لم تكن مهمّة أجهزة الأمن في الأنظمة الاستبداديّة قاصرة يوما على إفقاد الأمن وإرعاب النّاس وقمعهم واعتقالهم وتعذيبهم وتغييبهم في أقبية الزّنازين، بل كانت لديها مهمّة أخطر بكثير، تمارسُها بمنهجيّةٍ عاليةٍ وحرفيّةٍ فائقةٍ. تقوم هذه المهمّة على بناء نوعٍ جديدٍ من الوعي المشوّه، قائمٍ على التّشكيك بكلّ أحد، واتّهام كلّ النّاس، والاعتقاد بأنّ كلّ واحدٍ من أفراد هذا الشّعب المسحوق هو مخبرٌ سريّ لجهازٍ من أجهزةِ المخابرات.



وإذا أردنا أن نعدّد إنجازات أيّ نظامٍ مستبدّ؛ فإنَّ من أهمّ إنجازاته أنّه يجعل كلّ مواطن في الدولة ينظر إلى جميع النّاس البعيدين والمقرّبين منه على أنّهم مخبرون وعملاء للأمن.

استطاعت الأنظمة الاستبداديّة عبر أجهزتها الأمنيّة أن تقنع الجميع بأنّهم مستهدفون من الجميع، فلا ثقةَ بأحدٍ ولا طمأنينة لكلمةٍ تقال أمام مخلوق؛ وبالتّالي لا يمكن أن تجتمعَ ثلّةٌ على عمل أو مشروع لا يكون على عين النّظام وتحت رعايته.

استطاعت الأنظمة الاستبداديّة عبر أجهزتها الأمنيّة أن تقنع الجميع بأنّهم مستهدفون من الجميع، فلا ثقةَ بأحدٍ ولا طمأنينة لكلمةٍ تقال أمام مخلوق؛ وبالتّالي لا يمكن أن تجتمعَ ثلّةٌ على عمل أو مشروع لا يكون على عين النّظام وتحت رعايته
أنتم المشكلة لا أنا

ومن الأمثلة على هذه المنهجيّة والتي تطّرد في الشرائح المختلفة غير أنّها تكون في الشريحة الدينيّة أكثر وأظهر؛ ما اعتادته أجهزة الأمن من اللّعب على وتر الخلافات الدينيّة، لا سيما الاختلاف بين المدارس والتيّارات الشرعيّة والجماعات المشيخيّة. وهنا تنعدم ثقة هذا الشّيخ بالشريحة كلّها، ولا يفتأ يخوّنها في نفسه ويتوجّس خيفة من أيّ لقاء معها.

ومن ذلك أن يعمدَ النّظام الأمني إلى محاصرة أحد الخطباء أو الدعاة من تيار معين أو إيقافه عن الخطابة والعمل الدّعويّ، فيعمد العلماء المناصرون له للتحرك للتوسط والشفاعة عند هذه الأجهزة الأمنيّة لإعادته إلى العمل الدّعوي والعلمي، وكلّما دخلوا على ضابط المخابرات قال لهم: "يا مشايخنا: المشكلة عندكم وليست عندنا؛ ثمّ يخرج ملفا كبير الحجم بين دفّتيه عشرات الأوراق ويضعه على الطّاولة أمامه ويقول مشيرا إليه: هذه كلّها تقارير من المشايخ ضدّ الشّيخ الذي تتوسطون له؛ فنحن لا مشكلة لنا مع الشّيخ وإنّما أوقفناه بسبب ضغط المشايخ وتقاريرهم"، ملمحا بما يشبه التصريح بذلك إلى استهداف المشايخ من التيارات المخالفة له.

فتخرجُ الوفودُ من عند الضّابط الأمنيّ مقتنعة بكلامه كونها تعرفُ خلفيّات الخلافات الفكريّة بين الشّيخ الموقوف وغيره من مشايخ المدارس الأخرى، ويبدؤون بالحديث عن هذا الموقف مؤكّدين أن المشكلة ليست عند النظام ولا عند أجهزته الأمنية وإنّما عند "المشايخ المخبرين". وكونهم لا يعرفون ولم يقرأ أحد منهم ورقة من ذلك الملفّ، فيغدو كلّ واحدٍ من المشايخ المخالفين مشروع اتّهام بالعمالة للنّظام الاستبداديّ وأجهزته المخابراتيّة، عند عموم النّاس كما عند المشايخ أنفسِهم.

هذه المنهجيّة في التّعامل كانت وما تزال منهجيّة عامّة لأجهزة المخابرات مع المؤسسات الدعويّة المختلفة في اللعب على تناقضاتها واستغلال اختلافاتها، ويساندُ ذلك وجود عددٍ من الحالات تمارس العمالة الحقيقيّة والفعليّة؛ ليتمّ تعميم الفكرة وليتطوّر الأمر مع الزّمن فتغدو شريحة المشايخ والعلماء والدّعاة والخطباء في الوعي الجمعي لعموم النّاس "مخترقة حتّى النّخاع"، وكذلك يصبحُ هذا تقييمها عند نفسِها أيضا.

فكيفَ يمكن أن يكون لهذه الشريحة أن تكون ذات تأثير في الواقع تغييرا أو تصويبا؟ وكيف يمكن لها أن تكون ذات فاعليّة في مسار الأحداث على مستوى الوطن؟!

وهذه المنهجيّة التي يمارسُها النّظام الاستبداديّ مع شريحة المشايخ والدّعاة والخطباء تُمارسُ بالطّريقة ذاتها مع الشّرائح كلّها، من أطبّاء ومهندسين ومعلّمين وكتّاب وصحفيين ووجهاء، لتغدو الشّرائح كلّها في حالة اتّهام ضمنيّ متبادَلٍ بين أفرادها لتبقى الشرائح المجتمعيّة رخوة والكيانات هشّة أوهن من بيت العنكبوت.

لا تثق بأقرب النّاس إليك
هذه المنهجيّة التي يمارسُها النّظام الاستبداديّ مع شريحة المشايخ والدّعاة والخطباء تُمارسُ بالطّريقة ذاتها مع الشّرائح كلّها، من أطبّاء ومهندسين ومعلّمين وكتّاب وصحفيين ووجهاء، لتغدو الشّرائح كلّها في حالة اتّهام ضمنيّ متبادَلٍ بين أفرادها لتبقى الشرائح المجتمعيّة رخوة والكيانات هشّة
عملت الأنظمة الاستبداديّة بطريقة منهجيّة لزرع الشّك بين عامّة النّاس ببعضهم البعض، فلا يثقون ببعضهم مهما كانوا قريبين من بعضهم البعض ولو ضمّتهم مجالس السّهر والسّمر؛ فجميعهم يستشعرون بأنّ كلّ مجالسِهم ستنقل لأجهزة الأمن، فيتجنّبونها أو يلزمون الحذرَ عند شهودِها.

فمن أمثلة ذلك أنَّ أجهزة الأمن كانت تقومُ بين الفينة والأخرى باستدعاء مجموعة من الناس ضمّهم مجلس تسامر اعتياديّ، ويتمّ استدعاؤهم إلى فرع الأمن فرادى، ويقول المحقّق لكلّ واحد منهم: لقد كنتم عشرة أشخاص، وقد وجدت على طاولتي عند وصولي صباحا عشرة تقارير عنكم!! وهكذا يظنّ كلّ واحدٍ من هؤلاءِ المجتمعين بأنَّه كان يجالِسُ مجموعة كلّها من المخبرين وعملاء الأمن، فيعتزلهم ويفقد الثّقة بهم وبغيرهم من أبناء هذا المجتمع.

ويساعدُ في نشر هذه القناعة ما كان يتمّ بثّه من داخل الفروع الأمنيّة من طرائفَ ونكات تتحدّث عن هكذا مواقف، تبني قناعة بأنَّ المخابرات على معرفة بأدقّ أدقّ تفاصيل الحياة اليوميّة للإنسان، ويتمّ نشرها في المجتمع ويتداولها النّاس لتشكّل وعيهم الجمعيّ بطريقة ناعمة.

هكذا تربّي الأجهزة المخابراتيّة المجتمع كلّه على أنّ كلّ أفراده عيونٌ على بعضهم بعضا، وأنّهم عملاء للأجهزة الأمنيّة التي تعرف عن المرء أكثر ممّا يعرف عنه أبوه وأمّه؛ فتنعدم الثّقة وينتشر التخوين الخفيّ الذي سرعان ما يغدو علنيّا مع تنفّسُ نسائم الحريّة.

لا شكّ أنّ أيّ جهازِ مخابراتٍ في العالم يقوم بعمليّات تجنيد من أبناء الشّعب ليكونوا مخبرين سريّين، غير أنّ ضربة المعلم عند الأنظمة الاستبداديّة أنّ تقنع عامّة النّاس بأنّهم يعيشون وسط مجتمع غالبيّته من المخبرين وعملاء أجهزة الأمن.

إنَّ هذا المطر المسموم من فقدان الثقة والتشكيك من كلّ أحد بكلّ أحد هو بعضُ يسيرٌ من ذلك الغيم الأسود الذي لبّدته سياسات الاستبداد، وهي أجراسُ خطرٍ تُقرَع ملء السمع والبصر؛ فمتى تتنبّه القيادات المجتمعيّة والمؤسّسات التربويّة والأقلام الفكريّة والجهود الدعويّة إلى ضرورة التّدارك ومحاولة العلاج وبناء سفينة النّجاة الجامعة، قبل أن يشتدّ مطر التمزّق فيغرق الجميع غرقا لا نجاة معه؛ ولات ساعة مندمِ.

x.com/muhammadkhm

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الاستبداد تجسس العالم العربي الاستبداد الاجهزة الامنية تخويف مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة أجهزة الأمن المجتمعی ة الأمنی ة الن ظام ات هام

إقرأ أيضاً:

المقريف: الوضع الأمني السائد في الدولة يؤثر وبشكل كبير على سير الامنتحانات

ليبيا – علق موسى المقريف وزير التربية والتعليم بحكومة تصريف الأعمال على نسبة اعلان نتائج اتمام مرحلة التعليم الاساسي، معتبراً أن النسبة ليست ضعيفة لأن الأعوام الفائتة كان هناك العديد من الشوائب في العملية التعليمية التي تؤثر بشكل كبير على نسب النجاح ومنها زيادة الـ 25% من الدرجات وكان هناك قرارات سابقة من وزراء سابقين ولظروف المرحلة وتقليص المناهج.

المقريف تابع خلال تصريح لقناة “ليبيا الأحرار” التي تبث من تركيا الأربعاء وتابعته صحيفة المرصد “هذا شيء مؤسف وكان المنهج بسيط جداُ بالتالي النسبة ترتفع وهناك اعتماد فصل يسمى السنة البيضاء في بعض المناطق، يزداد النسبة، النسبة للعام طبيعية أوتينا بكل ما لدينا من امكانيات تسليط الضوء على هذه الظاهره وكانت معها العديد من الظواهر السلبية لربما كانت غير واضحة خلال السنوات”.

وأشار إلى أنه الآن أصبحت الظاهرة الوحيدة التي تشوب العملية التعليمية هي ظاهرة الغش وعلى جميع الجهات المشتركة ومحاربة الظاهرة.

ولفت إلى أن هناك منظومة تعليمية متكاملة يجب البدء في علاجها وتبدأ من المعلم الذي هو أساس العملية التعليمية وتنشئته بشكل صحيح واعطاءه دورات وإنزال العقوبات اللازمة لمن يخالف وبالتالي الجهات القضائية والرقابية يجب أن تكون شريك مع الوزارة في وضع العقوبات.

وأفاد أن الوضع الأمني السائد في الدولة يؤثر وبشكل كبير على سير العملية الامتحانية وما يحدث في بعض القاعات الدراسية من خروقات امنية لبعض القاعات الدراسية، منوهاً إلى أن الوزارة حاولت مع التعاون مع الجهات الامنية ردع التدخلات لانها كانت جزئية ومؤثرة في بعض المناطق وتم الغاء بعض القاعات الامتحانية لهذه الأسباب وكانت قاعات ليست تحت سيطرت الوزارة ولانها بعيده وليست قريبة من مركز الإمتحانات وهذه الأسباب تؤثر في سير العملية الانتخابية.

وأضاف “ما يجب أن يكون طريقه العملية التعليمية في ليبيا يجب أن يتم اعادة النظر فيها وتغيرها بالكامل وجدنا من خلال الإحصائيات ربع الطلاب من التعليم الأساسي حاصلين على الدرجات النهائية وهذا شيء مؤسف وهناك نصف الربع لم ينجح ابداً، طالب متحصل على الدرجات النهائية وهو لم ينجح في المواد الأساسية ! وهذا يقودنا آليات التقييم داخل المؤسسات التعليمية الغير صحيحة , لذلك المنظومة التعليمية تحتاج لإعادة النظر”.

وبيّن أن ولي الامر اصبح مشارك في عملية الغش والسعي بكل ما أوتي من قوة ومن طرق لتوصيل ابنه لمرحلة الغش وهذا شيء مؤسف وهذه المنظومة قديمة والغش موجود وسائد في العديد من السنوات لكن يجب محاربته وتكثيف الجهود عليه.

وأردف “التعليم الديني لم نجد فيها أي حالة غش واحدة وهنا نرجع للوازع الديني المهم، يبقى عند الطلاب والتلاميذ من المرحلة الأولى حيث الطالب يرى الغش شيء من المحرمات والمحظورات الدينية وهذا ما نتجه اليه الآن”.

ونوّه إلى أن الوضع في الدولة الليبية يلقي بظلاله على العملية التعليمية وفي اجتماعات اللجنة العليا باعتبار أنه دائماً توجيهها أحد البنود إحالة التقرير والمقترحات للوزارة لوضعها موضع التنفيذ وإشراك المجتمع الليبي بالكامل وحتى الخبراء حول الظواهر التي شابت العملية الامتحانية وآليات علاجها للمستقبل.

المقريف شدد على أن العلاج يحتاج وقت طويل واستقرار سياسي وإداري داخل المؤسسات التعليمية لوضع خطة لمعالجة الظواهر السلبية وكوزارة تربية وتعليم يجب ألا تعمل بمفردها فهناك جهات يجب أن تعمل مع الوزارة في هذا الجانب، منوهاً إلى أن العملية التعليمية تحتاج لإعادة هيكلة وفق نظم الإمتحانات والاستعانة بالخبراء ووضع عقوبات مهمة جداً للمخالفين.

وأوضح أن ما واجه المركز الوطني للامتحانات ليس فقط الغش بل حتى الانفلات الامني وهناك مفارقات بين قاعه وأخرى ساهمت في تقديم استقالته بحسب تعبيره.

أما بالنسبه للخريجين وهم المعلمين اعتبر أن وزارة التعليم العالي شريكة مع الوزارة حيث يكون الخريج ذو مواصفات معينة من حيث الامانة والاخلاق.

مقالات مشابهة

  • ضاحي خلفان يتلقى رسالة دكتوراه
  • في عملية نوعية: الحزام الأمني يداهم وكراً ويقبض على مختطفي المقدم عشال
  • ضبط شبكة ترويج وتعاطي المخدرات في عدن: تفاصيل العملية الناجحة لقوات الحزام الأمني
  • المقريف: الوضع الأمني السائد في الدولة يؤثر وبشكل كبير على سير الامنتحانات
  • الاستبداد المطلق... لمواقع التواصل الاجتماعى
  • أحمد حسن الزعبي .. عندما يتكلم الرجال في حضرة الاستبداد
  • توقف حركة القطارات من حيفا إلى نهاريا شمال إسرائيل بسبب الوضع الأمني
  • إقليم النيل الأزرق يستقبل 700 ألف نازح والحاكم يؤكد الاستقرار الأمني
  • توقيع عدد من الاتفاقيات في مجال الدعم المجتمعي بمحافظة مسندم