القصيدة الشعبية الإماراتية.. شواهد من بديع الصورة
تاريخ النشر: 4th, July 2024 GMT
محمد عبدالسميع
أخبار ذات صلة سرور بن محمد يزور الأرشيف والمكتبة الوطنية 24 ألف درهم لمشترٍ تعويضاً عن الأضرار الماديةمن الرائع والجميل أن يتوفر لدينا أرشيفٌ مهمٌّ وغنيٌّ للأغنية الشعبية الإماراتية، ليكون هذا الأرشيف أرضاً خصبة لأكثر من قراءة، في المواضيع والأفكار، وفي جماليات الكتابة والصُّور الفنية والبحور الشعرية المستخدمة في هذه الأغنية.
وكان الحنين والشوق والتصبّر أمام الفراق غرضاً يكاد يكون طاغياً في الأغنية الشعبية، أغنية البحر، إذ تشتمل الأبيات السريعة المرتجلة على أكثر من فكرةٍ مساندةٍ في الحكمة والموعظة وحُلم ما سيأتي من مستقبلٍ للقاء الأحبّة والاجتماع بهم. ولأنّ الأغنية بُنيت على الشعر أساساً، فإنّ ما في أيدينا من أشعار وكلمات تؤكّد هذا المعنى، معنى التخصص أو البراعة في إجادة وصياغة هذه الكلمات، حين تكون «الحواجب سهماً مسلولاً»، وحين يكون «الدرُّ»، و«اللؤلؤ» من متعلقات الغزل بالمحبوب، كما في أبيات الشاعر الإماراتي أحمد الهاملي: «بوخد براق اترسّل/ فيه الحواجب سهم مسلول/ بومضحك ياضي ويشعل/ به در به لولو به اعسول»، كما تظهر المعاناة لدى الشاعر خلفان بن يدعوه في بعده عن الحبيب، وذلك أصعب لديه من الغوص و«غرز الغبيب»، كنوع من المقارنة بين الحالتين.
اقرأ أيضاً:
الأغنية الشعبية الإماراتية.. وتشكيل السرد
أدباء وفنانون: الأغنية الشعبية إبداع عابر للفنون
غناء النّهامين
وتقول الأشعار التي جمعها المؤرخون والمهتمون ما هو رائعٌ من البوح، وتنطق بكلّ هذه العاطفة الغنية والصادقة التي توارثها الناس ورددوها وانتبه إليها المغنّون، بل لقد حضرت «النّهمة» ورجالها النّهامون الذين أبدعوا في الغناء المرتبط برحلة الغوص، ومعنى «النهمة» إثارة الحماس بين العاملين، ومن هذه المقطوعات المبهرة أنهم يصفون المشهد ويتأوهون لـ«صافي الخد» في يومٍ أطبق بسواده النفسي عليهم وهم في عملهم هذا بعيدون عن الديار: «يوم رقّ الليل واسودّي/ يا همومٍ بتّ اجاسيها/ بتّ اجاسي صافي الخدّ/ دمعتي م الموق ياريها»،.. وهكذا، فهم يعاينون «الشرتا» (الريح)، واجدين فيها كلّ ذكرى أو خبر أو حنين إلى من يحبّون ومن تركوا قلوبهم رهينة في أيديهم حتى يعودوا من هذه الرحلة الطويلة والشاقة وغير مضمونة المخاطر: «شرتا لفح من برّه/ ياني مبرد هواه/ هيا اعيلوا باليرّه/ حتى نوصل جداه/ بو قصةٍ مسمرّه/ لي بالطيب محشاه».
السفينة والشراع
ولقد كان الشراع حاضراً أيضاً، كعنصر مما يرون من عناصر في رحلة البحر، بل إنّ السفينة الضّامة لكلّ هذه العناصر والأجزاء كانت حاضرةً جزءاً أو كلاًّ، كما في قولهم: «يا ذا الشراع الداير/ عد لا يزيت بخير/ ذكّرت قلبٍ صابر/ وانوي على المسير»، حيث «يزيت: جزيت»، فمن ناحية جمالية يأسرنا التعبير بنداء الشارع الدائر وأنسنة هذا الشراع، واستذكار الأحبة، وطلب العودة، والمكاشفة بهموم العشاق.
وكأيّ رحلة صعبة، لابد أن يرافق البحارة دعاؤهم وتوكّلهم على من يسيّر أمورهم، ويرعاهم حتى يعودوا للديار، وفي هذا، فإنّ المقطوعات كثيرة في التوكّل على الله العليم بحال الشعراء والعاملين في البحر.
بل إنّ البحّارة لا يأمنون البحر كثيراً، ويخافون من غدره وينادونه، ويستحلفونه بالله ألا يغدر، فقد أمات كثيراً من الناس، وهذا دليلٌ على فجيعة الناس وذاكرتهم الطويلة مع هذا البحر، ويكفي أن تكون هذه المقطوعة المغنّاة دالة على هذا الخوف والرجاء، حيث النداء: «توب توب يا بحر/ ما تخاف من الله يا بحر/ موتت الناس يا بحر»، فالبحر على هذا ليس شفيفاً دائماً أو رومانسيّاً، بل هو على خوفٍ وعدم اطمئنان، فهم ينادونه بالتوبة والرجوع عن خطف الأحبّة والسفر بهم إلى المجهول.
الونّة والتغرودة
وإذا كان البحر جمع حناجر وكلمات رائعة في أغراض ألِفَها الناس والمشتغلون بالبحر، فإنّ القصائد البدوية أيضاً لم تكن لتخلو من الغناء، فلها هي الأخرى أغراضها وطبيعتها وموسيقاها، حيث نجد الونّة والتغرودة والردح، كما أنّ الغناء أيضاً ارتبط بحياة الناس وأعراسهم ومناسباتهم، بل لقد ارتبط الغناء في المناطق الزراعية بالمواسم والحصاد وحياة الناس، وهو ما يدلّ على تنوّع البيئة الإماراتية وتنوّع طرق التعبير الغنائية عن هذه البيئة. ومن أغاني الإمارات القديمة التي يشير لها الباحثون قصيدة الشاعر راشد الخضر التي يقال إنّ عمرها 80 عاماً، وجاءت بعنوان «دنق»، حيث برزت فيها، كقصيدة مغناة، روعة الرومانسية الشعرية في الشمس التي تشرق من محيّا المحبوب، وونة الشاعر تجاه هذا الحبّ، حيث يقول الشاعر: «دنق ودنق قلبي وياه/ فزّ وقعد قلبي محله/ الشمس تشرق من محياه/ وبدور وبروق وأهله/ أخضع واحازي به محازاه/ واقوم بالمايوب كله/ غالي واداري له مداراه/ تعبان قلبي في حوىً له/ أصاصره لو ما احد حذاه/ واغض صوتي خاضعٍ له/ جسمي نحيل وونتي آه/ والدمع كم عيني تهلّه..».
رسائل المحبين
كما ترد في الأغنية الشعبية الإماراتية رسائل المحبين، وعتابهم لمن قطعوهم في الوصل، فما من «كلمة» وما من «مرسال» أو «هاتف»، أمّا الوشاة والعذال، فقد كانوا حاضرين في هذه القصائد ويعملون دون التقاء المحبين وصفاء أحوالهم، كما تقول كلمات هذه القصيدة المغناة تحت عنوان «نسيتونا حبايبنا»: «نسيتونا حبايبنا/ تركتونا وشغلتوا البال/ قطعتوا وصالكم عنا/ ولا كلمه ولا مرسال/ ولا هاتف يطمّنا/ ولا نظرة تريح البال».
وعودةً إلى روعة كلمات النهّامين وهم يصفون لواعج النار في قلوبهم، كنار لا تنطفئ أبداً، حيث يقول النهّام: «نار في قلبي مواريه/ البحر ما اظنّ يطفيها/ تشتعل في لبّة حشايا/ كوس والغربي يزاغيها»، وقوله: «هب وابرد يا هوى الكوسي/ هات لي من الصاحب بشاره/ لي خويٍّ ساير الغوصي/ على هيرٍ زين محّاره».
أغاني الطفولة
لأنّ الأمثلة كثيرةٌ والروعة تتجدد دائماً في كلّ أغنية بحر أو شكوى من هجر، فإنّ للطفولة أيضاً حضوراً في الأغنية الشعبية الإماراتية، إذ نرى فيها هدفاً قصصياً وأدبياً في الحكاية المبنية على سرعة الإيقاع في الموسيقى وتنوّع القوافي في بعضها، كقولهم من التراث: «يمي وعيني غبشه/ بلقط نخل خلفان/ بسوي لي ضميده/ بطرشها عيمان/ عيمان ما تستاهل/ تستاهل غرفة بيضة/ مليوصة بزعفران/ الزعفران المري/ على الخدود ارضوف/ يا الغرفة الشرجية/ بناج ابو علي/ حق عيشة البدوية/ بنت محمد علي/ أبا عندها شفية/ في نيره ولا جني/ والحنا بتحنابه/ والعود الصندلي»،.. وهكذا، فإنّ الحكاية تُعدُّ عنصراً أساسياً في أغنية الطفل الشعبية في الإمارات، كما أنّ العلاقة الحميمة بين الطفل الناطق في هذه الكلمات والمخاطب تبدو علاقةً رائعةً وجميلةً وصادقةً، كما في قولهم: «عمتي مرت ابويا/ يوم يابولي هديه/ دستها في الزويه/ تحسبني طلابه/ اطلب على البيبان/ ما كان ابويا تاجر/ يصوغ لي الدلالي/ دلالي باربع إميه/ ومعلقه في الخيده/ جنّي من بنات هلال».
التشويق والانتقال
في أغنية «حمامه نودي نودي»، وصف لجمال الرحلة إلى مكة: «حمامه نودي نودي: سلمي على سعودي/ سعودي سار مكه/ إيّب ثياب عكه/ احطه بصنيديقي/ صنيديقي ماله مفتاح/ والمفتاح عند الحداد/ والحداد يبغي فلوس/ والفلوس عند العروس/ والعروس تبغي عيال/ والعيال يبغون حليب/ والحليب عند البقر/ والبقر يبغون حشيش/ والحشيش يبغي مطر/ والمطر عند الله/ لا إله إلا الله/ محمد رسول الله».
فهذه المقطوعة المسبوكة بعناية التشويق والانتقال بالسببية من مجال إلى مجال آخر، تفتح ذهن الطفل ووجدانه على الأشياء والسَّفر ومتعلقات هذا الانتقال، ثم الختام بأجمل هدف تربوي هو الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتوحيد الله، وبالطبع فإنّ أغنية الطفل لها مجالات عديدة في الأعياد والمناسبات المختلفة وروعة عالم الطفولة والحكايات وطلب الهدايا، وفي مواضيع رائعة وعديدة تستحقّ الدراسة، من أكثر من منظور.
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الفنون الشعبية الإماراتية الإمارات الفنون الشعبية الأغنية الشعبية
إقرأ أيضاً:
تاح تاح تاح تحسم بالسلاح: الأغنية السياسية في الحرب (1-2)
ملخص
جاء الغناء عن حب الوطن في السودان مدراراً ومن بابين، الأول هو حب مطلق مثل “أمتي يا أمة الأمجاد والماضي العتيق”، أما الثاني فهو ما نعى >فيه المغنيون غربتهم عن الوطن في المهاجر وذاع ذيوعاً كبيراً خلال أيامنا
في واقع النزوح الاستثنائي المأسوي بعد الحرب.
سأل صحافي خلال تسعينيات القرن الـ20 عدداً من الشباب في مناسبة
ذكرى ثورة أكتوبر 1964 ضد ديكتاتورية الفريق إبراهيم عبود (1958-1964)، عما يعرفونها عنها. فقال أحدهم “ليس كثير شيء. ولكنها تبدو حدثاً مميزاً مما سمعته من الأغاني عنها”.
واحدة من جبهات الحرب الناشبة الغائبة عن غير السودانيين هي الأغنية السياسية على عظم دورها فيها. وللسودانيين باع طويل في هذه الأغنية التقليدية منها والحديثة حتى قال أحدهم إنهم يعيشون في خفض منها. وتفسير ذلك بسيط متى وقفنا على مناشئها في سياسة البلد ومجتمعها. ومن تلك المنابع أغنية الفروسية التقليدية التي تُستدعى حالياً في هذه الحرب، وهي أغان في مأثرة الفارس في القبيلة تنظمها شاعرة من دائرة قريباته. وتقوم الأغنية منها على ثلاث شعب هي صمامة الرأي والكرم والجلد في الحرب. فاشتهرت أغنية نسبت الفارس إلى آباء “بحلو للعوجات” (من عِوج أي الأمر المشكل)، وأن مطامير عيشه “للخالة والعمات”، وقلبه حديد في النزال. بل تمنت أخرى لفارسها ألا يموت على فراشه تذرف النساء الرماد حزناً على فراقه، بل تريده موتاً في ساحة الوغى بعجاجها الكاتح موشحاً بدمه.
وشكلت الأغنية السياسية عصب الحركة الوطنية ضد الاستعمار الإنجليزي (1898-1956). وأجاد فيها الشاعر الفنان خليل فرح (1894-1932). ولأغنيته “نحن ونحن الشرف الباذخ” حكاية طريفة مع استخبارات الاستعمار الإنجليزي التي كان صمويل عطية اللبناني موظفاً فيها. فكانت الأغنية ألهبت الشعور الوطني في وحدة مصر والسودان فأرادت المخابرات أن تعرف عنها وعن المغني أكثر. فدعا صمويل عطية خليل إلى مكتبه ليسمعها منه ولكنه قال إنه يفضل أن يسمعها منه إن أراد في بيته. فقبل صمويل واستقبله في بيته وسط لفيف من الشوام داخل السودان. وتحول المجلس من تحقيق استخباراتي إلى حفل طرب الحضور فيه للأغنية وردودها مع خليل، بل غنى لهم “أعبدة ما ينسى مودتك القلب” لعمر بن أبي ربيعة، فاكتمل المجلس العربي الطربي. وقال مرافق لخليل ليلتها إن صمويل شد على يدي الخليل معجباً، ومات التحقيق عن الأغنية.
وليس أدل من عيش السودانيين في خفض من الأغنية السياسية من قيامهم بثورات ثلاث لكل منها على حدة ملف كامل من تلك الأغاني. وتحولت أغنيات بعد ثورة أكتوبر 1964 مثل “أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باقي” و”أكتوبر 21″ و”أكتوبر الأخضر” للفنانين محمد وردي ومحمد الأمين إلى ما هو قريب من النشيد الوطني. واستولى وردي مرة أخرى على ألباب السودانيين بعد ثورة أبريل (نيسان) 1985 بـ”بلاء وانجلى”:
بلاء وانجلى
حمد لله ألف على السلامة
انهد كتف المقصلة
وبـ”حنبنبهو” “وطن شامخ وطن عاتي وطن خير ديمقراطي”.
وجاء الغناء عن حب الوطن مدراراً ومن بابين. فالباب الأول هو حب مطلق أما الآخر فهو ما نعى فيه المغنيون غربتهم عن الوطن في المهاجر، وذاع هذا الأخير ذيوعاً كبيراً خلال أيامنا في واقع النزوح الاستثنائي المأسوي بعد الحرب. أما الحب المطلق فتجده في مثل “أمتي يا أمة الأمجاد والماضي العتيق”. أما النوع الذي صدر عن أوجاع الغربة فمثل:
يا غربة لا لا لا لا لا ما تطولي
يا دمعة لا لا لا لا لا ما تنزلي
أنا بيك متيم يا بلد
أنا دمعة نازلة
وانت خد
ولا تلاقي فيديو يستعيد في يومنا مشاهد من السودان إلا مصحوباً بـ:
يا صباح الغربة
متين اسمع يقولو خلاص زمان الرجعة للسودان
ألملم حزني في طرفي، أصر الفرحة بالكيمان
ومن مصادر الأغنية السياسية الأناشيد الجهادية لشباب الحركة الإسلامية في حرب جنوب السودان طوال عقد التسعينيات، ولهم فيها ديوان كامل تستذكره كتائب البراء في هذه الحرب التي تخوضها مع القوات المسلحة مثل:
الجهاد نادانا
يا والده ما تحميني، عاوز أموت في ديني، شفاعة لوالديني، الأهل والأخوانا، الجهاد نادانا
أما سيدة الأغنية السياسية ليومنا للقوات المسلحة فهي الفنانة ندى القلعة. ونواصل.
عبد الله علي إبراهيم
إنضم لقناة النيلين على واتساب