لماذا نتقبل حداثة الغرب ونرفض التجديد في ثقافتنا؟
تاريخ النشر: 3rd, July 2024 GMT
لا يزال الحديث يجري في الأوساط الفكرية والثقافية في الوطن العربي بين الفينة والأخرى وهذا يجري بين ممن جرفهم التغريب، وغيرهم الذين يريدون تجديد الأمة من داخلها، والسؤال المطروح: هل نأخذ الحداثة المعاصرة الغربية كما وُضعت في بيئتها الفكرية الغربية؟ أم نأخذ مصطلح التجديد العربي/ الإسلامي، المعبر عن ثقافتنا، ويعطي ما نريده من إزالة العوائق التي تقف أمام نهضتنا وتقدمنا؟ فعندما ظهرت الحداثة الغربية، كانت تحمل رؤية فلسفية، وفكرية للعالم والكون والحياة، وصياغة المدركات الإنسانية على أسس جديدة مختلفة عن التصورات التي كانت قبل ظهور مفهوم الحداثة ورؤيتها، لكن البعض يرى أن هذه الحداثة وتصوراتها ليست جديدة، بل هي حالة جنينية في التراث الغربي.
لكن عندما جاء الإسلام ونزلت رسالته العالمية، تم تسمية العصر الذي قبله بالعصر (الجاهلي)، تمييزا عن عصر الإسلام الذي هدم الأغلال الشركية عن أمة العرب والمسلمين الذين آمنوا برسالة دعوة هذا الدين، فالإسلام ليس عدوا للحداثة بإطلاق، أو النهضة في شتى المجالات، ففي العصر الإسلامي الأول، كان هناك انفتاح على الحضارات والفلسفات الأخرى، التي تتقاطع فكريا مع الإسلام في جوانب كثيرة، كالحضارة الرومانية واليونانية والفارسية ـ قبل اندماجها في الإسلام ـ أخذا وعطاء، ففي العصر الأول، فترة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، تم أخذ بعض التطبيقات الفارسية في الإدارة، ثم في عصور إسلامية تالية تم الالتقاء مع حضارات عديدة، أخذا وعطاء، ثم بعد ذلك استفاد الغرب من الحضارة الإسلامية في وقت ازدهارها، بعد فترة الحروب الصليبية، وفي فترة الحكم الإسلامي في الأندلس، وهذا باعتراف الغربيين أنفسهم، وكل الحضارات الإنسانية تتبادل الأفكار، وتستفيد من العطاء الإنساني، وكل حضارة تضيف إلى الأخرى رصيدا جديدا في مجال التطورات العلمية والفكرية، منذ فجر التاريخ حتى الآن، لكن أن يكون الأخذ بما يلائم فكرها وثقافتها، ولا يتصادم معه، خاصة في التصورات الاعتقادية.
لكن الإشكالية في الحداثة الغربية، أنها جعلت من نفسها النموذج الوحيد الأوحد الذي يجب أن يسود العالم، وهذا الأمر يغاير مقولاتها في الحرية والديمقراطية، ومن هذه المنطلقات، أنها لا تعترف بالتعددية الفكرية والتنوع في الثقافات الإنسانية، لأنها تريد أن تكون الرؤية الفلسفية الغربية هي التي تسود العالم، وهذه إحدى الإشكالات مع الحداثة الغربية، فهي، أي الحداثة، لها وجهان ـ كما يرى البعض ـ الوجه الإيجابي هي دعوتها إلى تفجير طاقات الإنسان، ورفع القيود عنه، بالحرية و العقلانية والاهتمام بالعلم، والتطور إلى آخر المقولات، لكن لها وجه آخر سلبي، وهو ما يناقض هذه المقولات من خلال الهيمنة والتسلط، والاستعمار، والنظرة الدونية إلى الثقافات الأخرى. وإذا كان هدف الحداثة، استقلال الإنسان وتحرره وإطلاق عقله في الحياة الإنسانية، فالمشكلة الأساسية التي يقع فيها بعض المفكرين والمثقفين العرب، الذين انبهروا بالغرب في رؤيته للنهوض والتقدم المعاصر لواقعنا المتأخر في النهوض، أن انبهارهم بما جرى في الغرب من نهضة علمية وفكرية، جعلهم مجرد تابعين، لكل ما سار عليه مع اختلاف الظروف الفكرية والثقافية بيننا وبينهم، فكل أمة لها رؤيتها الفكرية وثقافتها الذاتية، فهؤلاء المنبهرون بالغرب لا يريدون الانطلاق من داخل ذاتهم وفكرهم، بل يرون أن الوصول للحداثة والنهضة، هو الاندماج في الغرب والانسلاخ من كل ما نملكه في رصيدنا الفكري والحضاري، ولا شيء غير ذلك إذا ما أردنا أن نسير سيرتهم ونملك الحداثة، كما جرت في الغرب، مع مقاطعة ميراثنا وتراثنا تماما، لكي يكون مثل الغرب وهذه للأسف عقلية جامدة وسقوط في فكر الآخر، مع أنهم يتهمون المخالفين لهم بالجمود في الماضي، على ما أنتجه الغربيون، وساروا عليه، ليس بالإبداع، بل بالتقليد والالتحاق به والانسحاق بما يسير عليه، ويعتقد هؤلاء أن الغرب فعل هذا بتراثه عندما تخلى عن هذا التراث تقدم ونهض وتحقق له ما أراد من تقدم وحضارة ومن ثم ظهرت الحداثة، وهذا ليس صحيحا تماما، فالغرب نفسه تدرج في سيرته الإصلاحية، بدءًا من حركة الإصلاح الديني البروتستانتي في أوروبا الغربية، قبل أن تنطلق ما تسمى بحركة الأنوار في القرن الثامن عشر، وما بعدها، وينقل د/ محمد عابد الجابري في كتابه (في نقد الحاجة إلى الإصلاح)، عن أحد المثقفين الغربيين في القرن الثاني عشر فيقول هذا المثقف الغربي: «لا يمكن الانتقال من ظلمات الجهل إلى نور العلم إلا بقراءة وإعادة قراءة كتب القدماء بشغف حي ومتزايد، فلتنبح الكلاب، ولتغمغم الخنازير، فإن ولائي للقدماء سيبقى قائما، وسأظل منصرفا إليهم بكل اهتماماتي، وسيجدني الفكر منهمكا في قراءة مؤلفاتهم».
والحداثة عندما ظهرت مع عصر ما سمي بالأنوار، فيها الشيء الكثير من الإيجابيات المتعلقة بأفكار النهضة والتقدم، وفيها ما يقابلها من السلبيات المتعلقة بالفلسفة المادية والنظرة إلى العقل باعتباره هو المرجعية الوحيدة في المعرفة الإنسانية، لذلك الإسلام كما أرى، لا يتقبل النماذج الجاهزة، والتسليم أو الانسحاق أو الانصهار لكل الأفكار والأيديولوجيات دون النظرة الواقعية لما هو جدير بالأخذ، ورفض ونقد لما هو مخالف وسلبي، كما يراه الإسلام في مضامين توجهاته ونظرته العامة، والحداثة نفسها أيضا، لم تسلم من النقد العنيف منذ ظهورها في القرن الثامن عشر من المفكرين والفلاسفة الغربيين أنفسهم، وازداد النقد بصورة كبيرة في القرن التاسع عشر، بعد ظهور كما نعرف، مفهوم (ما بعد الحداثة)، الذي يخالف مفهوم وفلسفة الحداثة في الكثير من توجهاتها ومقولاتها، فإذا كان الغرب نفسه، راجع مفهوم الحداثة، وناقض رؤيتها الفلسفية والفكرية، بل وطالب بتجاوزها من خلال فلسفة (ما بعد الحداثة)، فإذا كان الغرب نفسه ينقد الحداثة بهذه الصرامة والحدة إلى حد التقاطع، أليس من حق الثقافات والحضارات والأديان الأخرى، المغايرةُ والتناقضُ، مع هذه الفلسفات والأفكار التي تخلفها فكريا في بعض فلسفاتها؟
إذن الحداثة واجهت السهام والنقد العنيف أيضا من داخلها، ولم تكن رؤيتها محصنة من الأخطاء والالتباسات، ومن وجهة نظر الغربيين أنفسهم. فريدرك نيتشه، كان من الداعين إلى نقد العقل الغربي، وتعرية أنساقه وتحطيمها، الفيلسوف الألماني (يوغرن هابر ماس)، اعترف بأزمة الحداثة، في الغرب، وقال إن الحداثة في أزمة، وأنها (مشروع لم يكتمل)، كما أن العديد من المفكرين الغربيين البارزين في القرن العشرين، دعوا إلى هدم الحداثة وتفكيك مقولاتها وهدمها، ومن هؤلاء ميشال فوكو( 1926..1984)، وجاك دريدا ( 1930..2004)، ومارتن هيدجر، كل هؤلاء دعوا إلى تفكيك الحداثة وتقويض الصرح الفلسفي الغربي، وإزالة ذلك التعالي الكاذب.الذي وصف نفسه به، وهناك الكثير من النقد من المفكرين الغربيين الذين نقدوا العقلية الغربية الحداثية، والتي قدست الإنسان، وأعطته مركز الاهتمام، ولذلك فإن حركة بعض الحركات الفكرية في الغرب أرست (مبدأ نسبية المعرفة) وعدم قبول التعميمات التي وضعتها الحداثة للمعرفة الإنسانية.
كما أن الحداثة من الناحية المنطقية والواقعية، لا تستنسخ ولا تستجلب من خارج نطاقها، والحداثة كفكر وفلسفة، تبدع إبداعا من داخلها، وهذا ما يبرز في تطبيقات الحداثة في دول عديدة عربية وغيرها، ذلك أن التربة غير صالحة للغرس دون انتقاء أو فرز، ويرى العالم الألماني المسلم مراد هوفمان في بحثه (مستقبل الإسلام في الغرب والشرق)، أن منطلقات عصر الأنوار أصابها الكثير من التصدعات السياسية والفكرية، وظهور: «الفاشية، والستالينية، والنازية، والماوية (..)، وإن المحنة الأخلاقية والفكرية في زماننا، ومشكلة ما سمي بالعدمية والقيم النسبية، قد نجمت عن حقيقة أن خطاب العقل الذي حفظ الفكر الأوروبي منذ عصور التنوير، قد انهار.. وعلى الخلفية، يعد اتهام المسلمين بأنهم فوتوا فرصة التنوير التي لاحت لهم، ضربا من الفحش والقذارة».
والذي نخلص له أن الحداثة رؤية غربية خالصة، انبثقت من ظروف صراعها مع الكنيسة، وجاءت ردود الفعل كبيرة مع التراث الكنسي في أوروبا، وصلت لحد القطيعة والعدم في فلسفات عديدة، وجعلت الإنسان محور الكون، وقدست العقل، وغيبت القيم، وأعلت من شأن المادة، على الرغم من الفتوحات الكبيرة في مجال العلوم والتكنولوجيا، وغيرها من أوجه التقدم العلمي والتقني. وهذا ما جعل الحداثة تتناقض مع الكثير من مقولاتها، بعدما خرجت عن هدفها الأساسي ومناهجها في بدايات انطلاقتها الفكرية.
عبدالله العليان كاتب وباحث في القضايا السياسية والفكرية ومؤلف كتاب «حوار الحضارات في القرن الحادي والعشرين»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الکثیر من فی الغرب فی القرن
إقرأ أيضاً:
كيف زيِّفت أوروبا ذاتها الحضارية؟!
••هل تنهض المجتمعات لخصائص ثقافية متأصلة فيها أم يعود الأمر لسبب آخر؟ إن هذا السؤال يحتل موقعاً مركزياً في البحوث الاجتماعية المعاصرة، ويراد به فحص الجدل الدائر حول أسباب النهضة والتقدم الاجتماعي، ولعل طرحه يعود لفترة أقدم حين اطمئن علماء الأنثروبولوجيا إلى فرضية علاقة القيم الثقافية بقضية النهضة في الحياة الاجتماعية من مناحيها كافة، فالبعض منهم وضع شرطاً أساسياً لتركيز عمليات النهضة، وهو تحصيل التعليم وبناء المؤسسات، ولكن أكبر انعطافة هددت وثوقيات الاجتماعيين حول دور القيم الثقافية واعتبارها المرتكز الأساس في نهضة الشعوب، كانت على يد جاك غودي (توفي 2015م) الأنثربولوجي الإنجليزي والمحاضر الأشهر في جامعة كمبريدج، وغودي ومنذ الستينيات حين أصدر كتابه «محو الأمية في المجتمعات التقليدية «1968م» استطاع هدم الأساس الذي تقوم عليه المركزية الأوروبية ابتداءً من عصر النهضة وحتى الآن، وهي فرضة تشدد على أن ثمة خصائص «أوروبية بالطبع» موروثة من الحضارات اليونانية واللاتينية ثم من الأديان يهودية ومسيحية كلها هي التي مكَّنت لهذا الغرب من إنجاز عمليات النهضة، وما أعاق هذه العمليات في المجتمعات الأخرى هو فقدانها هذه الخبرة الثقافية المستندة إلى العقلانية والتي تنتشي فيها روحانية الشرق، وبذا فإن العالم الغربي تقدم لأنه صنع تاريخاً علمياً تسنده قيم ثقافية مكتسبة من سياق معرفي خاص، هو سياق الذات الغربية من اليونان وحتى عصر التنوير لينتج نهضةً ثقافية شاملة، أما غودي فإنه يقف على النقيض من ذلك تماماً، ويرى أن هذه السردية معرضة دائماً إلى التزوير وطغيان الأنا أكثر منها حقيقة اجتماعية، ليقول في تحليله أن تقدم جزء من العالم في الوقت الذي يتزامن معه ركود في أجزاء أخرى لا يعود إلى الخصائص الثقافية المتأصلة في طرف وغائبة في آخر، بل إن مسألة التقدم خاضعة وباستمرار لديناميكيات يمكنها أن تتوفر وفق عمليات مستمرة من التحديث الذاتي.
•وغودي نشر في العام 2007م كتابه «سرقة التاريخ» وهو بيان متماسك عن الكيفية التي استطاعت بها أوروبا أن تنسب لنفسها تراثاً علمياً لا يخصها بالدرجة الأولى، بل الأمر يشبه «السرقة» وأنها بموجب هذا التراث المركب بعنف التدوين بنت عليه قيماً إنسانية، قالت أنها أوروبية، أوروبية فقط، ويشير غودي إلى أن هذه المركزية أجبرت بقية العالم على ارتداء أقنعة تفكير لا تبصر معالم للتقدم إلا من وجهة نظر غربية في الأساس، واستمراراً في مشروعه صدر كتابه «الشرق في الغرب» والذي يعد نظرية في فضح الإدعاء الغربي بامتلاك العالم وصناعته بل وصياغة قيمه بشكل أحادي ومطلق، وقد صدر هذا الكتاب في نسخته العربية بترجمة محمد الخولي، والحقيقة أنه لا عذر لمن يشتغلون في المسألة الاجتماعية متخصصون ومهتمون من الإطلاع عليه ودراسته ونقده، وذلك للفائدة العظمى، ليس فقط كونه يفضح عمليات التنهيب التي مارستها أوروبا على العالم، وكيف صنعت أقانيم خالدة تحط من قدر كل ما هو غير أوروبي، بل الفائدة الأكبر تعود إلى كونه منجز محكم التأسيس قوي الحجة، ولدقة أحكامه فإنه يطرح التساؤل حول، متى أصبح الأوروبيون على وعي بتفوقهم بالنسبة إلى سائر الأمم؟» وفي إجابته عن هذا السؤال يقدم لنا مادة تحليلية عميقة وذات تكوين متسق يفسر بها بعض المقولات التي صنعت هذا التمايز، بل ويقوم بتفكيكها بشكل منهجي عظيم. ويستمر الرجل في هدم التصورات الأوروبية حول مركزية الغرب ضد الشرق، ويرى أن حضارات أوروبا وآسيا نشأتا من أصل واحد، بل ويرى في منجزات الفكر السياسي الأوروبي المرتبط بتطور ظاهرته الاجتماعية كونها استندت على ترسانة فكرية هي أسس عمليات التطور الاقتصادي، فإنه يرى من ضمن مقولاته الهادمة لخديعة الغرب بأن الديموقراطية ليست صناعة غربية، فهو يرى أنه إذا كان القرن الخامس عشر هو بدايات هيمنة أوروبا على العالم، وهي هيمنة أفصحت عن نفسها بمقولة رئيسة وهي أن الشرق المتخلف يحتاج إلى النهضة، والتي لن تتم إلا على يد الغرب، فإن وسم الشرق بالتخلف لا يعدو إلا عملية احتيال ممتازة العرض، فالصين ظلت البلد الأقوى في صناعة البارود منذ زمن بعيد، وهي الصناعة التي مكنت لأوروبا التوسع وغزو العالم، ولولا البارود الصيني لما استطاعت القيام بهذا الكم من عمليات الغزو لعدد من البلدان، وهو هنا يشتبه بقوة في رواية التقدم الغربية تلك التي صنعت لنفسها مساراً خطياً يبدأ من بترارك «فرانشيسكو، أحد أعمدة التفكير الإنساني في عصر النهضة» وحتى ديكارت صاحب نظرية الشك وقواعد المنهج، ويرى الأمر مجرد خدعة، فكونها «أوروبا» اعتمدت في نهضتها على بناء أسطوريتها القومية، هي تلك التي استعادت اليوناني وأدمجته في ذاتها الاجتماعية لتقول بثبات عمليات النسب الحضاري فيها، والرجل محق فالأمر ليس إبداعاً أوروبياً فالحقيقة أن عمليات استثمار الماضي هي دينامية مستقرة في أي بناء اجتماعي متحرك.
•لقد تركز نقد غودي على «عصر النهضة» أو بالأدق على الجانب المظلم في هذه السردية، وأن الأمر ليس كما تعرضه المركزية الغربية وهي تبشر بحداثتها إبان عصر التنوير، وأنه لا صحة لهذه السردية القائلة بتواصل عمليات الانتقال الحضاري منذ اليونان وحتى إيطاليا النهضة، بل يرى أنها فترات عاشت فيها الذات الحضارية الأوروبية انقطاعاتها الكبرى، فسقوط الإمبراطورية الرومانية، وبدأ اعتناق شعوبها المسيحية، ثم ظهور عهد الإقطاع وما تلاه من تطور في الاقتصاد السياسي فإنه لا يمكن والحال كذلك أن نطمئن لوجود منظومة قيم ثقافية هي سبيل لأوروبا للحصول على التفوق الحضاري دون غيرها من الأمم..
•إن جملة المناقشات حول الغرب والشرق ظلت خامدة ودون تأثير إلى أن قام جاك غودي وبفضل قدراته استخدام مناهج التحليل التاريخية والتجريبية والمقارنة في علم الاجتماع من فتح مسارات جديدة لفهم هذه العلاقة، نعم هو يريد الذات الغربية محل للدرس، وليس الآخر، فالآخر يظل انعكاس لعمليات التحليل عنده، ولذا فإن سجالات النهضة العربية لن تفلح في بناء حقائقها دون الوقوف الجاد على جدل النهضة والتقدم في الكتابة الغربية، وغودي هو أحد أهم الأمثلة المنتجة لفهم جديد في سياق علاقات الغرب والشرق، بل إن حتى الفضاء السياسي الذي يصر على احتقاب نظرة متعالية ضد كل ما هو شرق، وبالتالي عربي هو الآخر فضاء يقوم على بنية معرفية أهم ملامحها الخديعة بوجود تفوق وامتياز غربي مطلق كونه عقلاني النزعة، ضد تخبط وتراجع مستمر لشرق عاطفي التوجه، والدعوة هنا أن نبنى فضاءً تداولياً بين المعرفي في الغرب والشرق، لا أن نكتفي بالصدى دون فهم حقيقي لجذور الوعي الغربي، حينها فقط ستكون أشغالنا مستقلة وليست مجرد ردود أفعال مكتومة.
غسان علي عثمان كاتب سوداني