عادل حمودة يكتب: في صحة أحمد زكي
تاريخ النشر: 3rd, July 2024 GMT
* حفر فى الصخر دون مساندة من أحد حتى وصل إلى القمة ودفع الثمن من صحته
* كان «نزار قبانى» يرى نفسه فى فيلم «الهولندى الطائر» الذى مثله «جيمس مايسون» أمام «أفا جاردنر»
قصة الفيلم «تدور حول رجل حكمت عليه الأقدار أن يبقى مبحرا ملايين السنين دون أن يكون له الحق أن يشيخ أو يتعب أو يموت أو تستقر سفينته فى مرفأ من المرافئ».
«كان شرط الآلهة الوحيد على «الهولندى الطائر» للخلاص من اللعنة التى تلاحقه أن يجد امرأة تحبه وترضى أن تصعد معه إلى ظهر السفينة الملعونة وتشاركه طوافه غير المجدى فى جميع المحيطات وتقبل بإرادتها أن تبحر معه وترسو معه وتموت معه».
لم يجد «نزار قبانى» مرفأ يقبل دخوله إليه «ولم ترض أسماك القرش أن تصالحه ولم يجد عاصفة لطيفة ترضى عنه ولم يقابل امرأة لديها الاستعداد لتحبه إلى درجة تقبل معها أن تصعد إلى سفينة الأشباح التى يركبها وتبحر معه إلى آخر العمر وتموت معه».
ما إن سمعت وقرأت تلك الصورة الفنية الواقعية حتى وجدتنى أضع «أحمد زكى» فيها إلى جانب «نزار قبانى».
سفينة «نزار قبانى» التى لم يسمحوا بدخولها الموانئ كانت الشعر.
أما سفينة «أحمد زكى» التى لم ترس به على بر فكانت السينما.
وكل منهما لم يجد امرأة واحدة تحتمل حياته وجنونه واكتئابه وأحزانه ويموت على صدرها حبا.
كل منهما بقى وحيدا على سطح سفينته رغم ملايين البشر الذين أحبوه وصدقوه وتابعوه ولكن عن بعد.
أعجب «أحمد زكى» بوجه الشبه بينه وبين «نزار قبانى» لكنه أضاف:
ــ البحث عن مرفأ أستقر فيه هو آخر ما يخطر على بإلى فالمرفأ يعنى الثبات ويعنى نهاية طموح السفينة ويعنى إعجابى بنفسى ويعنى إحالتى على المعاش ويعنى أن أموت ناقص فن.
لم يحل «أحمد زكى» إلى التقاعد وظل يمثل حتى خانه جسمه وخذلته صحته وهاجمت خلاياه مئات من الكائنات الخرافية الشرسة التى يعيش عليها السرطان فى صمت.
ظل يمثل حتى سقط من طوله وعجز عن صلب عوده ولم يعد يرى أمامه.
لم يمت حبا وإنما مات تمثيلا.
لكنه لم ليصل إلى هذه الدرجة الصوفية فى العشق ما لم يكن مخلصا متفانيا لا يغش فى اللعب ولا يتوارى وراء الباطنية لينطق بلسانه بما ليس فى قلبه ولا يمسح جوخا لأحد بل كان يضحى بما يعرض عليه من عمل لو شعر بأنه يمس كرامته ولو مسا خفيفا.
فى عام ١٩٩٤ بدأ «يوسف شاهين» تحضير فيلم «المصير» الذى يروى سيرة المفكر العربى التنويرى «ابن رشد» وعرض فى عام ١٩٩٧.
عرض «يوسف شاهين» على «أحمد زكى» الدورين الرئيسيين فى الفيلم وهما دور «ابن رشد» الذى مثله «نور الشريف» ودور الخليفة «المنصور» الذى مثله «محمود حميدة» لكن فى الوقت نفسه عرض عليه أجرًا لا يزيد عن ٣٠٠ ألف جنيه.
قال «أحمد زكى»:
ــ يا جو هذا نصف أجرى.
ــ كم أجرك فى الفيلم؟
ــ ٦٠٠ ألف جنيه.
ــ لكن يكفى أنك ستعمل مع يوسف شاهين.
احتد «أحمد زكى» قافزا فوق جواد الغرور قائلا:
ــ ما أنت كمان ستعمل مع أحمد زكى.
ولم يتفقا بالطبع بسبب سرعة انفلات أعصابه خاصة بعد أن أصبح نجما.
لكنه فى الوقت نفسه أدرك أن الفنان مخلوق سريع العطب واستثنائى فلم يجد مفرا من مواجهة الأقدار التى فرضت عليه ودخل فى صدام لم يتوقف معها.
أدرك أن عليه أن يحصل على ما يعوضه عن سنوات الشقاء التى حفر فيها فى الصخر دون مساندة من أحد ودون أن يقف إلى جانبه أحد وإنما كان عليه أن يصعد خمس درجات وينزل ثلاثًا ويتقدم عشر خطوات ويرجع خمسًا حتى وصل إلى القمة.
دفع ثمنا باهظا من صحته وجسده وروحه وكأنه بطل تراجيدى فى أسطورة إغريقية تلاحقه العواصف والصواعق كلما شعرت سفينة بالاستقرار.
على أن جائزته الكبرى كانت جمهوره العريض الذى منحه القوة والعنفوان واعترف بأنه واحد منه.
كسر «أحمد زكى» الأسمر البشرة ــ والمجعد الشعر والغليظ الشفتين والمتواضع فى ثيابه والعفوى فى سلوكياته والمتردد فى تعلم قواعد الإتيكيت ــ نجومية فتى الشاشة الأول وحطم النموذج السائد المألوف منذ بدأت السينما فى مصر.
شعر الناس بأنه نجم منهم.
يشبههم ويشبهونه على حد وصف المذيع اللبنانى «زاهى وهبى» وهو يقدمه فى برنامج «خليك بالبيت».
ولد فى دنيا البسطاء ولكن الله منحه موهبة استثنائية بدت مثل ماسة «لاجونا بلو» النادرة.
برقت الماسة بين يديه.
شدنا البريق إليه.
رد الجميل إلينا بالتعبير عنا.
أصبح منا فينا.
لم يختلف عن الذين يتسكعون فى الشوارع أو يعيشون فى العشوائيات أو يقفون على النواصى حتى إن الناس الذين كانوا يقابلونه صدفة لم يتخيلوا أنه «أحمد زكى» بل كانوا يقولون له:
« تعرف إنك تشبه أحمد زكى».
سألته ذات مرة:
ــ هل تملك تفسيرا لنجاحك رغم أن بشرتك ليست بيضاء وشعرك ليس ناعما ولست من أصحاب العيون الملونة؟
أجاب:
ــ زمان كانت السينما نوعا من الحلم يعيشه الناس ساعة ونصف الساعة أو ساعتين بعيدا عن واقعهم الصعب ويسعدهم أن تحب ابنة الباشا ابن الجناينى وينتصر الضعيف على المفترى لكن الآن أصبحت السينما مرآة الإنسان الذى يريد أن يرى نفسه على الشاشة من خلال بطل يعبر عنه ويشعر به وربما يساعده على تحمل الحياة المؤلمة التى يعيشها أو حل ما يصادف من مشاكل وأنا واحد من هؤلاء البشر لا أختلف عنهم لا فى الشكل ولا فى الهم لذلك ارتاحوا لوجودى ونصرونى.
يضيف:
ــ عادة ما ينزل الطلاب الفقراء فى محطة أوتوبيس بعيدة عن بيوتهم خجلا لكن بعد أن مثلت فيلم «أنا لا أكذب ولكن أتجمل» أصبحوا أكثر جرأة ونزلوا فى أقرب محطة أوتوبيس لبيوتهم.
يستطرد:
ــ الفن هنا ليس حلما أو وهما وإنما مرآة يرى الناس فيها وجوههم الحقيقية ليقتنعوا بها ويتكيفوا معها لذلك لا بد أن يكون البطل مثلهم حتى يصدقوه.
يكمل:
ــ إننى فى هذا الفيلم لم أخجل من أن أكون ابن تربى أساعده فى حفر القبور ورش المياه وفى الوقت نفسه طالب مجتهد فى الجامعة.
ــ أليس للسينما الأمريكية تأثير على ذوق المشاهد فى العالم كله حتى عندما تغير من مواصفات النجم بين الحين والآخر؟ ألم تفاجئنا بممثل مثل «داستين هوفمان» و«جاى سمبسون»
المقال كاملا على صفحات العدد الجديد من جريدة «الفجر»
في صحة أحمد زكيفي صحة أحمد زكيفي صحة أحمد زكيالمصدر: بوابة الفجر
كلمات دلالية: أحمد زكي أحمد زکى صحة أحمد لم یجد
إقرأ أيضاً:
مشيرة عيسى.. صاحبة الطلة المبهجة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
صُدمت بخبر وفاة السيدة الجميلة الرقيقة المهذبة د. مشيرة عيسى صوليست البيانو، ابنة الكونسرفتوار والأستاذة بمعهد الموسيقى العربية.. كانت كالفراشة الهائمة، فى رقة الزهور أو كالأميرة الحالمة فى قصص الأطفال، هى صاحبة الطلة المبهجة، والتى بظهورها على المسرح تمنح الجميع الطاقة والحيوية، هى عملة نادرة مهذبة النفس، وتحيا بروح الله النقية والتى جعلت ابتسامتها لا تفارقها فى أحلك الظروف، هاجرت حين حاوطها الظلم، ولم تهاجر خارج حدود بيتها الذى عشقته “أكاديمية الفنون” فلم تكن هجرتها للحصول على عائد! ولكن لتقدم مزيدًا من العطاء، ورد جميل هذا المكان المقدس فى عيون أبنائه.. ولم يسرق ابتسامتها المرض حين هاجمها وتصدرت له بالجسارة والصمود، والرضا والتفاؤل بعطاء الله.. منذ أيام كنت أتحاور معها عن د. جمال سلامة، كى أضيف شهادتها فى الكتاب الذى أعده عنه “جلينكا العرب.. جمال سلامة” واستمتعت بحديثها الجميل ووفائها الجم لأستاذها وصديق عمرها د. جمال حسب ما وصفته، والتى ذكرت أنه بجانب العلاقة الفنية والإنسانية التى ربطتهما لن تنس له أنه كان سببا فى تعارفها على زوجها د. محمد حلمى هلال، والذى بدا من حديثها كم كانت تحبه وزاد حبها لدكتور جمال بسببه.. بدأت دكتورة مشيرة عيسى رحلتها مع البيانو مبكرا، فقد ورثت حبه من والدتها السيدة آمال السبنجى (الحاصلة على دبلوم الكلية الملكية فى الموسيقى فى لندن)، فكانت تستمع لعزف والدتها على البيانو وهى لا تزال جنينا، وبعد أن بدأت تحبو كانت والدتها تحملها على ساقيها وهى تتدرب على العزف، وبالتالى كان البيانو لعبتها الأولى، وبدأت تتعلم قواعد عزفه وهى فى الرابعة من عمرها.. أما الأب د. صلاح عيسى طبيب النساء والتوليد الشهير، فقد كان شغوفا بالموسيقى أيضا، لذلك عندما لاحظت عائلتها تعلقها بالبيانو، اصطحبتها أمها الى أستاذها المؤلف البولندى اجناز تيجرمان،
Ignaz Tiegerman
والذى أشاد بموهبتها وقام بتدريبها حتى التحقت بالكونسرفتوار ونجحت بتفوق.. وتخرجت من كونسرفتوار القاهرة، وكانت الأولى على دفعتها، إلا أنها عُينت معيدة فى معهد الموسيقى العربية عقب تخرجها، بعد أن وجدت تعنتا من بعض المسؤولين فى الكونسرفتوار آنذاك.. وظلت د. مشيرة على مدار عمرها تقدم حفلاتها فى دار الأوبرا، وتتفانى فى تعليم طلابها حتى أواخر أنفاسها.. ماتت مشيرة واقفة كالأشجار، لم تنحن إلا لله، وستظل روحها المرحة فرحة بالرحمات.
رحم الله د. مشيرة الإنسانة النبيلة الرائعة التى عرفت مدى رقتها وانسانيتها منذ طفولتى، فقد جمعنى بها موقف عصيب لا ينس، عندما كنت طالبة فى المرحلة الإعدادية، فقد كنا ندرس مادة بيانو إضافى، واستعرت كتاب بيانو لتصوير بعض الأجزاء فيه من شقيقة أقرب صديقاتى فى الفصل، وكانت شقيقتها طالبة فى معهد الموسيقى العربية فى فصل د. مشيرة التى أعارتها هذا الكتاب لتصويره.. وتلك الكتب لمن لا يعرف لا تباع فى مصر، ويتم شراؤها من الخارج بمبالغ لا يستهان بها، وفى ذلك الوقت لم يكن متاحا كما هو الآن تحميل كتب من خلال الإنترنت، أو شراؤها من خلال مواقع إلكترونية، وبالتالى كان الحصول على النوت الموسيقية عزيزا، ولا يتاح سوى الكتب الموجودة فى المكتبة أو ما يجود به الأساتذة الكبار على تلاميذهم.. ولسوء حظى ضاع الكتاب الذى فى عهدتى أثناء تركه للتصوير! وكانت كارثة بالنسبة لى، فهو كتاب أعارته د. مشيرة لطالبتها! وإستعارته صديقتى لى من شقيقتها! وأصبحت فى موقف لا أحسد عليه، بين البكاء ومحاولات البحث التى لا تنته دون جدوى! والحرج الشديد من مواجهة هذا الموقف الذى فرض على!
وللأسف لم تكن فكرة شراء كتاب بديل ممكنة حينها، فلا يمكن أن أسافر للخارج كى أشترى كتابا آخر! ولا يمكن أن أنتظر لشهور حتى أحاول البحث عن شخص ربما يسافر للخارج ويمكنه شراء الكتاب إذا وجده؟! ضاقت الدنيا فى وجهى ولم أكن أعرف كيف أتصرف؟! وكيف أعتذر؟! وماذا أفعل لشقيقة صديقتى التى ستضار وتتعرض لهذا الموقف المحرج والسئ مع أستاذتها بسبب (جدعنتها) معى؟!
لم يكن أمامى سوى المواجهة وتحمل عواقب الموقف، والاعتذار بكل ما يحمله كيانى من شعور بالحزن والخذلان، وابلاغهم بمسئوليتى عن دفع قيمة الكتاب أيا كانت (على نفقة عائلتى بالطبع).. وكنت على استعداد لتحمل اللوم وربما التوبيخ عن الإهمال وعدم المسئولية.. الخ.
لم تكن كل كلمات الاعتذار تكفى أو تحل الأزمة مع شقيقة صديقتى التى صدمت هى الأخرى، فالموقف أكبر منها ومنى! وبعد كل كلمات الاعتذار والشعور الحقيقى بالأسف والحزن طلبت من شقيقة صديقتى مقابلة د. مشيرة لابلاغها والاعتذار لها حتى أعفيها من الحرج وأتحمل خطأى.. ذهبت للدكتورة مشيرة وأنا أتمنى أن تنشق الأرض وتبلعنى قبل أن أصل إليها من شدة الخجل والضيق! ولكن فوجئت باستقبال د. مشيرة لى بكل المرح والبشاشة والرقة، وهى تسألنى بكل ود (إنت اللى ضيعتى الكتاب وعاملة كل القلق ده علشان كده؟! ولا يهمك حصل خير وفداكى ومتزعليش نفسك) ورفضت بحسم وبشكل قاطع فكرة دفع قيمة الكتاب، أو محاولة شراء كتاب بديل بعد فترة من خلال أى قريب أو صديق يسافر للخارج، وغمرتني بمحبتها وبساطتها ورقتها وحديثها المرح، ودار حوار بيننا لدقائق عن الكونسرفتوار الذى تركته بسبب اضطهادها وتعنت بعض مسئوليه معها..ومنذ ذلك الوقت صرت أحبها من كل قلبى، وقابلتها كثيرًا بعد ذلك أثناء عملى فى أوركسترا القاهرة السيمفونى عندما كانت تعزف كصوليست مع الأوركسترا.. ومنذ فترة طويلة لم ألتق د. مشيرة لا مصادفة ولا فى عمل، وكان آخر حوار معها عن د. جمال، وآخر كلمة كتبتها لى عنه “كان جميل جمال ملوش مثال”.. والحق يقال كانت هى أيضا بقلبها ورقتها وعذوبتها وروحها جميلة جمال.. وليس لجمالها مثال..خالص العزاء لأسرتها ولزوجها المحترم د. محمد حلمى هلال..ورحم الله د. مشيرة عيسى ود. جمال سلامة وكل من فارقونا وسبقونا إلى دار البقاء، وستظل سيرتهما وأرواحهما المرحة ونس وابتسامة ومصدر طاقة وعطاء.