يرى المفكر الفرنسي فرانز فانون في كتابه «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء» أن الاستعمار يعمل على تشويه الهوية الذاتية للشعوب المستعمرة من خلال فرض لغة وثقافة المستعمر عليهم، مما يؤدي إلى اغتراب داخلي وفقدان الذات، ويعتبر فانون أن هذه العملية ليست مجرد جانب من جوانب الهيمنة الاقتصادية أو العسكرية، بل هي جزء من استراتيجية أوسع للسيطرة النفسية والثقافية.


إلَّا أنَّ الاستعمار الإسرائيلي في أرض فلسطين يتجاوز بوحشيته كل أشكال الاستعمار الحديث، فهو لا يسعى فقط إلى تغيير الفلسطينيين واستبدال ثقافتهم بل يسعى إلى محوهم وإقصائهم تمامًا. يتجلى هذا السعي في أبشع صوره في قطاع غزة، حيث تتعرض كل زاوية وكل أثر لوجود فلسطيني لمحاولات الإبادة، فالاستعمار الإسرائيلي لا يكتفي بطمس الهوية بل يسعى لإبادة كل شيء يحمل بصمة فلسطينية، في محاولة لاقتلاع الشعب الفلسطيني من جذوره ومحو كل صلة له بوجوده وأرضه.
من خلال هذه السياسات القمعية والتدميرية، يظهر بوضوح أن الهدف ليس فقط السيطرة على الأرض، بل القضاء على الوجود الفلسطيني.
ففي قلب غزة، المدينة المحاصرة، تتعاظم المأساة يومًا بعد يوم، حيث تصبح الحياة رهينة للدمار المستمر والفواجع التي لا تنقطع، فصواريخ الاحتلال لا تفرق بين شيخ كبير وطفل صغير، ولا بين منزل يأوي عائلة ومدرسة كانت يومًا ملتقى للعلم والمعرفة. هذا العنف الأعمى لا يستثني أحدًا، وكأن الأبرياء في غزة محكومون بأن يكونوا شهداء أو شهودًا على تدمير مستقبلهم أمام أعينهم.
فحتى الأطفال في غزة، الذين ربما لا يدركون ما يجري حولهم، يواجهون الآن واقعًا لا يمكن تخيله، فأصبحوا يدونون أسماءهم على جلودهم الناعمة علامات، ربما كرسالة أخيرة لمن يجد أجسادهم، رسالة تحكي عنهم وتقول إنه كان وراء هذا الجسد الصغير حكاية لم تكتمل.
ومع استمرار حرب الإبادة على غزة، يزداد تعود العالم على المأساة الإنسانية التي تجري في غزة. المجتمع الدولي، رغم التنديدات المتكررة، يبدو عاجزًا عن التحرك الفعَّال لوقف هذا العدوان. الأمم المتحدة والجامعة العربية، بكل مؤسساتها وإمكانياتها، تقف مشدوهة أمام مشهد الدمار الذي لا يتوقف، مما يضع علامات استفهام كبرى حول فعالية هذه الهيئات في حماية الحقوق والحياة.
بينما تتجلى نية الإبادة للاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، ليس فقط من خلال الفظائع التي تُرتكب بحق الأبرياء، بل من خلال السعي الممنهج لمحاولة محو الهوية الفلسطينية من الوجود بشكل كامل، حتى عبر إزالة كل ما يمكن أن يشير إلى وجودها التاريخي والثقافي، إذ لا تقتصر الهجمات على القصف العشوائي الذي يستهدف البشر والبنى التحتية فحسب، بل تمتد لتشمل المعالم التاريخية والثقافية والعلمية، حيث يتم تدمير الجامعات والمدارس، مما يؤدي إلى تجريف الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني وقطع صلاته بماضيه وهويته العميقة.
فمنذ أكثر من 8 أشهر، دمَّر جيش الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 200 موقع أثري في غزة، في مسعى واضح لكيِّ الوعي الثقافي ومحو الأدلة الأثرية التي تشهد على الحضور الفلسطيني القديم في الأرض. تعددت الأساليب البربرية في هذا الإطار، حيث يُستخدم البحث المزعوم عن أنفاق حماس كذريعة لاستمرار تدمير المساجد والمستشفيات بطريقة شنيعة.
كما أشار المؤرخ البلجيكي لوكاس كاترين في مقاله الأخير، فإن ما يجري لا يمكن اعتباره إلا إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني، كما ترى محكمة العدل الدولية، ومع ذلك، فإن الأمر لا يقف عند هذا الحد بل يتعداه إلى تدمير تاريخ وتراث الشعب الفلسطيني على يد الجيش الإسرائيلي بشكل متعمد وممنهج.
الاعتداءات على المواقع الأثرية والتاريخية ليست مجرد هجمات على الحجر، بل هي محاولات لطمس الرواية والوجود الفلسطينيين، ومن الأمثلة المأساوية على ذلك، المسجد العمري الكبير ومسجد السيد هاشم، واحد من أقدم المساجد في غزة، اللذان شهدا تدميرًا ممنهجًا، أيضًا، تم نهب المواقع الأثرية بطريقة منظمة، حيث تم نقل محتويات موقع أنثيدون الهلنستي إلى تل أبيب، وهو ما أعلن عنه إيلي إسكودو، رئيس سلطة الآثار الإسرائيلية، في إحدى تصريحاته عبر إنستغرام.
هذه السياسات لا تعكس فقط رغبة في السيطرة العسكرية، بل تدل على محاولة محو الوجود الفلسطيني ذاته من الذاكرة الإنسانية، في عملية إبادة ليست للأجساد فقط، بل للهوية والتاريخ أيضًا.

*كاتب من أوزبكستان

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

استشهاد أسيرين من قطاع غزة في سجون الاحتلال الإسرائيلي

أعلنت مؤسسات الأسرى الفلسطينيين، اليوم الأربعاء، استشهاد معتقلين من قطاع غزة في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وذلك ضمن جرائم الاحتلال غير المسبوقة بحق الأسرى.

وأكدت مؤسسات الأسرى، استشهاد المعتقلين من قطاع غزة محمد شريف العسلي، وإبراهيم عدنان عاشور في سجون الاحتلال، دون ذكر تفاصيل إضافية.

وقبل نحو شهر، استشهد الأسير الفلسطيني أشرف محمد فخري عبد أبو وردة، البالغ من العمر 51 عامًا من قطاع غزة، في مستشفى سوروكا بالداخل المحتل.

وقالت هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير، إنهما علمتا باستشهاد الأسير أبو وردة بعد نقله من أحد سجون النقب إلى مستشفى سوروكا بتاريخ 27 كانون الأول/ ديسمبر الماضي.

وبلغ عدد الشهداء المعلن داخل سجون الاحتلال خلال فترة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة 57.



وبحسب مؤسسات الأسرى، فإن هذا الرقم هو الأعلى تاريخيا في هذه المرحلة الأكثر دموية في تاريخ الحركة الأسيرة منذ عام 1967.

وأكدت المؤسسات أن ما يحدث بحق المعتقلين هو مجرد الوجه الآخر لحرب الإبادة الجماعية التي تستهدف المزيد من الإعدامات والاغتيالات، مشددة على أن أعداد الشهداء تتزايد بوتيرة كبيرة، وقُتل آلاف المعتقلين ويواجهون تحولا أخطر من خلال احتجازهم في سجون الاحتلال واستمرار تعرضهم للجرائم النظامية، خاصة التعذيب والتجويع ومختلف أشكال الاعتداء والجرائم الطبية والاعتداء الجنسي.

واعترفت إدارة السجون الإسرائيلية بأن عدد المعتقلين الفلسطينيين قد تجاوز 10300 معتقل، في حين لا يزال المئات من معتقلي غزة محكومين بتهمة الإخفاء القسري في المعسكرات التي يديرها الاحتلال، وكان من بين المعتقلين 90 معتقلة، وما لا يقل عن 345 طفلا، و3428 معتقلا إداريا.

ونفذ جيش الاحتلال في السابع من أكتوبر لعام 2023 حربا وحشية في قطاع غزة، وصفت بأنها إبادة جماعية، واستمرت لمدة 15 شهرا، وأدى إلى استشهاد نحو 47 ألفا و354 شخصا، إلى جانب 111 ألفا و563 مصابا، غالبيتهم من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى وجود أكثر من 11 ألف مفقود تحت الأنقاض.

مقالات مشابهة

  • استشهاد فلسطيني برصاص الاحتلال الإسرائيلي في نابلس
  • بدء عملية إطلاق سراح 110 أسرى فلسطينيين من سجون الاحتلال الإسرائيلي
  • هل يتعاون ترامب مع مصر لإيجاد حل للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي؟ كاتب يوضح
  • مكتب الأسرى: الاحتلال يحاول النيل من معنويات عائلات المفرج عنهم
  • ما الأسرار التي يحاول ترامب كشفها حول اغتيال الرئيس جون كينيدي؟
  • استشهاد أسيرين فلسطينيين من غزة في سجون الاحتلال الإسرائيلي
  • استشهاد أسيرين من قطاع غزة في سجون الاحتلال الإسرائيلي
  • قتل.. تدمير ..حرق منازل.. وطرد عائلات .. واعتداءات متواصلة
  • أميرة صابر: الشعب الفلسطيني قدم ملحمة صمود كبيرة أمام العدوان الإسرائيلي ورفض مخطط التهجير
  • الرئاسة الفلسطينية تطالب الإدارة الأمريكية بوقف العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني