها! 
وبالفعل ها نحن وبعد أكثر من قرنين من الزمان نعيش عصرا طغت فيه الآلية والمادية على كل شيء ولم يعد ثمة قيمة للإنسان فى ذاته، عصرا مليئا بالتناقضات السافرة ؛ فنحن ندعو للعودة الى الطبيعة بغرض التقليل من الآثار والمخاطر البيئية المدمرة  وفى ذات الوقت نواصل وندعم التقدم الصناعى وخاصة صناعات الأسلحة الفتاكة التى لا أعرف كم الذعر الذى كان سيتملك هذا الفيلسوف الانسان لو أنه سمع عنها !، وندعو الى الحب ونحلم بالرومانسية فى الوقت الذى انكشفت فيه العورات وذاعت العلاقات الجنسية الشائنة ولم يعد للحب قدسية ولم يعد للجسد حرمة ! وشاعت الجنسية المثلية بل وتم تقنينها وأبيح الزواج المثلى ! ويا لغرابة تعدى الانسان على الطبيعة وتكسيره لقوانينها التى يعرفها ويحترمها ويطيعها الحيوان بالغريزة، بينما يتمرد عليها الانسان العاقل بدعوى أنه «حر» وأن الشعور بالحرية أهم من احترام تلك التقاليد الأخلاقية المتخلفة  البالية! وكم كان روسو صادقا أيضا وهو يصف انسان عصره وكأنه أيضا يصف انسان القرن الحادى والعشين حينما قال « ان الصداقة الخالصة، والتقدير الحق، والثقة الكاملة، قد انمحت من نفوس الناس، أما الغيرة والشك والخوف واللامبالاة والتكتم والخداع والكراهية فقد بقيت باستمرار متخفية تحت ذلك اللباس والحجاب الخادع للأدب الذى ندين به الى نور هذا العصر»!، إن روسو ينتقد معاصريه فى ذلك النوع من النفاق الاجتماعى الذى ساد عصره حيث كان يُظهر الناس من القيم النبيلة والخلق الرفيع مالا يؤمنون به  فعلا، انه يتهمهم بالنفاق الاجتماعى  حيث يظهرون عكس ما يبطنون ويقولون غير ما يفعلون! 
لكن مازاد الطين بلة فى عصرنا الحالى أن الناس تجرأوا على القيم والمبادئ العليا لدرجة أنهم أصبحوا يتباهون بعكسها، وكلما ازدادت اخلاق المرء وضاعة وتدنيا كلما كان ذلك مثار الفخار والاعجاب !! لقد انقلب سلم القيم رأسا على عقب ـ ولم يعد هناك اهتمام يذكر من جانب البشر الا بكل ما يزيد من ثرائهم المادى أيا كانت الوسيلة !، الا بكل ما يشبع غرائزهم الحيوانية بصرف النظر عن العاطفة والجمال ! ولا عزاء للحب الصافى والعشق النبيل والإنسانية الحقة ! اننا فى عصر اغترب فيه الانسان عن ذاته وعن انسانيته وتناسى طبيعته الأصيلة! والسؤال هو : هل يمكن أن يكون هناك طريقا للعودة ؟!

.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: نحو المستقبل عن ذاته ولم یعد

إقرأ أيضاً:

«جمال الغيطانى»

جميعنا سيطوينا النسيان، لا أحد يفلت من سطوة الزمن، ستتلاشى الذكريات، الأحاديث الحميمة، خطواتنا المتكررة أمام عتبات البيوت والسعى اليومى بين الشوارع والأمكنة، جلساتنا المبهجة على المقاهى ووسط الأحباب، الناجى الوحيد من محرقة دقائق العمر وساعاته هو الكاتب والمصور والرسام، هؤلاء يقومون بتسجّيل مضمون اللحظة التى تفنى عبر الكتابة والصورة الفوتوغرافية واللوحة الفنية، فستبقى رواية «قصة مدينتين» لتشارلز ديكنيز عن الثورة الفرنسية، وآلاف الصور الفوتوغرافية عن المجازر الإسرائيلية فى المخيمات الفلسطينية، ولوحة «جرنيكا» للرسام الأشهر فى القرن العشرين «بيكاسو» عن الحرب الأهلية الأسبانية.. حاضرة بكل عنفوانها صالحة للتفكيك من أجل الفهم والتأمل لكل جيل.
يدخل الروائى الكبير «جمال الغيطانى» فى المتاهة الزمنية مع هؤلاء السابق ذكرهم وغيرهم، كحكاء وصانع للسجاد وعاشق للمعمار وصوفى تغشاه التجليات، والغريب والعجيب من السرد فيسجلها بمداد القلم على الورق ممسكاً باللحظة حتى لا تتسرب منه.
لذلك كل الشكر والامتنان للقائمين على مؤتمر أدباء مصر فى دورته السادسة والثلاثين والتى ستنطلق يوم الأحد القادم فى محافظة المنيا، على تقديم الروائى الكبير الراحل «جمال الغيطانى» شخصية المؤتمر، بعد مرور تسع سنوات على غيابه جسدياً فى عام 2015.
كما أدعو إدارة المؤتمر أن تعيد تقديم ومناقشة ماقامت بنشره صحيفة «أخبار الأدب» فى الذكرى السابعة لرحيل مؤسسها الكاتب والروائى «جمال الغيطانى»، حيث قدمت فصلا من كتاب «المقريزى: وجدان التاريخ المصرى» الذى كان سيصدر فى ذلك الوقت للدكتور ناصر الربّاط أستاذ كرسى الآغا خان ل العمارة الإسلامية فى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا «MIT». وفيه يرصد التأثيرات التى دخلت على كتابة الغيطانى جراء تعمقه فى استلهام وتحليل كتابات المؤرخ البارز تقى الدين المقريزى، وكيف قام بتوسيع وتعزيز وإعادة تخيل الواقع الاجتماعى للقاهرة عبر السرد الخيالى.
شكل تقى الدين المقريزى، مؤرخ مصر الأهم، مصدر إلهام بالنسبة لجيل أدباء وشعراء ما بعد هزيمة ١٩٦٧. وأصبح بفضل تحليله التاريخى العميق ونفسه الوطنى العارم والمبثوث فى تضاعيف كتبه، وبخاصة كتابه الأهم، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، نموذجًا للوطنية الحقة ودليلًا هادياً للبحث المؤلم عن الهوية ومثلًا عن مقاومة الفساد والقمع عن طريق الكلمة الجريئة والحس الأخلاقى الذى لا يساوم. 
وقد امتد تأثيره إلى عدة أنواع أدبية تتراوح بين الرواية التاريخية والسيرة الذاتية الخيالية إلى السفر عبر الزمن والإرهاصات الشعرية الجريئة.. 
ولج المقريزى المجال القصصى والروائى على يد روائيين كبار على رأسهم المرحوم جمال الغيطانى الذى ولد فى قرية جهينة من صعيد مصر لكنه نشأ فى حى الجمالية القاهرى الذى خلدته ثلاثية معلمه نجيب محفوظ. لم يغادر الغيطانى فضاءات المدينة القديمة حتى عندما انتقل إلى الجزء الحديث من القاهرة. ظلت لديه أماكنه المفضلة فى قاهرة الفاطميين والمماليك- الأزقة والمنازل التاريخية والمقاهى، التى عاد إليها مرارًا وتكرارًا. أثرت هذه الأماكن، وعبق تاريخها، على كتابات الغيطانى الإبداعية بعمق، وتحول بعضها إلى إشارات مفعمة بالرسائل الانتمائية والحضرية والمعمارية الخالصة استخدمها الغيطانى لتأطير الكثير من رواياته فى المكان والزمان. علاوة على ذلك، لجأ الغيطانى، ربما كمظهر من رد فعل جيله على صدمة هزيمة ١٩٦٧ وتعثر مشروع النهضة والتحديث قبلها وبعدها، إلى التقاليد الأدبية العربية الكلاسيكية والتراث الصوفى. فهو، بجانب الإلهام التاريخى، كان يبحث بشغف عن نماذج من أساليب الكتابة الصوفية الإشراقية التى كان يمكن له أن يتبناها والتى سيزداد تأثيرها على أسلوبه فى التعبير والكتابة لاحقًا. كان الغيطانى، على حد تعبير المترجم الشهير همفرى ديفيز الذى ترجم نصوصًا لكل من محفوظ والغيطانى، رائدًا فى ابتكار «نوع من الواقعية السحرية ولكن من الطراز المصرى المكثف، له جذور فى تاريخ الأدب العربى ولكن أيضًا فى مجالات التصوف والغيبيات وما شابهها». كان نوع الخطط، بتركيزه الشديد على مصر، أحد الأشكال الأدبية التاريخية الرئيسية التى جذبت الغيطانى. وهى قد أثرت على مشروعه الروائى على مستويين: كدليل هادٍ لتاريخ وجغرافيا المدينة التى تؤطر بنية العديد من رواياته، وكأساليب نصية أصيلة تصلح للكلام عن الأماكن والمبانى التى احتلت حيزًا مهمًا فى سرد الغيطانى.
وأخيراً يقول عنه الناقد الأدبى الدكتور حسين حمودة: «لا يزال الغيطانى حاضرا معنا، فقد راهن دوما على أن يدفع سطوة النسيان، وهو درس الخلود الذى استقاه من أجداده الفراعنة.

مقالات مشابهة

  • كاف بلا نون!
  • محمد رحيم|أسباب توقف مراسم الجنازة وعلاقتها بملابسات الوفاة (خاص)
  • تأجيل جنازة الملحن محمد رحيم للمرة الثانية
  • بشرى تنعى الملحن محمد رحيم: "وداعًا أحد أهم ملحني مصر في العصر الحديث"
  • كاتب صحفي: بناء الإنسان المصري محور أساسي في الجهود الحالية للدولة
  • أرفع معكرونة سباغيتي في العالم.. أرق من شعرة إنسان بـ200 مرة
  • «جمال الغيطانى»
  • مواقيت الصلاة اليوم الخميس 21 نوفمبر 2024
  • روايتان عن اليمن في العصر العثماني
  • إنسان تحتفي بحصولها على جوائز في منتدى تجربة العميل