المحاور والعوائق في التفاوض السوداني
تاريخ النشر: 4th, July 2024 GMT
ناصر السيد النور
بما تسارعت الأحداث على الساحة السودانية في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي بأكثر مما يتوقع الطرفان، الجيش وقوات الدعم السريع، في حربهما الضروس، ما أوصل الأزمة المستمرة إلى نقطة تصعب معها العودة إلى ما قبل الحرب، فيما فرضه واقع العمليات العسكرية من سقوط المدن وحصارها والمواقع العسكرية، وارتفاع موجات النزوح، وكل ما يصيب المدنيين ضحايا الصراع -عادة- بما يتجاوز إحصائيات تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، في رصدها لنتائج الصراع.
هذا الموقف بتداعياته الكارثية أصبح لا يحتمل على ما أحدثه من أزمات على المستوى الإنساني، فقد دفع التصاعد في المواجهات بين الطرفين مؤخراً إلى ضرورة إيجاد وسيلة فاعلة لوقف نزيف الحرب، واستئناف جولات التفاوض المعلقة على الصعيد الدولي، بما فيها منظمة الأمم المتحدة الدولية.
فإذا كانت جولات التفاوض قد بدأت مع بداية الحرب، فقد تعددت محاورها وسقف بنودها، واختلاف منابرها من دولية برعاية ثنائية (مفاوضات جدة برعاية أمريكية – سعودية)، وما تلاها من مبادرات، إقليمية كدول منظمة الهيئة الحكومية للتنمية «الإيغاد»، ومحلية مبادرات تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم»، لم تفلح جميعها في تقريب وجهات النظر بين الطرفين في الوصول إلى الحد الأدنى من التوافق، لأن مسار التفاوض ظل خاضعاً لطبيعة الواقع العملياتي على الأرض، والمواقف المترددة للطرفين، ما يشير إلى تعدد مواقع القرار ودرجة استقلاله.
والحاجة للتفاوض تفرضها ضرورات ترتبط بمسار الحرب، أكثر من تكتيكات الطرفين السياسية من حيث المسافة التي تفصل بين العودة إلى التفاوض، واستمرار العمليات العسكرية على الأرض، في حل عسكري حاسم ينهي الحاجة أو الرغبة في التفاوض. ومع هذا التصور الذي لا يبدو واقعياً إلا في حدود ما يتوفر لدى كل طرف من وسائل للدفع إلى التفاوض أو الحسم بالقوة. وللقوة موازينها التي تؤثر على مجريات التفاوض ومدى قوة الموقف، وهذا ما يغيب على الأقل في الوقت الحاضر عن أجندة الطرفين، ما يجعل من التفاوض خياراً وحيدا، حتى لو أن كلا من الطرفين يتصور أن مضيه في التفاوض من دون نتائج حاسمة على الأرض، انتقاص واعتراف بضعف عسكري لا يليق! وهذا ما عبر عنه موقف الجيش السوداني، الموقف الحكومي الذي صرّح أكثر من مرة عن عدم ذهابه إلى التفاوض، يضاف إليه التقدم الذي أحرزته قوات الدعم السريع بسيطرتها على مدن ومواقع عسكرية وسط البلاد.
إزاء هذا الموقف المعقد والملتبس، كيف ستتم صناعة اتفاق يقرّب وجهات نظر الطرفين، إن لم يكن تهيئة الأجواء، بالمفهوم الاصطلاحي، لإدارة عملية التفاوض، قبل أن يحدد كل طرف شروطه، فالتصريحات الإعلامية الصادرة من الأطراف الدولية بشأن الأزمة السودانية في الأسابيع الماضية شددت في ما بدا، على دفع الطرفين للعودة إلى مائدة التفاوض في منبر جدة، فقد سلمت الأمم المتحدة دعوتها للطرفين لاستئناف التفاوض في العاشر من يوليو/تموز الجاري كما ترافق الحديث عن لقاءات يجري الترتيب لها بين قائد الجيش، رئيس مجلس السيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، بواسطة الرئيس اليوغندي يوري موسفيني لم تصدر عنه تأكيدات بعد. ولكن تظل هذه المبادرات الدولية إلى الآن لا تمثل ضغطاً كافياً تتطلبه أزمة إنسانية مروعة، لا يستجيب فيها طرفا الحرب لدعوات التوصل للسلام أو المساعدة في تجنب المزيد من نتائجها. وإذا ظل الموقف من التفاوض على ما هو عليه من تناقض وتبدل في المواقف، فسيذهب الطرفان بما يفرضه الواقع المنهار بغير شروط، طالما اعتبرت التفاوض أحد وسائل المناورة السياسية أكثر منها وسيلة للحوار المدني لإيقاف الحرب. ولكن كيف ينظر المجتمع الدولي إلى مسار التفاوض، وعلى ماذا يعتمد من وسائل لتنفيذ ما هو مطلوب منه لتفعيل التفاوض؟ فلأن الموقف الدولي تجاه الأزمة السودانية تتقاسمه وجهتان: الدول المؤثرة في الصراع الدائر من النطاق الافريقي والعربي، والوجهة الثانية المنظمات الدولية والإقليمية، والأخيرة تقيدها البيروقراطية في القرار، وعليه تبدو الدول، أو بالأحرى ذات الأجندة في الصراع تأثيرها أكبر في رسم الحرب أو التفاوض، ويأتي هذا في سياق غياب الدور الوطني المستقل. وبهذا يكون التفاوض السوداني السوداني غائبا، إلا في حدود تبادل الاتهامات بين مكوناتها السياسية ومنها تلك التي أشعلت الحرب، أو تلك التي تسعي لتشكيل وفاق وطني يجمع على وقف الحرب. وما يعيق التفاوض السوداني أيضا الإقصاء الممارس ضد المكونات السياسية المدنية من قبل اندلاع الحرب، تلك التي قادت التغيير وشاركت المجلس العسكري الحكم، أثناء الفترة الانتقالية قصيرة الأجل. ويشير هذا الغياب المدني إلى تفاوض عسكري لا يستصحب العملية السياسية، التي تبدأ بها وتنتهي الحروب. وإذا كانت الأمور ستجري على نحو ما هي عليه، فإن فرض التهديد أو الضغط على الطرفين غير وارد، فكأنما أراد العالم أن يترك المتقاتلين يقررون الذهاب للتفاوض، وفق ارادتهم المحضة، أو نتيجة لإنهاك لم تعد من إمكانيات تسمح بتحمله إلى ما لا نهاية.
ولا يستثني الموقف الدولي الدور الأمريكي في التفاوض كأحدى الدول الراعية للمفاوضات (منبر جدة) ومن المؤكد أن لها دورا لا يمكن تجاهله في الضغط سلبا وإيجابا على مجريات سياسة المنطقة وحروبها. ولكن الإدارة الأمريكية الحالية لم تول الشأن السوداني اهتماما كافياً ضمن أولوياتها، وكذا الشأن بالنسبة لمؤسساتها التشريعية والتنفيذية كالكونغرس ولجانه وجماعات الضغط (اللوبيات)، وتأثيرها على قرارات مجلس الأمن الدولي. فلم يكن تدخلها في الأزمة السودانية ذا تأثير، رغم تعيينها توم بيرييلو المبعوث الخاص للسلام الدبلوماسي. ومما يرصده المراقبون أن تلكؤ إدارة بايدن بشأن الصراع السوداني يأتي من أهمية الصراع ومدى تهديده للمصالح الأمريكية، وهي رؤية ظلت تستند إليها السياسة الخارجية الأمريكية لعقود. وركزت الإدارة الأمريكية مؤخراً على ضرورة فتح المجال أمام وصول المساعدات الإنسانية وهو أمر على ضرورته، لا يعفيها من دور أكبر ينتظر منها في شأن الصراع. إذا فشلت مساعي التفاوض أو تأجلت كما هو الحال، فإن التدخل لفرض سلام تحت غطاء التدخل الدولي يكون ملزما وضروريا لإيقاف الاقتتال. والراجح أن ترفض الحكومة السودانية ذلك، على أساس انتقاص السيادة والتدخل في الشأن الداخلي، وهي ذريعة لا تؤيدها وقائع الأحوال بشأن تدخل الدول بالوساطة والرعاية في تاريخ البلاد واتفاقياتها التاريخية منذ أمد بعيد. لذا فالاعتماد على الدور الدولي (الخارجي) لمعالجة الأزمة السودانية، كما تبدو عليه، سيكون الدور الأوحد وربما الأخير. وما بين جولات التفاوض والاقتراحات بالتدخل الدولي، تتقلص فرص الأزمة السودانية في الحل العاجل، وفي حال أصبحت المفاوضات وسيلة من وسائل الحرب في المناورة، بدلا من أن تكون مدخلاً لحل المشكل، فمن المتوقع أن تستمر الحرب بعيداً عن المنحنيات السياسية التي تمثل عوائق دائمة نحو الاعتراف بالحقائق، التي يفرضها الواقع، وتستدعيها الحاجة الملحة للسلام. ومها يكن من استراتيجيات الطرفين في تصورهما لمواصلة عملياتهما العسكرية، والمضي مهما بلغت الخسائر الإنسانية، فلا يكون ذلك بشكل مطلق.
والأمر الثاني أو الخيار الأخير الذي من المرجح أن يلجأ إليه في إطار الحل الدولي للأزمة، هو التدخل بالقوة، وكما أشرنا سابقا، أن الأطراف المتقاتلة بكل فصائلها وميلشياتها المدنية والقبلية المسلحة، لا تمتلك تصوراً لطبيعة هذا التدخل، كما لا تدرك حجم الكارثة التي تسببت فيها، ومدى المسؤولية الجنائية والقانونية والأخلاقية والتاريخية، التي تتحملها الأطراف، وإن لم تكن في صراعها المحموم على السلطة، أو ما ترفع من شعارات، تقدر حساباتها التي لا يسندها منطق بمقاييس السياسة أو القانون. ومع ذلك تصر على حسم الصراع عسكرياً، مهما أدى ذلك من أهوال لم يعد السودانيون قادرين على احتمالها، ما يجعل من التدخل الدولي المباشر لإنهاء الحرب أمراً عاجلاً، يحتمل كل ذرائع التدخل. فتعدد المحاور وظروفها المحيطة بها غير المواتية إقليميا ودوليا في المفاوضات السودانية قد تجعل منها أحد معيقات الحل.
كاتب سوداني
نشر بحصيفة القدس العربي اللندنية: الخميس 04/07/2024م
nassyid@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الأزمة السودانیة فی التفاوض
إقرأ أيضاً:
ماذا تعني انتصارات الجيش السوداني الأخيرة وتأثيرها على الحرب؟
سلطت صحف أمريكية، الضوء على انتصارات الجيش السوادني الأخيرة وتأثيرها على الحرب الأهلية الدامية مع قوات الدعم السريع، والتي اندلعت في نيسان/ أبريل لعام 2023.
وقال المعلق في صحيفة "واشنطن بوست" إيشان ثارور إنّ "الحرب الأهلية الدامية في السودان، ربما وصلت نقطة تحول"، مضيفا أنّ "الدبلوماسية الدولية فشلت بوضع حد لحرب في واحدة من كبرى دول القارة، لكن الأحداث الاخيرة تقترح تغيرا في الحظوظ العسكرية".
وتابع ثارور: "على مدار العامين الماضيين انزلق السودان إلى حرب أهلية مدمرة بين القوات المسلحة للبلاد وميليشيا شبه عسكرية. وهو ما خلف أكثر من 150,000 شخصا ما بين قتيل وجريح، وأدى إلى أكبر أزمة نزوح وجوع في العالم، فقد فر نحو 12 مليون شخص من مدنهم وقراهم، فيما يحتاج 30 مليون شخص إلى مساعدات إنسانية، في ظل انهيار الاقتصاد السوداني وتدمير المدن الكبرى".
وذكر أن "الدبلوماسية الدولية فشلت في إنهاء الحرب في إحدى أكبر دول أفريقيا، لكن الأحداث الأخيرة تشير إلى تحول مطرد في ميزان القوى على أرض المعركة".
وأشار إلى سيطرة القوات المسلحة السودانية يوم الجمعة على القصر الجمهوري، وطرد عناصر الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو، المعروف بحميدتي.
وأفاد مراسلو الصحيفة بأن "قوات الدعم السريع، استولت في الأيام الأولى للحرب على العديد من أهم معالم الخرطوم، بما فيها سوق الذهب والجسور الرئيسية ومقر التلفزيون والإذاعة الحكوميين، وقد استعاد الجيش السوداني جميعها تقريبا في الأشهر الأخيرة، ويمثل القصر آخر معقل رئيسي لقوات الدعم السريع. ومعظم المقاتلين شبه العسكريين المتبقين متمركزون الآن في شرق وجنوب المدينة، حيث يسيطرون على جسر واحد".
ويقول الكاتب إن القوات السودانية بقيادة الحاكم الفعلي عبد الفتاح البرهان عززت من مكاسبها نهاية الأسبوع وسيطرت على البنك المركزي. وأفاد سكان أم درمان، المدينة الشقيقة المجاورة للخرطوم، بارتفاع وتيرة القصف العشوائي. وحققت قوات البرهان مكاسب خلال النصف الأول من العام الماضي، ويعود ذلك جزئيا إلى الصعوبات التي واجهتها قوات الدعم السريع في إمداد قواتها في الخرطوم، بالإضافة إلى مساعدة إيرانية وتركية جديدة من المسيرات.
ووصف بيان من المتحدث باسم القوات السودانية استعادة القصر الجمهوري بأنه رمز السيادة والكرامة للأمة السودانية. إلا أن الحرب الأهلية في السودان دارت على مناطق واسعة. وتشير جماعات حقوق الإنسان إلى الفظائع التي ارتكبها كلا الجانبين، ففي كانون الثاني/يناير فرضت إدارة بايدن المنتهية ولايتها عقوبات على حميدتي وعدد من الشركات المرتبطة بقوات الدعم السريع، متهمة أمير الحرب بالتواطؤ في "الإبادة الجماعية الثانية في السودان خلال جيل"، حيث ارتكبت قوات الدعم السريع والفصائل التابعة لها مجازر جماعية واغتصابات بحق مجتمعات عرقية غير عربية في إقليم دارفور غربي البلاد.
إيصال الغذاء
وبعيدا عن العنف، عبرت منظمات الإغاثة عن قلقها من تعقيد عملية إيصال الغذاء إلى السكان الجياع، حيث تجوب الشاحنات أرضا باتت مقسمة بفعل الحرب بين الأطراف المتحاربة الرئيسية، بالإضافة إلى خليط من الميليشيات المحلية.
وصور الكاتب المشهد في السودان ودعم أطراف خارجية للمتحاربين فيه، فقد حصلت قوات الدعم السريع على دعم تكتيكي من دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تعتبر سوقا رئيسية للذهب المستخرج من المناطق التي تسيطر عليها الجماعة شبه العسكرية وإلى حد ما، روسيا. أما الجيش السوداني فقد حظي بدعم مصر وتركيا وإيران. وقد فشلت جهود التوسط في هدنة أكثر من مرة، حيث كان يتم انتهاك اتفاقيات وقف إطلاق نار محدودة بعد وقت قصير من التوصل إليها.
ويعتقد الكاتب أن الجيش السوداني وقائده الجنرال البرهان وإن باتا يملكان اليد العليا في ساحة المعركة، لكن الحرب ليست قريبة من النهاية.
ولا تزال قوات الدعم السريع تقاتل في محيط الخرطوم وتسيطر على مساحات شاسعة من جنوب وغرب البلاد، بما فيها معظم منطقة دارفور الشاسعة. وعلى الرغم من غضب خصومهم، اجتمعت مجموعة من مسؤولي قوات الدعم السريع وحلفائهم في كينيا الشهر الماضي واتفقوا على ميثاق يحدد إطار عمل حكومة موازية محتملة يمكن أن تنشأ في المناطق الخاضعة لسيطرتهم.
ويشير ثارور إلى ترددات الحرب في السودان على دولة جنوب السودان، فقد انهار اتفاق تقاسم السلطة الهش بين القادة المتنافسين في الجنوب، ويعود هذا في جزء منه إلى تعطل خط الأنابيب الرئيسي الذي ينقل منه نفط جنوب السودان إلى الشمال. وتقوم الحكومات الأجنبية بإجلاء موظفيها من جوبا، عاصمة الدولة، وسط تجدد العنف.
العودة إلى الحرب الأهلية
وحذر مسؤول كبير في الأمم المتحدة في البلاد من أن جنوب السودان بات "على شفا العودة إلى الحرب الأهلية". وعلى الرغم من الظروف البائسة في كلا البلدين، إلا أنهما لا يزالان ضحايا للإهمال الدولي. وقد أشار محللون وحتى قبل التقليص الصادم للمساعدات الخارجية الأمريكية من قِبل إدارة ترامب، إلى عدم وفاء بقية العالم بالتزاماته.
من جانبها، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقرير مصورا لمراسلها ديكلان والش حيث كان هو ومصور الصحيفة أول صحفيين غربيين يزوران وسط الخرطوم منذ اندلاع الحرب الأهلية قبل عامين، وكان حجم الخسائر لا يُصدق.
في القصر الرئاسي، الذي خلّفت المعارك آثارها في قلب العاصمة السودانية الممزقة، تجمع الجنود تحت ثريا بعد ظهر يوم الأحد، حاملين بنادقهم وقاذفات الصواريخ على أكتافهم، يستمعون لأوامرهم.
ثم انطلقوا، على سجادة حمراء كانت تُستقبل في السابق كبار الشخصيات الأجنبية، إلى وسط المدينة المهجور في مهمة للقضاء على آخر جيوب المقاومة من مقاتلي الميليشيات شبه العسكرية الذين اشتبكوا معهم منذ عامين.
منذ أن استولى الجيش السوداني على القصر الرئاسي يوم الجمعة، في معركة شرسة خلّفت مئات القتلى، سيطر على معظم وسط الخرطوم، مُمثّلا بذلك تحوّلا جوهريا في المصائر من المُرجّح أن يُغيّر مسار الحرب الأهلية المُدمّرة في السودان.
بحلول يوم الأحد، كان الجيش قد استولى على البنك المركزي، ومقرّ جهاز المخابرات الوطني، وفندق كورنثيا الشاهق على ضفاف النيل.
كان صحفيو صحيفة نيويورك تايمز أول من عبر النيل من وسائل الإعلام الغربية، إلى وسط الخرطوم، أو زاروا القصر، منذ اندلاع الحرب في نيسان/ أبريل 2023. ما رأيناه هناك أوضح كيف غيّرت أحداث الأيام الأخيرة مسار الحرب بشكل حاسم، لكنه لم يُقدّم سوى القليل من الأمل في انتهائها قريبا.
قال محمد إبراهيم، ضابط القوات الخاصة، مُشيرا إلى قوات الدعم السريع - القوة شبه العسكرية التي رعاها الجيش السوداني سابقا، لكنها الآن تُنافسه على السيطرة العليا: "لن نترك بلدنا للمرتزقة أبدا".
بينما كانت سيارة المراسلين تنطلق في شارع مهجور على ضفاف النيل، كان حتى أيام قليلة ماضية تحت سيطرة قوات الدعم السريع، كان حجم الدمار في إحدى أكبر مدن أفريقيا جليا.
فقدت الأشجار التي تصطف على جانبي الطريق أوراقها بفعل الانفجارات. وامتلأ مسجد بوابل من الرصاص. ودُمرت الوزارات والمكاتب الشاهقة، التي بُني بعضها بأموال من احتياطيات السودان الهائلة من النفط والذهب.
وتعرض المقر العسكري، حيث حوصرت مجموعة من كبار الجنرالات خلال الأشهر الثمانية عشر الأولى من الحرب، للقصف بالقنابل.
وتعرضت جامعة الخرطوم، التي كانت في يوم من الأيام مركزا للحوار السياسي، للنهب.
وأصبحت المنطقة التي شهدت انتفاضة شعبية لعشرات الآلاف من الشباب السوداني عام ٢٠١٩، أطاحت بالزعيم الاستبدادي للبلاد، الرئيس عمر حسن البشير، مهجورة. كل ما تبقى من تلك الأوقات المفعمة بالأمل هو حفنة من الجداريات الباهتة التي تحمل آثار الرصاص.
بدلا من ذلك، حمل بعض المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية السلاح للقتال في الحرب، وقد تجمعوا في أنقاض القصر الرئاسي يوم الأحد.
القصر الرئاسي
القصر الرئاسي الذي بناه الصينيون، والذي كان يتشاركه القادة العسكريون المتحاربون في البلاد قبل بضع سنوات فقط، تحول إلى هيكل مهترئ. غطى الغبار والحطام الأجنحة الوزارية وقاعات الدولة. انهارت الأسقف. كانت هناك ثقوب واسعة تُطل على النيل.
على أرض قصر قديم مجاور، شيده المستعمرون البريطانيون قبل قرن من الزمان، كان الجنود ينامون تحت الأقواس المتفحمة لمبنى مُدمر.
بدأت الحرب كخصومة بين الجنرالين المتنافسين، لكنها سرعان ما اجتاحت البلاد بأكملها، جالبة معاناة على نطاق واسع. تقول الأمم المتحدة إن الصراع أجبر 12 مليون شخص على ترك منازلهم، وأودى بحياة عشرات الآلاف، وتسبب في أسوأ مجاعة في العالم منذ عقود.
تُؤجج قوى أجنبية، مثل الإمارات وروسيا، القتال بتزويد أيٍّ من الجانبين بالأسلحة، ويخشى الكثيرون من أن يتحول إلى صراع إقليمي بجرّ دول مجاورة هشة مثل جنوب السودان أو تشاد.
فشلت الجهود الأمريكية للتوسط في السلام في السودان العام الماضي. ومن غير الواضح ما إذا كان الرئيس ترامب سيُبدي أي اهتمام، على الرغم من أن مؤيديه يقولون إن الموارد المعدنية الهائلة للبلاد قد تلفت انتباهه.
شهدت أكوام الأنقاض الملطخة بالدماء على درجات القصر على ضراوة المعركة يوم الجمعة. وبينما كان الجيش يتقدم، أصدر قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان دقلو، رسالة فيديو يحث فيها قواته على الصمود. وقال عدد من الضباط إنه عندما بدأ الهجوم الأخير، كان لا يزال بالداخل ما لا يقل عن 500 مقاتل من الميليشيات شبه العسكرية.
لكن عندما حاولوا الفرار، واجهوا كمائن قاتلة. أظهر مقطع فيديو صُوّر على بُعد نصف ميل من القصر، وتحققت منه صحيفة التايمز، عشرات الجثث متناثرة على طول الشارع، بجانب مركبات محترقة أو مثقوبة بالرصاص.
"هذا موسم صيد الفئران"، هذا ما أعلنه الضابط الذي صوّر الفيديو، مؤرخا إياه بتاريخ يوم السبت.
قال جنود إن مقاتلي قوات الدعم السريع المتمركزين في جزيرة توتي، عند ملتقى نهري النيل الأزرق والأبيض، حاولوا الفرار على متن قوارب. ولم يتضح عدد الذين نجوا.
دون تقديم تفاصيل، قال متحدث باسم الجيش السوداني إن "المئات" من المقاتلين شبه العسكريين قُتلوا. لكن العشرات من قوات الجيش لقوا حتفهم أيضا، كما قال جنود في تصريحات خاصة، في هجمات بطائرات مسيّرة شنتها قوات الدعم السريع وفي معارك أخرى.
قال آلان بوسويل، مدير مشروع القرن الأفريقي في مجموعة الأزمات الدولية، إنها "مسألة وقت فقط" قبل أن يستولي الجيش السوداني على المدينة بأكملها، مما أجبر قوات الدعم السريع على التراجع إلى معقلها في منطقة دارفور الغربية.
قال بوسويل: "إنه تراجع كبير عن وضعهم خلال العام والنصف الأول من الحرب، عندما كانوا يسيطرون على معظم الخرطوم".
لكن قليلين يعتقدون أن الحرب تقترب من نهايتها. فكل من قوات الدعم السريع والجيش السوداني مدعومان من قوى أجنبية قوية ضخت الأسلحة إلى السودان على مدار العامين الماضيين. وقدّر نائب رئيس السودان، مالك عقار، مؤخرا وجود 36 مليون قطعة سلاح صغيرة في البلاد، التي كان عدد سكانها قبل الحرب 48 مليون نسمة.
انهارت الجهود الدولية للتوسط في إنهاء الصراع عن طريق التفاوض، وصرح قائد الجيش السوداني، الجنرال عبد الفتاح البرهان، مؤخرا بأنه يفضل القتال على التفاوض.
على درجات القصر، تركت بقعة دم جديدة أثرا على المكان الذي قتل فيه صاروخ أطلقته طائرة مسيّرة تابعة لقوات الدعم السريع أربعة موظفين من التلفزيون الحكومي السوداني وضابطين عسكريين صباح الجمعة. أثناء زيارتنا يوم الأحد، حلقت طائرة مسيرة أخرى في السماء، مما دفع الجنود إلى الهرولة بين المباني. حثّونا على اللحاق بها بسرعة.
صرح العقيد ألغوني علي أسيل، القائد الذي قاد مجموعة من المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية الذين تحولوا إلى مقاتلين، بأن طائرات الدعم السريع تُقلع من قواعد في دارفور وتشاد، حيث تُشغّلها الإمارات، الراعي الأجنبي الرئيسي لقوات الدعم السريع. لم يُقدّم العقيد أسيل أي دليل يدعم هذه الادعاءات، لكن صحيفة التايمز ذكرت العام الماضي أن الإمارات تُشغّل طائرات وينغ لونغ 2 صينية الصنع من مهبط طائرات في تشاد يقع ضمن نطاق ضرب الخرطوم.
كما اعتمد الجيش السوداني بشكل كبير على الطائرات المسيرة وغيرها من المساعدات الأجنبية. ففي العام الماضي، حصل على طائرات مسيرة إيرانية ساعدته في السيطرة على أراضٍ في الخرطوم. وفي العام الماضي أيضا، حصل على ثماني طائرات مسيرة تركية الصنع من طراز بيرقدار TB2، والتي يقول المسؤولون الأمريكيون إنها ذات قيمة خاصة في النزاعات الأفريقية، وفقا لوثائق حصلت عليها صحيفة نيويورك تايمز. وكانت صحيفة واشنطن بوست أول من نشر هذه الوثائق.
بعد إخلاء مركز المدينة، انتقلت معركة الخرطوم الآن إلى المطار الدولي، على بُعد ميل ونصف من القصر. تُظهر صور الأقمار الصناعية أن مدارج المطار مليئة بقذائف المدفعية، ومليئة ببقايا طائرات الركاب التي دُمرت بعد اندلاع القتال عام ٢٠٢٣.
مع انتقال المدينة من سيطرة قوات الدعم السريع إلى سيطرة الجيش، يشعر مسؤولو حقوق الإنسان بالقلق من احتمال تعرض المدنيين المتهمين بالتعاون مع المتمردين لأعمال انتقامية. في كانون الثاني/ يناير، اتُهم الجيش بشن هجمات وحشية على من يُشتبه في تعاطفهم مع قوات الدعم السريع بعد استعادة مدينة ود مدني. وأعرب متطوعون في غرف الاستجابة للطوارئ، التي تُدير مئات من مطابخ الحساء في جميع أنحاء الخرطوم، عن خشيتهم من استهدافهم أيضا.
إذا نجح الجيش في الخرطوم، فمن المرجح أن ينتقل تركيز الحرب إلى دارفور، حيث يُحاصر مقاتلو قوات الدعم السريع مدينة الفاشر المنكوبة بالمجاعة، وهي المدينة الوحيدة في دارفور التي لا تخضع لسيطرتها. يوم الجمعة، سيطروا على بلدة المالحة، الواقعة على بُعد حوالي 130 ميلا شمال الفاشر. وقال سكان المدينة إن المقاتلين المحتلين منعوهم من المغادرة، وسط تقارير عن اعتقالات وقتل.