مع كل لحظة يأس تنتاب المرء من غياب الضمير العالمى على وقع عمليات الإبادة التى تجرى فى غزة تأبى الأحداث إلا أن تثبت أن هذا التصور غير صحيح، وأن مفهوم الضمير سيبقى ما بقيت الإنسانية. صحيح أن التباين ربما يكون كبيرا بين مساحة حضوره ومساحة غيابه، ولكنه فى كل الأحوال سيبقى حاضرا وفاعلا وإلى حد ما مؤثرا.
صحيح أيضا أن مساحة يقظة ذلك الضمير فى حدود منطقتنا العربية فى رفض ما تقوم به اسرائيل من مجازر ضد الفلسطينيين العزل فى غزة ضيئلة لأسباب عديدة لا مجال للتفصيل فيها، إلا أن توسيع نطاق الرؤية ربما يبعث على الراحة والأمل.
دعك من المظاهرات التى تجتاح العالم شرقه وغربه فى الجامعات وغير الجامعات ضد البربرية الإسرائيلية وهى مهمة وذات قيمة حيوية بلا شك، ولكن اذا أخذنا فى الاعتبار ذلك التطور الذى يجرى على صعيد الوضع فى الولايات المتحدة ذاتها وفى داخل مطبخها السياسى لأمكن لنا إدراك حيوية فكرة الضمير الحى وامكانيات تأثيره حتى لو كانت محدودة.
مفارقة السياسة الأمريكية فى موقفها من الحرب على غزة لكل أسس المنطق والواجب أدى إلى انتفاضة أو ما يمكن اعتباره كذلك داخل دوائر السلطة الامريكية المختلفة. واذا كان يوجد فى مواجهة هذا الواقع مسئولون بلا ضمير، فإن المطمئن أيضا أن هناك آخرين أيضا ولكن بضمير أبوا معه أن يمرروا تلك السياسة التى تتجاوز كل حدود الإنسانية دون أن يعلنوا عن رفضهم لها حتى لو كان الثمن هو التضحية بمنصبهم ومصدر عيشهم.
وبعد أن كانوا ينسبحون فرادى من مناصبهم بشكل دعا بلينكن وزير الخارجية الأمريكى للاعتراف بوجود اتجاهات واضحة داخل ادارة بايدن رافضة لسياسة بلاده تجاه الحرب فى غزة، فإنهم اصبحوا كقطرات الماء التى تجمعت بشكل لا يمكن تجاهله. ليس ذلك فقط بل إنهم راحوا يعززون موقفه بالتحرك الجماعى لزيادة فعالية موقفهم فكان اصدار نحو 12 مسئولا منهم لبيان يتهم ادارة بايدن بالتواطؤ الذى لا يمكن انكاره فى قتل الفلسطينيين فى غزة، مضيفين أن الغطاء الدبلوماسى الأمريكى لإسرائيل وتدفق الأسلحة المستمر تواطؤ لا يمكن إنكاره فى عمليات القتل والتجويع للسكان الفلسطينيين.
اللافت للنظر هو اتساع دائرة هؤلاء المسئولين، فمنهم مثلا أعضاء سابقون فى وزارات الخارجية والتعليم والداخلية والبيت الأبيض والجيش، والأكثر غرابة أنه لم يكن لدى البيت الأبيض ووزارة الخارجية تعليق فورى على البيان، وهو ما يعطيه مصداقية أو يؤكد أن البيان ينطلق من نظرة تستند إلى واقع حى على الأرض.
تفاصيل والأبعاد الشخصية لاستقالة هؤلاء المسئولين تفضح سياسة ادارة بايدن وتكشف بشكل حقيقى عن ممارستها الكذب والتلاعب من أجل توفير الغطاء الذى تقف به وراء اسرائيل فى حربها على غزة. ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر ستايسى غيلبرت التى استقالت من عملها فى مكتب السكان واللاجئين والهجرة بوزارة الخارجية، أواخر شهر مايو الماضى إنها بسبب تقرير إلى الكونغرس قالت فيه الإدارة كذبا إن إسرائيل لا تمنع المساعدات الإنسانية عن غزة، وقد شرحت فى مقابلة تليفزيونية كيف تمنع إسرائيل تدفق المساعدات إلى غزة.
من المؤكد، أن حدود تأثير تلك الإستقالات محدود فى توجيه سياسة الولايات المتحدة أيا كانت الإدارة القائمة على الحكم هناك فى ضوء العلاقات الإستراتيجية التى تربط واشنطن وتل أبيب، ولكنها استقالات كاشفة عن الحق الفلسطينى ولحجم الزيف والتضليل فى الكثير مما نسمعه ونشاهده من أخبار وتأكيد اخير على أن الإنسان ما زال به رمق من إنسانيته!
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: د مصطفى عبدالرازق تأملات غزة فى غزة
إقرأ أيضاً:
خوَنة العصر: تجارُ المبادئ في زمن الانحياز للعدو
شاهر عمير
في عصر مليء بالتحديات والصراعات، تبرُزُ معركةٌ أُخرى أشدُّ وطأةً، إنها معركةُ المبادئ والأخلاق التي تتناقَصُ قيمُها على أيدي من خانوا ضمائرهم وتخلوا عن رسالتهم تجاه أمتهم.
“خونة العصر” هم فئة أضاعت الطريق الصحيح وانحازت إلى صف الأعداء، متخلية عن القيم الأصيلة والنزاهة، متجردة من كُـلّ مبدأ يربطها بأوطانها وبقضايا الأُمَّــة. خيانتهم ليست متوارية، بل جهروا بانحيازهم للعدو علنًا، متفاخرين ببيعهم للقيم وسعيهم وراء مصالح شخصية ضيقة على حساب أمن وكرامة شعوبهم.
ما يميز هؤلاء الخونة عن غيرهم هو تظاهرهم الكاذب بالنزاهة وارتداؤهم عباءة العروبة، بينما في الواقع يقفون مع من يسعى لتدمير أوطانهم وتمزيق نسيجها الاجتماعي. تجدهم يتحدثون عن الشرف والمبادئ والوطنية، ولكن حينما تحين لحظة الفعل، يثبتون أنهم لا يملكون سوى الكلام الأجوف والشعارات المزيفة، التي يخدعون بها الناس ويتملقون بها الأعداء.
في الوقت الذي تقدم فيه شعوب الأُمَّــة أغلى ما تملك في سبيل الحفاظ على كرامتها وسيادتها، يقف هؤلاء في الطرف النقيض، يشككون في التضحيات ويطعنون في الظهور، مستخدمين وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي للتقليل من جهود المدافعين عن الأُمَّــة، وتشويه صورة المقاومين والوطنيين الحقيقيين الذين يذودون عن الأرض والعرض. إن هؤلاء الخونة لا يكتفون بخيانتهم للضمير الوطني، بل يمارسون التضليلَ والتشويه، ليصنعوا صورةً مزيَّفةً ويضللوا الناس ويقنعوهم بأن الهزيمةَ هي الحل وأن الاستسلام هو الطريق الأسلم.
هؤلاء الخونة لا يمثلون فقط أعداءً داخليين للأُمَّـة، بل هم أدوات في يد العدوّ يستغلها لتحقيق مآربه ومخطّطاته، وهم “الطابور الخامس” الذي يتغلغل في نسيج المجتمعات ليهدمها ويزرع الفتن ويثير الخلافات بين أبناء الوطن الواحد. فبينما يعمل الشرفاء على الحفاظ على وَحدة الأُمَّــة ويقفون في وجه الأعداء، يجدون أنفسهم محاطين بخونة الداخل الذين يتعاونون مع العدوّ لضرب استقرار أوطانهم.
ولم تقتصر خيانة هؤلاء على دعم الأعداء، بل تجاوزوها إلى محاولة تشويه صورة من يقفون بصدق في وجه الظلم. تجدهم يصفون المقاومين بالمغامرين ويقلِّلون من أهميّة التضحيات التي تُبذَلُ للحفاظ على الكرامة والسيادة، بينما في الواقع هم من يبيعون أوطانهم بثمن بخس ويمتثلون لكل إملاءات العدوّ بلا تردّد، متجاهلين آلام الشعوب ومعاناتهم.
إن خونة العصر استرخصوا كرامتهم وكرامة شعوبهم وباعوا تاريخهم ومستقبلهم، لا يدركون أن الشعوب لن تنسى خيانتَهم وأن التاريخ سيسجل مواقفَهم بمداد الخزي والعار. قد يحاولون أن يخدعوا البعض، لكن لا يمكنهم أن يخدعوا الجميعَ إلى الأبد؛ فوعيُ الشعوب وضمير الأُمَّــة سيكشفُهم مهما طال الزمن.
رسالتنا لهم ولكل من تسوّل له نفسه الانحياز للعدو: العروبة ليست كلمات رنانة أَو عبارات جوفاء، بل هي قيم ومواقف، هي التضحية والفداء والوقوف بوجه الظلم مهما كانت التحديات. إن كُـلّ من يقف في وجه المعتدين ويسعى لرفع الظلم عن الأُمَّــة هو من يمثل الأمة بحق، أما من باع ضميره وانحاز للعدو؛ فهو خارج عن دائرة الشرف والقيم.
العروبة ليست سُلعةً تباع وتشترى، ولا وسيلة لتحقيق مصالح شخصية ضيقة، بل هي التزام ومسؤولية تجاه كُـلّ أبناء الأُمَّــة. لذلك، لن يغفر التاريخ ولا الشعوب لكل من تخاذل وباع أرضه وكرامته، ولن يرحم الخائنين الذين يسيئون لأوطانهم ويتآمرون مع الأعداء.
سيبقى الأحرار والشرفاء متمسكين بمبادئهم، يقدمون أرواحهم ودماءهم؛ دفاعًا عن كرامة الأُمَّــة وسيادتها، بينما سيظل الخونة في حضيض التاريخ، مثقَلين بعارهم ومرتهنين بعمالتهم.