في الأشهر التسعة المنصرمة، شنت السلطات الوطنية والمحلية في الولايات المتحدة حملة شرسة لقمع النشاط الفلسطيني وتجريم أي تعبير عن الهوية الفلسطينية. امتدّت هذه الحملة القمعية لتطال شتى مناحي الحياة، من السياسة والأعمال إلى المجتمع المدني والتعليم العالي والثقافة.

تجلت هذه الحملة في صور شتى: قمع الاحتجاجات السلمية بيد قوات الأمن، وتوجيه اتهامات جزافية بمعاداة السامية للمتظاهرين، بل بلغ الأمر حد وصف بعض الشخصيات العامة – بسخرية مريرة – ارتداء الكوفية الفلسطينية واستخدام مصطلح "الانتفاضة" بأنهما إيماءة إلى "محو إسرائيل من الخريطة".

إن هذا السعي المحموم لطمس الهوية الفلسطينية يكشف عن رغبة إسرائيل وحلفائها الأميركيين في محو الفلسطينيين من صفحات التاريخ. فبينما يتصدى الفلسطينيون للهجمة العنصرية الأميركية الإسرائيلية، فإنهم يفرضون في الوقت ذاته نقاشًا جادًا حول الجذور التاريخية والفلسفة الاستعمارية الاستيطانية لإسرائيل والحركة الصهيونية التي أنجبتها. إن إسرائيل والصهيونية تتهاويان أمام هذا التدقيق المنهجي في أسسهما وممارساتهما.

لعل أبرز محاولات إسكات الصوت الفلسطيني، تجلت في قضية ربيع إغبارية، المحامي الفلسطيني والباحث القانوني المرموق. ففي نوفمبر/تشرين الثاني، أقدمت مجلة هارفارد لو ريفيو (Harvard Law Review) على خطوة غير مسبوقة بحجب مقال كُلف به إغبارية، قدم فيه النكبة كإطار قانوني لفهم القضية الفلسطينية. أُزيل المقال بعد أن مرّ بمراحل التحرير والتدقيق والموافقة من هيئة تحرير المجلة.

لم تقف المحاولات عند هذا الحد، فبعد هذه الحادثة، تواصل محررو مجلة كولومبيا لو ريفيو (Columbia Law Review) مع إغبارية؛ لتكليفه بكتابة مقال آخر حول فلسطين. وبعد خمسة أشهر من العمل الدؤوب والتحرير المكثف، نشرت المجلة المقال بعنوان "نحو النكبة كمفهوم قانوني". بيد أن ردود الفعل العنيفة لم تتأخر، إذ أُغلق الموقع الإلكتروني للمجلة، وتعرض المحررون لضغوط هائلة لحذف النص، بل وصل الأمر إلى حد التهديد بوقف كل أعمال المجلة.

إن مصير كتابات إغبارية في اثنتين من أعرق المجلات القانونية في الولايات المتحدة، يجسد بجلاء الصراع المحتدم بين من يسعون لتكريس الرواية الإسرائيلية، ومن يصرّون على إسماع صوت الحقيقة الفلسطينية.

عندما استُفسر من إغبارية عن جوهر قضيته، تحدّث بعمق عن الأبعاد الاستعمارية لنشأة إسرائيل، والنكبة، والنضال المستمر من أجل الحقوق الفلسطينية قائلًا: "إن محو الوجود الفلسطيني ليس مجرد حدث عابر، بل هو واقع بنيوي ومادي لا يمكن تصوره. إنه مسلسل مستمر منذ النكبة، يتجلى في تهجيرنا وطردنا واستبدالنا بشكل ممنهج. ويمتد هذا المحو ليشمل تكميم أفواه الفلسطينيين في الولايات المتحدة والغرب، واستبعاد أي رأي مخالف. إن مقالتي تسعى لتفكيك الهياكل القانونية المنبثقة عن النكبة، والتي تنظر إلى الفلسطينيين كفئات متفرقة يتم إخضاعها بشكل منفصل".

وأضاف إغبارية بنبرة تفيض أملًا: "إن محاولات الرقابة والقمع تُواجَه بموجة من الاحتجاجات والمقاومة. فالقضايا القانونية، والاحتجاجات الشعبية، وغيرهما من الإجراءات المتخذة لحماية الفلسطينيين في وجه المذبحة غير المسبوقة التي نشهدها، هي جزء لا يتجزأ من الحركة المتنامية للدفاع عن حقوقنا. إن الناس باتوا يدركون، بشكل متزايد، زيف الدعاية المضادة. لقد كشف النضال الفلسطيني عن التسلسل الهرمي الاستعماري العالمي في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي تجذر في النظام القانوني العالمي".

يشير عبد الله فياض، الذي انتقل مؤخرًا من هيئة تحرير بوسطن غلوب (Boston Globe) إلى فوكس (Vox) كمراسل سياسي، إلى أن الأدوات المتعددة المستخدمة لتكميم أفواه الفلسطينيين في الولايات المتحدة وخارجها يجب أن توصف بمسماها الحقيقي: "العنصرية المناهضة للفلسطينيين".

ويضيف فياض: "إنها، شأنها شأن كافة أشكال العنصرية، تستغل قوة المؤسسات والدولة ضد الأفراد والجماعات، بهدف قمع التعبير الفلسطيني عن هويتهم وحقوقهم. بيد أن هذه الكراهية الموجهة ضد الفلسطينيين وحلفائهم محكوم عليها بالزوال في نهاية المطاف. فالرأي العام بدأ يستشف الحقيقة، في الوقت الذي يواصل فيه الفلسطينيون وأنصارهم مقاومة الاتهامات الباطلة والمغرضة".

أبرز فياض في مقال نُشر حديثًا أن هذه الظاهرة سبقت الحرب على غزة بزمن طويل، إذ واجه الفلسطينيون ومناصروهم في شتى أنحاء المعمورة على مدى عقود متتالية عواقب وخيمة لتأييدهم القضية الفلسطينية العادلة، ومن ذلك الانتقام في مواطن العمل، والمراقبة الحكومية الصارمة، وجرائم الكراهية البغيضة.

وتتجلى صور العنصرية المؤسسية المناهضة للفلسطينيين في حالات عديدة، منها مراقبة الحكومات للفلسطينيين والمنظمات المؤيدة لهم، وكذلك المؤسسات كالجامعات التي تقمع الاحتجاجات المناصرة للفلسطينيين في الآونة الأخيرة، بما في ذلك منع المتحدثين من إلقاء كلماتهم في حفلات تخرج الطلاب.

أما الأستاذ في كلية بروكلين، مصطفى بيومي، فيرى أن للمشاعر المعادية للفلسطينيين تأثيرًا يتجاوز حدود المجتمع الفلسطيني والقضية الفلسطينية في الولايات المتحدة. وقد كتب في مقال نُشر مؤخرًا في صحيفة الغارديان (The Guardian) أن معاداة الفلسطينيين كانت تغذي كراهية الإسلام المؤسسية في الولايات المتحدة لعقود طويلة، حيث بذلت السلطات الأميركية جهودًا حثيثة في مراقبة وقمع أي تنظيمٍ عربي أميركي مؤيد للفلسطينيين منذ عام 1967.

إن حملة القمع الراهنة ضد الأصوات والنشاط المؤيدَين للفلسطينيين ما هي إلا تتويجٌ لتلك الجهود التاريخية المتواصلة. ومن المثير للدهشة أن يكون دور الولايات المتحدة في هذا الصدد انعكاسًا لما شهده العالم قبل قرن من الزمان، حين انحازت القوة الإمبراطورية آنذاك، بريطانيا العظمى، إلى الحركة الصهيونية وساعدتها في السيطرة على فلسطين بأكملها، مما أدى إلى تغييب أغلبيتها العربية الفلسطينية الأصيلة.

ففي عام 1917، أصدرت الحكومة البريطانية وعد بلفور المشؤوم الذي تعهد بدعم إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، التي كان 93% من سكانها آنذاك من العرب الفلسطينيين. وفي عام 1920، منحت عصبة الأمم بريطانيا الانتداب على فلسطين، مما أتاح لها، إلى حد كبير، تشكيل المجتمع وفق أهوائها وتجاهل حقوق ومصالح الأغلبية الفلسطينية الساحقة.

ويبدو أن الولايات المتحدة تسير اليوم على خُطى بريطانيا بالأمس، فباعتبارها القوة الإمبريالية الرائدة في الغرب، فإنها تتجاهل الحقوق الفلسطينية المشروعة، وتدعم سياسات الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، بل وتحميها في المحافل الدبلوماسية الدولية، وتتواطأ معها لتجريم وإسكات الأصوات الفلسطينية الحرة.

بيد أنه مثلما واجه الدعم الإمبريالي البريطاني للصهيونية مقاومةً عنيدة في القرن الماضي، كذلك يواجه الدعم الأميركي اليوم مقاومةً غير مسبوقة من قِبَل الفلسطينيين وحلفائهم الأميركيين والعالميين. ويشمل ذلك الاحتجاجات العامة، والمقالات الإعلامية والأكاديمية التي يسطرها علماء مرموقون، والتحديات القانونية على الصعيدين الوطني والدولي، وتحالفات التضامن مع الفئات المهمشة في المجتمع الأميركي، بمن في ذلك السود، واللاتينيون، واليهود التقدميون، والسكان الأصليون، والطلاب، وغيرهم من شرائح المجتمع.

إن هذه التعبئة واسعة النطاق في الولايات المتحدة ضد العنصرية والقمع المناهض للفلسطينيين تُعد الآن واحدة من المحركات الرئيسية للحركة العالمية للتضامن مع فلسطين وشعبها المكلوم.

وكما كتب بيومي بحكمة: "من الأهمية بمكان أن الشباب الأميركيين المسلمين واليهود الذين يتصدرون الحركات الاحتجاجية اليوم يُعيدون الحقوق الفلسطينية إلى صلب النضال من أجل دحر الإسلاموفوبيا. لماذا؟ … من أجل الحرية. يدرك هؤلاء الشباب الواعون أن تحرير الولايات المتحدة من تحيزاتها المعادية للمسلمين واليهود يتطلب حتمًا تحرير الشعب الفلسطيني من نير الاضطهاد الجاثم على صدره. وهذا ليس موقفًا ظرفيًا فحسب، بل إنه درسٌ عميق في كيفية التغلب على القمع والظلم في شتّى أرجاء المعمورة".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات فی الولایات المتحدة

إقرأ أيضاً:

أمريكا تخسر العالم العربي والصين تحصد الفوائد

ترجمة: نهى مصطفى -

قبل ثلاث سنوات، أطلقت أربع دول أعضاء في جامعة الدول العربية: البحرين والمغرب والسودان والإمارات العربية المتحدة، عمليات تطبيع لعلاقاتهم الدبلوماسية مع إسرائيل. ومع اقتراب صيف عام 2023 من نهايته، بدت المملكة العربية السعودية، الدولة العربية الأكثر أهمية التي لم تعترف بإسرائيل بعد، على استعداد للقيام بهذه الخطوة أيضا.

ولكن بعد السابع من أكتوبر، أدت العملية العسكرية الإسرائيلية المدمرة اللاحقة في غزة إلى تقليص مسيرة التطبيع. وصرحت المملكة العربية السعودية بأنها لن تمضي قدما في اتفاق التطبيع حتى تتخذ إسرائيل خطوات واضحة لتسهيل إقامة دولة فلسطينية، واستدعى الأردن سفيره من إسرائيل في نوفمبر 2023، ولم تتم زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إلى المغرب والتي كان من المقرر إجراؤها في أواخر عام 2023. وقد راقب الزعماء العرب بحذر مواطنيهم الذين أصبحوا معارضين جهرا للحرب في غزة. وفي العديد من الدول العربية، خرج الآلاف للاحتجاج على الحرب الإسرائيلية والأزمة الإنسانية التي أنتجتها.

ويتبين أن 7 أكتوبر قد يكون لحظة فاصلة بالنسبة للولايات المتحدة أيضا. بسبب الحرب في غزة، تحول الرأي العام العربي بشكل حاد ضد أقوى حليف لإسرائيل، الولايات المتحدة، وهو تطور يمكن أن يربك الجهود الأمريكية ليس فقط للمساعدة في حل الأزمة في غزة ولكن أيضا لاحتواء إيران والتصدي للنفوذ الصيني المتزايد في الشرق الأوسط.

منذ عام 2006، قامت مؤسسة البارومتر العربي Arab Barometer، وهي منظمة بحثية غير حزبية، بإجراء استطلاعات رأي نصف سنوية في 16 دولة عربية، حيث قامت بالتقاط آراء المواطنين العاديين في منطقة لا يوجد بها سوى القليل من استطلاعات الرأي. وبعد غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003، وجدت استطلاعات أخرى أن قِلة من المواطنين العرب لديهم آراء إيجابية تجاه الولايات المتحدة. ومع ذلك، بحلول عام 2022، تحسنت مواقفهم إلى حد ما، حيث أكد ما لا يقل عن ثلث المشاركين في جميع البلدان التي شملها استطلاع البارومتر العربي أن لديهم رأيا «إيجابيا جدا» أو «إيجابيا إلى حد ما» تجاه الولايات المتحدة.

لكن الاستطلاعات التي أجريناها في خمس دول في أواخر عام 2023 وأوائل عام 2024 تظهر أن مكانة الولايات المتحدة بين المواطنين العرب قد تراجعت بشكل كبير. ويشير استطلاع للرأي أجري جزئيا في تونس قبل 7 أكتوبر وجزئيا بعده، بقوة إلى أن هذا التحول حدث ردا على الأحداث في غزة. ولعل الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن الاستطلاعات أوضحت أيضا أن خسارة الولايات المتحدة لشعبيتها كانت بمثابة مكسب للصين. تحسنت آراء المواطنين العرب تجاه الصين في استطلاعاتنا الأخيرة، عكس ما كان عليه منذ 5 سنوات من ضعف الدعم العربي للصين. وعندما سُئلوا عما إذا كانت الصين قد بذلت جهودا جادة لحماية الحقوق الفلسطينية، وافق عدد قليل من المشاركين على ذلك. وتشير هذه النتيجة إلى أن وجهات النظر العربية تعكس استياء عميقا من الولايات المتحدة وليس دعما للسياسات الصينية تجاه غزة.

وفي الأشهر والسنوات المقبلة، سوف يسعى قادة الولايات المتحدة إلى إنهاء الصراع في غزة وبدء المفاوضات نحو تسوية دائمة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وتأمل الولايات المتحدة أيضا في حماية الاقتصاد الدولي من خلال حماية منطقة البحر الأحمر من الهجمات ، وتعزيز تحالف إقليمي يحد من الأزمات في المنطقة. ومع ذلك، لتحقيق أي من هذه الأهداف، تحتاج واشنطن إلى شراكة الدول العربية، وهو أمر سيكون من الصعب تحقيقه إذا ظل السكان العرب متشككين في أهداف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

كثيرا ما يشير المحللون والسياسيون الأمريكيون إلى أن ما يسمونه أحيانا باستخفاف «الشارع العربي» لا ينبغي أن يكون ذا أهمية كبيرة للسياسة الخارجية الأمريكية. ولأن معظم الزعماء العرب، كما تقول الحجة، لا يهتمون كثيرا بالرأي العام، وبالتالي ينبغي لصناع السياسات في الولايات المتحدة إعطاء الأولوية لعقد صفقات مع حكام هذه البلاد.

ولكن بشكل عام، فإن فكرة أن الزعماء العرب غير المقيدين بالرأي العام هي مجرد أسطورة، أطاحت انتفاضات الربيع العربي بحكومات في أربع دول، وأدت الاحتجاجات واسعة النطاق في عام 2019 إلى تغييرات في القيادة في أربع دول عربية أخرى. والآن لا يرغب سوى عدد قليل من الزعماء العرب في أن يُنظر إليهم وهم يتعاونون علنا مع واشنطن، نظرا للارتفاع الحاد في المشاعر المعادية لأمريكا بين الشعوب التي يحكمونها. وقد يكون لغضب المواطنين العرب من السياسة الخارجية الأمريكية عواقب مباشرة وخطيرة على الولايات المتحدة، لقد أظهر بحثنا السابق المستند إلى بيانات من استطلاعات الرأي في الجزائر والأردن أن الغضب من السياسة الخارجية الأمريكية يمكن أن يجعل المواطنين يتعاطفون بشكل أكبر مع الأعمال الموجهة ضد الولايات المتحدة.

ومع ذلك، تكشف بعض نتائج البارومتر العربي أيضا أن الشكوك العربية المتزايدة حول دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ليست أمرا لا رجعة فيه، وتشير الاختلافات في الرأي بين الجماهير في البلدان التي تعاملت معها الولايات المتحدة بشكل مختلف إلى أن الولايات المتحدة قادرة على تغيير الطريقة التي يُنظر بها إليها في العالم العربي من خلال تغيير سياساتها. وتشير نتائج الاستطلاع أيضا إلى تحولات محددة في السياسة من شأنها أن تحسن على الأرجح تصورات العرب عن الولايات المتحدة، بما في ذلك الضغط بقوة أكبر من أجل وقف إطلاق النار في غزة، وزيادة المساعدات الإنسانية الأمريكية للقطاع وبقية المنطقة، وفي الشرق الأوسط.

نتائج الاستطلاعات

يشمل كل استطلاع للبارومتر العربي آراء أكثر من 1200 مشارك ويتم إجراؤه في مكان إقامة المشارك. تسأل هذه الاستطلاعات المشاركين عن آرائهم حول مجموعة واسعة من المواضيع، بما في ذلك القضايا الاقتصادية والدينية، ووجهات نظر حكوماتهم، والمشاركة السياسية، وحقوق المرأة، والبيئة، والشؤون الدولية. منذ 7 أكتوبر، أكمل البارومتر العربي دراسات استقصائية في خمس دول عربية مختلفة: الأردن، والكويت، ولبنان، وموريتانيا، والمغرب.

ونظرًا لأن الجولة السابقة من استطلاعات البارومتر العربي في هذه البلدان أجريت بين عامي2021 و2022، فقد تكونت عوامل أخرى غير الحرب في غزة، ساهمت في حدوث تغييرات في الرأي العام منذ ذلك الحين وحتى الآن. في الفترة ما بين 13 سبتمبر و4 نوفمبر 2023، أجرينا دراسة استقصائية مجدولة في تونس شملت 2406 مقابلات، تم إجراء حوالي نصف هذه المقابلات قبل 7 أكتوبر، وحوالي النصف بعده، لفهم كيف تغيرت آراء التونسيين بعد 7 أكتوبر، وقمنا بحساب متوسط الردود خلال الأسابيع الثلاثة التي سبقت 7 أكتوبر ثم قمنا بتتبع التغيرات اليومية في الأسابيع التي تلت ذلك، ووجدنا انخفاض سريع وحاد في نسبة المشاركين الذين لديهم آراء إيجابية تجاه الولايات المتحدة، واتبعت النتائج في معظم البلدان الأخرى التي قمنا بمسحها في الفترة 2021-2022 وبعد 7 أكتوبر نمطا مشابها: في جميع البلدان باستثناء واحدة، انخفضت أيضا وجهات النظر تجاه الولايات المتحدة بشكل ملحوظ،

واتفق عدد قليل من المشاركين في البارومتر العربي على أنه ينبغي وصف عمليات حماس بأنها «عمل إرهابي». وفي المقابل، اتفقت الأغلبية الساحقة على أن الحملة التي تشنها إسرائيل في غزة لا بد أن تصنف على أنها «عملية إرهابية». في أغلب الأحيان، قيم المواطنون العرب الذين شملهم الاستطلاع بعد 7 أكتوبر الوضع في غزة بأنه خطير، وعندما سُئلوا عن أي من الكلمات السبع، بما في ذلك «الحرب» و«الأعمال العدائية» و«المذبحة» و«الإبادة الجماعية»، أفضل وصف للأحداث الجارية في غزة، كان المصطلح الأكثر شيوعا الذي اختاره المشاركون في جميع البلدان باستثناء دولة واحدة هو «الإبادة الجماعية». وفي المغرب فقط، وصف عدد كبير من المشاركين -24%- تلك الأحداث بأنها «حرب»، وهي نفس النسبة تقريبا من المغاربة الذين وصفوها بأنها «مذبحة». وفي كل مكان آخر، اختار أقل من 15% من المشاركين كلمة «الحرب» لوصف ما يحدث في غزة.

علاوة على ذلك، وجدت استطلاعات البارومتر العربي أن المواطنين العرب لا يعتقدون أن الجهات الغربية الفاعلة تدافع عن سكان غزة. سألنا في استطلاعنا: «من بين الأطراف التالية تعتقد أنه ملتزم بالدفاع عن الحقوق الفلسطينية؟» وسمحنا للمشاركين باختيار كل ما ينطبق عليه الأمر من قائمة تضم عشر دول، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة. ولم يوافق أكثر من 17% من المشاركين في أي دولة على أن الأمم المتحدة تدافع عن الحقوق الفلسطينية. وكان أداء الاتحاد الأوروبي أسوأ، لكن الولايات المتحدة حصلت على أدنى الدرجات: 8% من المشاركين في الكويت، و6% في المغرب ولبنان، و5% في موريتانيا، و2% في الأردن وافقوا على وقوفهم إلى جانب الفلسطينيين. وعندما سئلوا عما إذا كانت الولايات المتحدة تحمي الحقوق الإسرائيلية، وافق أكثر من 60% من المشاركين في جميع الدول الخمس على أنها تفعل ذلك. وهذه النسب تتجاوز بكثير نسب المستطلعين الذين وافقوا على أن الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة يحميان إسرائيل.

ويبدو أن هذه التصورات في العالم العربي حول الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة، وحول السياسة التي تتعامل بها الولايات المتحدة معها، كان لها عواقب وخيمة على سمعة الولايات المتحدة بشكل عام. في أربع من الدول الخمس التي شملها الاستطلاع في الفترة ما بين ديسمبر 2023 ومارس 2024، نظر أقل من الثلث إلى الولايات المتحدة بشكل إيجابي.

في الأردن، انخفضت نسبة المشاركين الذين ينظرون إلى الولايات المتحدة بشكل إيجابي بشكل كبير، من 51% في عام 2022 إلى 28% في استطلاع أجري في شتاء 2023-2024. وفي موريتانيا، انخفضت نسبة المشاركين الذين ينظرون إلى الولايات المتحدة بشكل إيجابي من 50% في استطلاع أجري في شتاء 2021-2022 إلى 31% في الاستطلاع الذي أجري في شتاء 2023-2024، وفي لبنان انخفضت من 42% في شتاء 2021-2022 إلى 27% في أوائل عام 2024.

ويشير توقيت استطلاعنا في تونس بقوة إلى أن الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة هي التي أدت إلى هذا الانخفاض العام. وفي الأسابيع الثلاثة التي سبقت 7 أكتوبر، قال 40% من التونسيين إن لديهم وجهة نظر إيجابية تجاه الولايات المتحدة، ولكن بحلول 27 أكتوبر، أي بعد مرور ثلاثة أسابيع على بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، قال 10% فقط من التونسيين نفس الشيء.

فائدة هامشية

وعلى الرغم من تقديم دعم مادي وخطابي محدود لغزة، كانت الصين المستفيد الرئيسي من تراجع شعبية الولايات المتحدة بين الجماهير العربية، وأظهر البارومتر العربي في استطلاعاته للأعوام 2021-2022 أن دعم العرب للصين آخذ في الانخفاض. ولكن في الأشهر الأخيرة، اختلف الأمر، في جميع البلدان التي شملها استطلاع البارومتر العربي بعد 7 أكتوبر، وقال نصف المشاركين على الأقل إن لديهم آراء إيجابية تجاه الصين. وفي كل من الأردن والمغرب، الحليفين الرئيسيين للولايات المتحدة، استفادت الصين من زيادة قدرها 15 نقطة على الأقل في تصنيفاتها الإيجابية.

وعندما سُئلوا عما إذا كانت السياسات الأمريكية أو الصينية أفضل لأمن منطقتهم، قال المشاركون في ثلاث من الدول الخمس التي شملها الاستطلاع بعد 7 أكتوبر إنهم يفضلون سياسة الصين. والحقيقة، أن الوجود الفعلي للصين في المنطقة في أدنى مستوياته، حيث تركزت مشاركتها في الأغلب على الصفقات الاقتصادية من خلال مبادرة الحزام والطريق. يبدو أن الجماهير العربية في الشرق الأوسط تدرك أن الصين لعبت دورا محدودا في الأحداث في غزة: 14% فقط من اللبنانيين، و13% من المغاربة، و9% من الكويتيين، و7% من الأردنيين، ونسبة صغيرة 3% من الموريتانيين، اتفقوا على أن الصين ملتزمة بالدفاع عن حقوق الفلسطينيين.

بالرغم من أن سجل الصين في حماية الحقوق والحريات في الداخل والخارج ضعيف، لكن الشعبين اللبناني والأردني يعتبران أن سجل الولايات المتحدة أسوأ. تعكس هذه النتيجة اتجاها أكبر في بيانات البارومتر العربي: أن الجغرافيا مهمة. وأعرب الأشخاص الذين يعيشون بالقرب من الصراع في غزة والذين استوعبت بلدانهم تاريخيا أعدادا كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين عن أدنى مستوى من الثقة في سياسات الولايات المتحدة المحددة في الشرق الأوسط.

تقرير الأقلية

تشير استطلاعاتنا إلى أن التراجع في الدعم العربي للولايات المتحدة ليس نهائيا وأن الشعوب العربية تستجيب بحساسية للاختلافات في سياسة الولايات المتحدة تجاه القضايا الأساسية في المنطقة. ويبرز هذا المؤشر بقوة من النتائج التي تحققت في المغرب، الدولة الوحيدة في المنطقة التي خالفت الشكوك المتزايدة بشأن السياسة الأمريكية. وفي عام 2022، كان لدى 69% من المغاربة نظرة إيجابية تجاه الولايات المتحدة، وهو أكبر دعم على الإطلاق في العالم العربي. وزاد هذا الدعم القوي بالفعل: فقد وجد استطلاع البارومتر العربي لشتاء 2023-2024 أن 74% من المغاربة ينظرون الآن إلى الولايات المتحدة بشكل إيجابي. كما أن المغرب هو البلد الوحيد الذي يفضل سكانه بوضوح السياسات الأمنية التي تنتهجها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط على سياسات الصين، بنسبة 13%.

وأدت الحرب في غزة إلى خفض الدعم العربي لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهو ما كان منخفضا بالفعل، إلا أن هذا لا يعني أن العالم العربي يتحول ضد التسوية السلمية بين الإسرائيليين والفلسطينيين. في الواقع، في استطلاعات الرأي التي أجريت بين ديسمبر 2023 ومارس 2024 في الأردن وموريتانيا والمغرب، أشارت نسب أكبر من المشاركين إلى دعمهم لحل الدولتين بدلا من حل الدولة الواحدة أو الكونفدرالية أو «حل آخر» مفتوح العضوية.

عملية شد الوجه

قبل أحداث 7 أكتوبر، بدا أن نظاما إقليميا جديدا ينشأ في الشرق الأوسط، وبينما سعت بعض الحكومات العربية إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل -وهي أول اتفاقيات من نوعها منذ ما يقرب من 30 عاما- بدا أن الانقسام الأساسي في المنطقة قد لا يكون بين إسرائيل والدول العربية، بل بين طهران والدول التي تسعى لاحتواء الصراع. وكان من الممكن أن يكون تشكيل تحالف جديد لاحتواء إيران، بما في ذلك إسرائيل والدول العربية الرئيسية، مفيدا للغاية للحد من نفوذ إيران في المنطقة.

لكن الجهود الرامية إلى إعادة التنظيم الكامل سوف تواجه صعوبات طالما استمر تراجع الدعم الإقليمي للولايات المتحدة. إن اتفاقيات السلام الباردة، مثل تلك التي تم التوصل إليها بين إسرائيل ومصر والأردن، معرضة دائما لخطر التمزق، ولا يمكن استبدال الولايات المتحدة كوسيط في صفقات التطبيع. لقد تم الحفاظ على اتفاقيات السلام المصرية الإسرائيلية والإسرائيلية الأردنية إلى حد كبير بفضل الكم الهائل من المساعدات التي قدمتها الولايات المتحدة لكلا البلدين العربيين، واعتمدت صفقات التطبيع على مدى نصف العقد الماضي على وعود قدمتها الولايات المتحدة لمعالجة مخاوف الدول العربية، بما في ذلك الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية، وإزالة السودان من قائمتها للدول الراعية للإرهاب، وبيع طائرات مقاتلة من طراز F-35 إلى الإمارات العربية المتحدة.

إن المنطقة تمر بمرحلة محورية، والولايات المتحدة في وضع جيد نظريا لتطبيق النفوذ اللازم للمساعدة في ضمان وقف إطلاق النار في غزة والمساعدة في دفع الإسرائيليين والفلسطينيين نحو السلام. ومع ذلك، لاستعادة مصداقيتها الإقليمية، يجب على الولايات المتحدة أن تضع خطوات ملموسة وعملية نحو حل الدولتين، وتحديد الشكل الذي سيبدو عليه الحكم الفعال في مرحلة ما بعد الحرب في غزة وما يجب على الإسرائيليين والفلسطينيين القيام به لضمان إحراز تقدم نحو السلام.

وبدون تحول كبير في دعم الولايات المتحدة لحرب إسرائيل، ودون تغييرات ذكية في سياسة الولايات المتحدة للحد من تزايد العداء العربي لأمريكا على المدى الطويل، فإن الجهات الفاعلة الأخرى -بما في ذلك الصين- سوف تستمر في محاولة إزاحة الولايات المتحدة من دورها القيادي في الشرق الأوسط.

مايكل روبنز هو المدير والباحث الرئيسي المشارك في مؤسسة البارومتر العربي، وكان جزءا من شبكة الأبحاث منذ إنشائها ويعمل كمدير لها منذ عام 2014.

أماني جمال هي باحثة فلسطينية أمريكية في سياسات الشرق الأوسط، وهي حاليا أستاذة السياسة في جامعة إدواردز سانفورد ومديرة مركز ممدوحة إس بوبست للسلام والعدالة في جامعة برينستون.

مارك تيسلر هو أستاذ العلوم السياسية في جامعة ويسكونسن ميلووكي ومدير مركز جامعة ويسكونسن ميلووكي / مركز جامعة ماركيت للدراسات الدولية.

** تقرير من موقع Foreign Affairs

مقالات مشابهة

  • أمريكا تخسر العالم العربي والصين تحصد الفوائد
  • الحكم المحلي الفلسطيني: الاحتلال ينفذ تدميرًا ممنهجًا على كل مقومات الحياة
  • أمين جامعة الدول العربية الأسبق: هناك انحياز أمريكي مطلق لإسرائيل
  • الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية: هناك انحياز أمريكي مطلق لإسرائيل
  • تحريض إسرائيلي على طلبة الجامعات الأمريكية المناصرين للفلسطينيين
  • إسرائيل تخسر دعم الولايات المتحدة
  • حماس ترفض أي خطط لإدخال قوات أجنبية إلى غزة
  • خبير يكشف حقيقة ستارمر: معتدل كالمحافظين وسيذهب وراء الولايات المتحدة أينما ذهبت
  • مدرب كندا حزين لوداع أميركا!