آخر تحديث: 4 يوليوز 2024 - 9:37 صمحمد صابر عبيد ينطوي مفهوم الاحتراف على أعلى درجات العناية المهنيّة والفكرية والثقافيّة وأبلغها؛ في أي عمل يحترفه المرء ويوقف حياته كلّها استجابة لمتطلباته وكيفيّاته وضروراته ونتائجه، إذ يتحول العمل المهنيّ الاحترافيّ -على صعيد الممارسة- إلى نوع من الكثافة والعمق والقصد؛ تجعل إمكانات الموهبة والاستعداد كلها جاهزة في مقامٍ قابلٍ للعمل تحت أي ظرف.
فحين تتكشّف القيمة الاحترافيّة عن طاقة استثنائيّة تستجيب للحظة الإنجاز فهي تتفوّق وتنجز ما يجب إنجازه؛ خارج إطار المزاج والرغبة والوعي المرتبط بلحظة معيّنة قد تكون عابرة، تفرض على المحترف إنجازاً ما لا يمكن تفاديه استجابة لحالة آنيّة شديدة الضرورة، وهو ما يقتضي -احترافيّاً- التوحّد بين أطراف العمليّة الاحترافيّة من أوّل عتبة إلى آخر عتبة.
ينبغي أن يتوفّر فعل الاحتراف في أوّل خطوة من خطواته على “القصديّة” المُحمّلة بمعاني التخطيط والإحاطة والمعرفة والهدف، فضلاً عن الإيمان العميق بجدوى هذه الممارسة العالية النوعيّة والخصوصيّة؛ وهي تقوم أساساً على إدراك الموهبة والاستعداد والصبر والتضحية، والذهاب بأقصى ما يمكن نحو هذا الفضاء والعمل الجديّ فيه؛ للوصول إلى لحظة الاستحصال المركّز للخبرة بما تحويه من ممكنات وكنوز معرفيّة مضيئة، وهو ما يحتاج فعلاً إلى إتقان الأدوات بأعلى وأندر كفاءة ممكنة؛ تسهّل فعاليّات الممارسة الاحترافيّة على أمثل ما يكون وأصدق ما يكون وأرقى ما يكون، بحيث تصل الفكرة الاحترافيّة إلى معنى الجودة القصوى في التحضير والأداء والإنتاج ومن ثمّ التسويق والتداول.
يقتضي السلوكُ الاحترافيّ ذكاءَ التعامل الصارم مع مفردات الزمن وتفاصيله ووحداته وأسراره؛ وضبط حركته بما لا يسمح للمحترف بهدرِ أيّ دقيقة ممّا هو متاح له من وقتٍ للعمل، فالزمن على هذا النحو محسوب ومقنّن بدقّة كبيرة، وضياع الدقيقة قد يكلّف كثيراً في سياق التلاؤم العالي بين الوحدة الزمنيّة وما تنتجه من أداء؛ ويُحدِث على أساس هذا التضييع لهذه الوحدة خللاً في فكرة الاحتراف وقوانينها الدقيقة والجادّة، بما يؤثّر على فعاليّة منظومتها العاملة في أكثر من سياق، إذ لكلّ دقيقة من العمل الاحترافيّ معنى وقيمة وحدود إجرائيّة قاسية؛ وقصديّة عالية تؤدّي فعاليّة معيّنة لا سبيل إلى التلاعب بجوهرها لتُنتِجَ نتيجة محدّدة.
يظلّ الزمن امتحاناً عسيراً واختباراً قاسياً للمحترف؛ ربّما يعاينه بوصفه الأكثر أهميّة وخطورة في الميدان، ومع مضاعفة الخبرة والتجربة تكون صورة الزمن الاحترافيّ قد بلغت أوجها؛ في السبيل نحو استثمار التفاصيل الزمنيّة بطريقة ذكيّة وعارِفة لتحقيق أفضل إنجاز ممكن، يبقى حاضراً ومؤثّراً داخل مديات زمنيّة لا حدود لها، وهذه اللعبة الزمنيّة داخل دائرة الاحتراف لا بدّ أن تكون من أولى أولويّات العمل الاحترافيّ، بحيث تكتسب وجوداً أصيلاً قائماً على النظر إلى عامل الزمن بوصفه العامل الأهمّ داخل منظومة العمل الاحترافيّ بأسرها.
لا بدّ للاحتراف- في آليّة مركزيّة من آليّات تشكّله- أن يذهب باتجاه تجفيف منابع الحسّ العاطفيّ؛ إلى درجة واضحة لا تصل في نهاية المطاف إلى طبقة الإلغاء التامّ لأطياف هذا الحسّ، لكنّها تُقنّنه إلى مستوى يكفّ فيه عن المبادرة والحريّة المطلقة في الحضور والتأثير وتغيير المسارات، بما يسمح بأكبر قدر من التجويد المستمرّ لجوهر العمل الاحترافيّ في حراك إنتاجيّ لا يتوقّف، وبأقصى حالات التلاؤم والانسجام والفاعليّة القادرة على بلوغ النتائج المخطَّط لها على نحو دقيق ومبدع، ضمن فضاء عام تتوازى فيه الأشياء وتتّحد وتشتبك؛ لأجل الحصول على النتائج المطلوبة بأقلّ ما يمكن من الهفوات والأخطاء والسلبيّات.
تحمل فلسفة الاحتراف مجموعة كبيرة من القضايا والأولويّات والمنطلقات والمرجعيّات والأسس، تسهم كلّها مجتمعةً في تطوير شكل “الشخصيّة الاحترافيّة” ومضمونها؛ بما يستجيب لمفهوم الاحتراف على المستوى النظريّ والإجرائيّ والتداوليّ معاً، لأنّ هذه الشخصيّة في النهاية هي العنصر الحاسم في عمليّة الإنجاز بالمستويات والطبقات كلّها، ومن غير النجاح الأكيد والواضح في تكوينها وبناء طبقاتها بدرجة أصيلة وكثيفة وعميقة من القوّة والمعرفة والثقة والخبرة، لا يمكن وضع اليد على المفاتيح السريّة للعمل الاحترافيّ في قدرتها على فتح مغاليق الموضوعات والأفكار المؤهّلة للكشف والاكتشاف.
تتقصّد الشخصيّة الاحترافيّة- وهي تخوض عملها الاحترافيّ في تدرّجاته ومستوياته ومراحله- إحاطةَ ميدان العمل والإنتاج بدرجة عالية من السريّة، وعدم كشف آليّاته الفاعلة مهما كانت الأسباب والمبرّرات، فالسريّة في هذا الإطار تضمن حريّة العمل ورحابة التجريب المستمرّ للانتقال الدائم من مسار إلى مسار آخر أكثر جدوى، فالذي يهمّ “الآخر” هو المنتج الأدبيّ الإبداعيّ الخاصّ بالمبدع المحترف؛ وما يتحلّى به من قيمة وجوهر وتأثير وجماليّة وحساسيّة نوعية؛ بوسعها إثارة مجتمع التلقّي وتحريضه على استنهاض طاقات الاستقبال الكاملة لديه.
تتشكّل ظروف ولادة الاحتراف بعد أن تتجاوز الموهبة أعرافها التقليديّة وتغتني بكثير من الإنجازات المبدِعة، وتصل عندها هذه الموهبة إلى طريق شبه مسدود خوفاً من التكرار الذي يخفق في فتح مجالات جديدة؛ ممّا يستوجب الانتقال نحو فضاء الاحتراف على نحو يجعل من الموهبة بعد العمل على وصلها بالاحتراف أداة ذات طاقة كبيرة؛ لأجل إنجازٍ أوسع وأكبر وأعمق وأشمل وأكثر دواماً واستمراراً وتطلّعاً.
إنّ الموهبة مهما كانت كبيرة وكثيفة وعظيمة تظلّ محدودة الإنجاز؛ إذا ما اكتفى صاحبها بما تمنحه إياه من منجزات لها حتماً عمر محدود، غير أنّها أذا ما انتقلت إلى منطقة الاحتراف على وفق أسس متينة وصحيحة وجوهريّة؛ فإنّها تنفتح على مجالات شاسعة بحيث يكون لها القدرة على تجديد نفسها بنفسها، لفرط ما تقتضيه عمليّة الاحتراف من أساليب ومساحات عمل تذهب باتجاه الاكتساب والإضافة والتحديث المستمرّ.
يُعدّ الاحتراف الأدبيّ عندنا أعقد أنواع الاحتراف بسبب أنّ مساحة العمل الأدبيّ الاحترافيّ في المجتمع العربيّ ضيّقة، لأنّ النظرة المتخلّفة إلى هذا العمل بوصفه نوعاً من الترف -الذي لا يمكن أن يؤدّي وظائف ترتفع إلى مرتبة الاحتراف- تعيق فعاليّة الاحتراف التي تحتاج إلى وسائل وآليّات وقضايا ترتفع بفكرة الاحتراف الأدبيّ إلى مقام عالٍ، في حين يحظى هذا الاحتراف في الثقافة الغربيّة بعناية بالغة تتفوّق على كثير من أشكال الاحتراف الأخرى، لأنّ نظريّة استثمار الثقافة والفكر والمعرفة لا تحظى بأهميّة تُذكَر في ثقافتنا العربيّة على الإطلاق، كما هي الحال في الثقافة الغربيّة وهي تعدّ هذا النوع من الاستثمار أعلى وأهمّ وأخطر أنواع الاستثمارات، وتسخّر له كثيراً من العناية على المستويات الإنسانيّة والماديّة والعمليّة كافّة.
المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: ة الاحترافی ة الاحتراف على ة الاحتراف
إقرأ أيضاً:
ماذا نعمل؟، ماذا يمكن أن نعمل؟
عدنان علي الكبسي
في غزة الجريحة يُقتل الآلاف المؤلفة من الأطفال والنساء بجرائم بشعة ووحشية للغاية، والعدوّ الإسرائيلي يلقي قنابله المدمّـرة والفتاكة على ذلك التجمع أَو ذاك التجمع، فتمزق الكثير من أُولئك المستضعفين من الأطفال والنساء والناس إلى أشلاء، وتتفحَّم جثامين أكثرهم، والبعض قد يصابون بجراحات كبيرة جِـدًّا، والبعض جراحات قاتلة، ولا من مسعف لهم، ولا من منقذ، يتجرعون الموت حتى يفارقوا الحياة ولا من مغيث.
أطفال في غزة لا يزالون يعانون من الجراحات، ودماؤهم تنسكب، وأجسادهم تتلوى من الألم، تذرف دموعهم وهم يصرخون من الأوجاع، وبعضهم يفارق الحياة من أمعائهم الخاوية من أقل الزاد والطعام.
ينام الفلسطينيون في غزة فلا يستيقظون، خائفون لا يأمنون، ويتفرقون فلا يجتمعون، وإن تجمعوا فرقت غارات العدوّ الصهيوني أجسادهم، ومزجت دماءهم، فلا تفرق بين هذا وذاك من تفحّم أجسادهم.
الشعب الفلسطيني يعيش بين مخالب وحوش مفترسة تنهش عظمه ولحمه من كُـلّ جانب، عدو للأُمَّـة يقتلها بدم بارد، وعالم منافق صامت، وأمتها بين راضٍ ومتشفٍ بها، مد جسر الصداقة والمحبة لغدة سرطانية خبيثة بدعمها السخي وجود كرمها ليتمادى أكثر في طغيانه وإجرامه.
وعلماء أمتها تزينت لهم أعمالهم السيئة فهم يعمهون، أخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم، حرصًا على مكانتهم عند سلاطين الجور والذين هم على مرأى ومسمع من العالم عملاء لأعداء الأُمَّــة، فمثلهم كما ذكر الله ذلك في كتابه العزيز كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أَو تتركه يلهث، غواة يعملون على تدجين وإضلال الأُمَّــة، يوظفون العناوين العلمية في العلوم الدينية خدمة لأعداء الأُمَّــة.
شعوب أمتها بكل طوائفها وانتماءاتها وأحزابها تقف متبلدة، جامدة باردة، لا تحسبنهم إلا في عداد الأموات على مستوى الوعي والإدراك، ماتت الضمائر، وتبلدت الأحاسيس وقست القلوب، وتحجرت الأفئدة، فلم يعد يتبقى لديها ولا حتى أحاسيس ومشاعر الإنسانية.
فالبعض قد يقف في حيرة لا يدري أين يذهب؟ وماذا يعمل؟ وما الذي يجب عليه أن يعمله؟ وهذا لا شك أنه من أُولئك الذين استهوتهم الشياطين فهم حيارى، في حيرتهم يتخبطون.
مشهد من تلك الجرائم، مشهد كبير ودامي ومؤلم جِـدًّا، ويتكرّر يوميًّا، وتكرّر بكثير وكثير؛ حتى طال الآلاف من أبناء غزة، وأنت كُـلّ يوم ترى منزلًا مدمّـرا، أَو تجمعًا بشريًّا في سوق، أَو في مسجد، أَو في مستشفى، أَو في مدرسة، أَو في مخيم، يكفي أن تبقى فيك بقايا من إنسانيتك؛ لتتألم، ولتدرك بشاعة ما يفعله أُولئك الطغاة المجرمون بمثل هذه الجرائم التي يرتكبونها كُـلّ يوم، هذا بنفسه كافٍ في أن يكون لك موقف.
أمام هذه الجرائم بعض الناس يقول ماذا نعمل؟، نحن ما باستطاعتنا أن نعمل شيئًا!؛ لأَنَّ البعض ما في ذهنه إلا قضية إن ما عنده صاروخ ودبابات، وأشياء من هذه يقاتل بها!.
الذي يقول ماذا نعمل؟ هذه وحدها تدل على أننا بحاجة إلى أن نعرف الحقائق الكثيرة عما يعمله اليهود وأولياء اليهود وأذنابهم، يقول الشهيد القائد رضوان الله عليه: (من يقول: [ماذا نعمل؟]. نقول له: ميدان العمل أمامك مفتوحٌ أمام الجميع مفتوح، المطلوب أن تتحَرّك لا أن تتساءل، ميدان العمل فيه ما يكفيك أن تعمل بكل قدراتك وبكل طاقاتك مهما كانت، فكيف تتساءل [ماذا نعمل؟] وكأنه ليس هناك ما يمكن أن نعمله).
اجعل من نفسك عنصرًا فاعلًا متحَرّكًا في تعبئة الأُمَّــة التعبئة الجهادية في كُـلّ المسارات، تحَرّك بصدق مع الله، وثقة قوية بالله، في إطار الثقلين كتاب الله وعترة رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله).
لا تبرّر لنفسك القعود، ماذا نعمل؟ يقول الشهيد القائد رضوان الله عليه: (ميادين العمل مفتوحة، تتسع لأن تشمل كُـلّ طاقاتك، طاقاتك المعنوية وطاقاتك المادية، لكن حاول أن تغير من نفسك حتى تصبح إنسانًا فاعلًا قادرًا على تغيير نفسية المجتمع بأكمله نحو الأفضل، نحو الأصلح، نحو العزة، نحو الشرف، نحو الاهتداء بهدي الله، نحو طريق الجنة طريق رضوان الله سبحانه وتعالى).
غيِّرْ من نفسية مجتمعك لتجعلَه ثائرًا لا جامدًا، حركه في مسيرات ومظاهرات، حركه في التأهيل والتدريب ضمن قوات التعبئة العامة، اصنع رجالًا يصرخون في وجه الاستكبار العالمي، وإن كنت في مجتمع كالمجتمع السعوديّ أَو الإماراتي أَو حكومتك تكمم الأفواه فعلى الأقل حرك مجتمعك في دعم حركات الجهاد والمقاومة بالمال، حركه إذَا أغلقت في وجهك الأبواب حتى في المقاطعة للبضائع الأمريكية والإسرائيلية.