رائد سلامة يكتب: توصيات الحوار الوطني حلول جاهزة أمام الحكومة
تاريخ النشر: 5th, July 2024 GMT
لقد كانت تجربتنا فى الحوار الوطنى تجربة بالغة الثراء وفى غاية الأهمية، فقد كانت بمثابة الملتقى لأبناء الوطن المختلفين فكرياً وسياسياً فتوافرت لهم أرضية للحوار والنقاش فى قضايا محددة دون غرض وبلا أى مقابل أو هدف سوى صالح الوطن والمواطنين من خلال طرح حلول للمشكلات التى تعانيها مصر بالمحاور الثلاثة: السياسى والاقتصادى والاجتماعى بطرق غير تقليدية تسعى للتوافق لا للمغالبة.
ولقد نتج عن المرحلة الأولى من تجربة الحوار الوطنى حزمة من التوصيات شهدت توافقاً ملموساً سواء بالجلسات العامة أو بالجلسات التخصصية.
حين أحال السيد رئيس الجمهورية توصيات الجولة الأولى إلى الحكومة السابقة، فقد قامت الحكومة بإعداد جدول زمنى لتنفيذ تلك التوصيات، وتم تشكيل لجنة مشتركة من الحكومة ومن أمناء الحوار الوطنى للتنسيق والاتفاق ومتابعة التنفيذ حسب ذلك الجدول.
يتعين هنا أن نشير إلى أن رئيس الحكومة السابقة هو نفسه رئيس الحكومة الحالية، وبالتالى فهو لن يبدأ من الصفر فى الملفات المختلفة حيث يتوافر لديه إلمام بتلك الملفات وجدول زمنى ألزم حكومته السابقة به.
من المهم أيضاً أن نشير إلى أن تعيين المستشار محمود فوزى، الرئيس السابق للأمانة الفنية للحوار الوطنى، وزيراً للمجالس النيابية من شأنه، بالإضافة إلى اضطلاعه بمهام وزارته، أن يساعد رئيس الوزراء ونوابه والوزراء فى إتمام خطط الحقائب التى يتولونها بصورة تتيح تيسير تدفق المعلومات والأفكار التى نتجت عن الحوار الوطنى.
فى المحور السياسى، فمن أهم الملفات على طاولة الحكومة الجديدة، هو ملف مكافحة التمييز تفعيلاً لأحكام المادة 53 من الدستور، وقد تقدمت للأمانة الفنية بمسودة قانون لتعريف وتجريم التمييز وإنشاء المفوضية المستقلة لمكافحته فى أولى جلسات المحور السياسى بالحوار الوطنى والتى شهدت توافقاً غير مسبوق.
ويعتبر هذا القانون بمثابة التطبيق الفعلى للمسارات الثلاثة التى وردت بالاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان من زوايا التطوير التشريعى والتطوير المؤسسى والتثقيف وبناء القدرات، بالإضافة إلى كونه مؤشراً مُطَمئِناً على اهتمام الدولة المصرية بمفاهيم المواطنة والمساواة.سنجد أيضاً فى هذا المحور ملفات أخرى ذات أهمية قصوى، مثل ملف تعديلات قانون الانتخاب وقد صارت الانتخابات البرلمانية على الأبواب، وكذا قانون الحبس الاحتياطى بالإضافة إلى أهمية إحراز مزيد من التقدم فى ملف سجناء الرأى على غرار ما حدث بالجولة الأولى من الحوار.
فى المحور الاقتصادى، وهو المحور الذى يضم قضايا تشكل تحديات حقيقية أمام أى صانع قرار ينبغى معها النظر فى حزمة متكاملة من الحلول التى يؤثر بعضها على بعض، فلا يمكن الفصل بين حلول كبح جماح التضخم وبين حلول العجز فى الموازنة والدين العام وبين حلول التنمية المستدامة والاستثمار الأجنبى.
كنا فى الحوار الوطنى قد اقترحنا تعيين نائب رئيس وزراء للشئون الاقتصادية أو على الأقل تعيين وزير للاقتصاد يلعب دور منسق السياسات المالية والنقدية والاقتصادية والترتيب بين الوزارات المعنية، كما كنت قد تقدمت شخصياً باقتراح لإنشاء المجلس الاقتصادى والاجتماعى والبيئى وهو مجلس استشارى يتبع السيد رئيس الجمهورية بشكل مباشر تحقيقاً لأهداف التنمية المستدامة (وثيقة تغيير عالمنا) التى اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 2015 ولضمان تنسيق السياسات المالية والنقدية والاقتصادية وما يرتبط منها بعدالة توزيع الدخل والاهتمام ببيئة الأعمال النظيفة ومحو آثار سوء المناخ. وقد أدرجنا هذا الاقتراح بالتوصيات النهائية للمرحلة الأولى الأمر الذى يستوجب من الحكومة دراسته.
فى المحور الاقتصادى أيضاً، تقدمنا بلجنة التضخم التى أشرُف بكونى مقرراً مساعداً لها، فى ضوء إقرار جميع القوى السياسية والاجتماعية بلا استثناء أن مشكلة التضخم راجعة بالأساس إلى العرض لا الطلب، بحلول تتعلق بالسياسات النقدية والمالية وكذا بمبادرات تشمل رفع الحد الأقصى للإعفاء الضريبى وزيادة الرواتب والمعاشات وتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية وزيادة الرقابة على الأسواق، مع الاهتمام بالاقتصاد الحقيقى وزيادة المنافسة.
من ناحية أخرى، قدمنا حلولاً غير تقليدية لمشكلات المالية العامة والعجز والديون بشكل لا يؤثر على تصنيف مصر الائتمانى ويساعد فى نفس الوقت على تخفيض الأعباء العامة.
تقدمنا كذلك بمبادرات متنوعة لتطوير الصناعة وتحديث الزراعة وإحداث نقلة نوعية فى السياحة كأهم مصدر من مصادر الدخل. حظيت صناعات صديقة للبيئة على رأسها صناعة السيارات الكهربائية بنقاشات جادة حيث تتوافر أمام مصر فرص هائلة لاستثمار العلاقات المتميزة مع بعض التجمعات كالبريكس ومنظمة دول شنغهاى والاتحاد الأوروبى لتحقيق الاستخدام الأمثل لطاقات مصر الطبيعية والبشرية والفنية، تقدمنا كذلك بتوصيات تتعلق بتطوير مناخ الاستثمار وتشجيع المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر من خلال تمويل غير تقليدى لا يلقى بأعباء سداد أصل ديون أو فوائد على عاتق أصحاب مشروعات ذات أحجام ضئيلة ولا خبرة إدارية لديهم من خلال تقديم تمويل مُحَوكَم ومنضبط ولتشجيع ضم الاقتصاد غير الرسمى.
كل هذه توصيات يمكن أن تكون بمثابة برنامج عمل تتبناه الحكومة، وأتمنى أن يبادر رئيس الحكومة بدعوة مقررى لجان الحوار الوطنى للقاءات فنية مباشرة متعمقة مع كل وزير للاستماع والنقاش ومزيد من مرونة الحوار.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: الحوار الوطني جلسات الحوار الوطني الحوار الاقتصادي الحوار الوطنى
إقرأ أيضاً:
محمد بشاري يكتب: بناء الوعي الوطني.. الركائز والتحديات وآفاق المستقبل
يُعتبر الوعي الوطني العمود الفقري لأي مجتمع يسعى للحفاظ على هويته وتعزيز استقراره، إذ يمثل الإدراك العميق للفرد بانتمائه لوطنه واستيعابه لمسؤولياته وحقوقه في إطار هذه الهوية. في ظل التغيرات العالمية المتسارعة والتحديات المتزايدة التي تواجه الدول، بات تعزيز الوعي الوطني ضرورة ملحة لضمان تماسك المجتمعات وقدرتها على مواجهة التحديات الفكرية والاجتماعية والسياسية. الوعي الوطني ليس مجرد شعور عاطفي أو انتماء رمزي، بل هو منظومة معرفية وسلوكية تشمل إدراك التاريخ، والتفاعل مع الحاضر، والمساهمة في صياغة المستقبل.
يتشكل الوعي الوطني من خلال عدة أبعاد مترابطة، أهمها البعد التاريخي الذي يرسخ فهم تطور الأمة ومساراتها، والبعد الثقافي الذي يعزز القيم الوطنية واللغة والتراث، والبعد السياسي الذي يؤطر مفهوم المواطنة والمسؤوليات، إضافة إلى البعدين الاقتصادي والاجتماعي اللذين يعكسان دور الأفراد في بناء الدولة وتنميتها. هذه الأبعاد مجتمعة تشكل أساسًا قويًا لولاء الفرد لوطنه، وتجعله جزءًا فاعلًا في مجتمعه وليس مجرد متلقٍ سلبي للواقع.
تُعد المؤسسات التعليمية والإعلامية والدينية والاجتماعية أدوات رئيسية في ترسيخ الوعي الوطني وتعزيزه. فالتعليم، على سبيل المثال، يلعب دورًا جوهريًا في تنشئة الأجيال على قيم الانتماء والمسؤولية، ليس فقط من خلال المناهج الدراسية التي تتناول التاريخ والثقافة الوطنية، بل أيضًا عبر الأنشطة اللامنهجية التي تربط الطلاب ببيئتهم ومجتمعهم. الإعلام بدوره، سواء كان تقليديًا أو رقميًا، يُمثل ساحة مؤثرة في تشكيل آراء الناس ومواقفهم تجاه قضاياهم الوطنية، فإما أن يكون عنصرًا بنّاءً يعزز الوحدة والانتماء، أو يصبح أداة تضليل وتفكيك حين يُستغل لنشر الشائعات وبث الفُرقة. المؤسسات الدينية كذلك تؤدي دورًا محوريًا في دعم الهوية الوطنية، حيث يساهم الخطاب الديني الوسطي في تعزيز روح التسامح والتعايش، بينما يُشكّل التوظيف السياسي للدين خطرًا يهدد استقرار المجتمعات. أما الأسرة والمجتمع المدني، فلهما دور تكميلي في نقل القيم الوطنية وتعزيز الانتماء عبر التربية والتوجيه والمشاركة في المبادرات المجتمعية.
لكن رغم أهمية هذه الركائز، يواجه بناء الوعي الوطني تحديات كبيرة، أبرزها تأثير العولمة وما تفرضه من أنماط ثقافية قد تؤدي إلى تآكل الهويات الوطنية، خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت الأفراد عرضة لأفكار واتجاهات متنوعة، بعضها قد يتعارض مع الهوية والقيم الوطنية. إضافة إلى ذلك، يُمثّل التطرف الفكري خطرًا حقيقيًا على المجتمعات، سواء كان تطرفًا دينيًا يسعى إلى تهميش مفهوم الدولة لصالح أيديولوجيات دينية متشددة، أو تطرفًا علمانيًا يستهين بالقيم الدينية والموروث الثقافي للأمة. كلا النموذجين يُضعفان التماسك الاجتماعي، ويُعززان حالة الاستقطاب داخل المجتمع.
ضعف المحتوى الإعلامي الوطني يمثل تحديًا آخر، حيث إن كثيرًا من الدول تعاني من غياب خطاب إعلامي وطني قوي يعزز الوعي الوطني، ما يجعل الشباب أكثر انجذابًا إلى وسائل إعلام أجنبية أو محلية ذات توجهات خاصة، تُقدّم صورة مشوهة عن قضاياهم الوطنية. كما أن الأنظمة التعليمية في بعض الدول العربية لا تزال تعاني من نقص في المحتوى الذي يعزز القيم الوطنية بشكل متوازن، إما بسبب تقديم تاريخ مشوه، أو ضعف المناهج التي تركز على الهوية الوطنية.
لمواجهة هذه التحديات، من الضروري تبني استراتيجيات شاملة تهدف إلى إعادة بناء الوعي الوطني على أسس متينة. يتطلب ذلك تحديث المناهج التعليمية بحيث تركز على تعزيز الفهم العميق للتاريخ الوطني، وتنمية روح المواطنة الإيجابية، وليس مجرد حفظ الحقائق التاريخية. كما يجب تطوير المحتوى الإعلامي ليكون أكثر جذبًا وتأثيرًا، مع تعزيز دور الإعلام الوطني في نشر الوعي، ومكافحة التضليل الإعلامي الذي يهدف إلى تشويه الحقائق وإثارة الفتن.
دعم المبادرات الشبابية يُعد أحد الحلول الفعالة لتعزيز الشعور بالانتماء، حيث إن إشراك الشباب في العمل التطوعي والمشاريع الوطنية يُشعرهم بأنهم جزء من عملية بناء الدولة، وليس مجرد متفرجين على الأحداث. كذلك، لا بد من مواجهة الفكر المتطرف من خلال نشر خطاب ديني معتدل يربط الدين بالقيم الوطنية، ويدعم مفهوم الدولة بعيدًا عن التفسيرات الضيقة التي تروج لها بعض الجماعات ذات الأجندات السياسية.
الثقافة والفنون تلعبان دورًا مهمًا في هذا السياق، إذ يمكن استثمار الإنتاج السينمائي والمسرحي والأدبي في تعزيز الهوية الوطنية، وتسليط الضوء على الإنجازات التاريخية والنماذج الوطنية التي تلهم الأجيال الجديدة. كذلك، تشجيع المهرجانات الثقافية والفنية التي تحتفي بالتراث الوطني يُسهم في ربط الأفراد بتاريخهم وهويتهم.
بناء الوعي الوطني ليس مجرد خطاب يُلقى في المناسبات الرسمية، بل هو عملية مستمرة تتطلب تكاتف الجهود بين مختلف المؤسسات والمجتمع بأسره. الدولة مسؤولة عن توفير البيئة التي تتيح للأفراد الشعور بالانتماء والكرامة والعدالة، بينما يقع على عاتق المواطنين واجب المشاركة الإيجابية في تنمية وطنهم، والحفاظ على وحدته واستقراره. الوطنية ليست مجرد شعارات تُرفع في المناسبات، بل هي التزام يومي يُترجم في سلوك الأفراد وحرصهم على خدمة مجتمعهم، واحترامهم لقيمهم الوطنية، واستعدادهم للدفاع عن وطنهم في مواجهة كل التحديات.