"في كلٍّ من التطور السياسي والعلمي، فإن الشعور بالخلل الذي يمكن أن يؤدي إلى الأزمة هو شرط أساسي للثورة".

توماس كون، بنية الثورات العلمية.

تخيل أن طفلا يرسم نقاطا سوداء على بالون، وفور أن ينتهي ينفخ البالون، يلاحظ أن النقاط التي كانت قريبة من بعضها حين بداية الرسم تأخذ في التباعد كلما كبر حجم البالون.

يسأل الطفل: هل تجري النقاط التي رسمها بعيدة عن بعضها؟ الإجابة المباشرة هي: لا، فالنقاط تبتعد، لا لأنها تتحرك، بل لأن جسد البالون يتمدد. هكذا مَثَّل الفيزيائي البريطاني آرثر إدينجتون حالة توسع الكون، حيث تتباعد مجراته وتترامى بعيدا عن بعضها بعضا، لكن هذه الحركة التوسعية التي يتعرض لها النسيج الكوني قد تعكر صفو قوانيننا الفيزيائية والفلكية التي تفسر أنظمة الكون وتشرح تمظهراته القديمة التي يمكن عبرها أن نتنبأ بسلوكه المستقبلي، مما يضع علم الكونيات بالكامل في مهب الريح.

من هنا جاءت مهمة التلسكوب الفضائي "جيمس ويب" الذي أُطلق في ديسمبر/كانون الأول 2021، التي تكرست من أجل إيجاد حل لمشكلات عدة لا تزال تؤرق الفلكيين وعلماء الطبيعة منذ عقود، وأهمها هي ما أُطلق عليها "كارثة علم الكونيات"، وهي الأحجية الكبرى التي يواجهها الفيزيائيون أمام ظاهرة التوسع الكوني. "لكن تلسكوب جيمس ويب لم يتمكن من إسعاف الباحثين بحل للمشكلة، بل عمّقها تماما"، هكذا قال آدم ريس، الفيزيائي الأميركي الحاصل على جائزة نوبل عام 2011، لمحرر "أبعاد".

(الجزيرة)

من المعروف أن "جيمس ويب"، الغارق في الأفلاك البعيدة، كان نتاج جهد دولي ضم وكالات الفضاء الأميركية والأوروبية والكندية وآلاف العلماء والمهندسين والتقنيين من كل أنحاء العالم. حوى التلسكوب تقنيات معقدة جعلت إطلاقه ووضعه في مساره يبدو مثل تشكيل قطعة أوريغامي في الفضاء، وتعثره في إيجاد بعض الأجوبة المُنتظرة كان مفاجأة علمية صادمة، لكن كيف نفهم القصة من البداية؟

 

البالون الكوني الممتد

منذ عشرينيات القرن الماضي، بدأ علماء الفيزياء الفلكية في الحديث عن أن الكون يفعل الشيء نفسه الذي يفعله بالون الطفل، حيث تتباعد مجراته عن بعضها بعضا بسرعة هائلة، ومثل البالون الذي بدأ صغيرا، يعتقد العلماء، بحسب أكثر النظريات قبولا، أن الكون نشأ من نقطة واحدة متناهية الصغر، عظيمة الكثافة، لا يعرف العلماء حتى اللحظة كيف نشأت. كل ما نعرفه أن الكون كله كان منضغطا في هذه النقطة، قبل أن يأخذ طريقه في التوسع والتمدد مع الزمن، مُبعدا مجراته وأجرامه عن بعضها بعضا، ومنذ لحظة الظهور، لم يتوقف تمدد الكون أبدا، بل يتسارع في توسُّعه.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2أميركا والصين تستعدان لحرب كبرى تستمر لسنوات.. فلمن ستكون الغلبة؟list 2 of 2أبعاد.. موقع الجزيرة نت يطلق صفحة جديدة للصحافة المعرفيةend of list

استطاع العالم "إدوين هابل"، الذي كان محاميا قبل أن يتوجه لدراسة علم الفلك، أن يصوغ قانونا أمكن به حساب معدل توسع الكون، من خلال قيمة حملت اسمه "ثابت هابل". وقد توصل العلماء بعد ذلك إلى طريقتين أساسيتين، ومجموعتين من أدوات القياس، لحساب ثابت هابل، أو سرعة توسع الكون، لكن المعضلة الكبرى التي تواجه علم الكونيات الآن، لدرجة وصفها بـ"الكارثة"، هي أن كل طريقة تصدر نتائج مختلفة. فما الذي حدث بالتحديد؟

 

من اللحظة صفر!

في البداية، دعونا نعِش اللحظات الأولى من تاريخ كوننا، فمن خلال حرارة تُقدَّر بالمليارات من الدرجات المئوية نشأت مكونات الذرَّة من بروتونات ونيوترونات وإلكترونات. وبسبب الكثافة الشديدة لمادة الكون من الإلكترونات السابحة، كان الكون مُعتِما تماما لا يمرر أي ضوء، بينما لم تسمح الحرارة بحدوث الارتباط اللازم بين الأنوية والإلكترونات لتكوين الذرات الأولى.

لكن بعد مرور نحو 380 ألف سنة، أصبح الكون باردا بما يكفي ليسمح لتلك الأنوية بأن تجذب الإلكترونات في مداراتها، فتكونت أولى ذرات الهيدروجين والهيليوم، هنا حصلت الإثارة الكبرى، حيث انطلقت فوتونات الضوء في سفر طويل حتّى أُنهكت تماما، لكنها في تلك الأثناء غمرت الكون كله، الآن، يتمكن العلماء من رصد آثار هذا السفر، وحركة تلك الفوتونات التي غمرت كل أرجاء الكون، إنه وهج الانفجار العظيم! يطلق العلماء على هذا الضوء مصطلح "إشعاع الخلفية الكونية الميكروي"، الذي كان اكتشافه في الستينيات سببا في حصول عالمَيْ الفلك "أرنو بنزياس" و"روبرت ويلسون" على جائزة نوبل للفيزياء لعام 1978.

(الجزيرة)

يُعدّ إشعاع الخلفية الكونية أحد أهم الموارد التي يعتمد عليها علماء الكونيات في فهم أحوال الكون قبل أكثر من 13.7 مليار سنة، ومما يُدرس في تلك المرحلة مسألة معدل توسع الكون، وبحسب ما أشارت لمحرر "أبعاد"، تقول "ليشيا فيردي"، أستاذة علم الكونيات في جامعة برشلونة: "تعطي القياسات المعتمدة على إشعاع الخلفية الكونية لثابت هابل قيمة تساوي نحو 244 ألف كيلومتر في الساعة لكل مليون فرسخ فلكي"، وهذا الرقم يُعبِّر عن سرعة توسع الكون بين مجرتين داخل قطعة من الفضاء طولها 3.26 مليون سنة ضوئية.

إذن قاس العلماء معدل توسع الكون، وبالتبعية استطاعوا معرفة حجمه في الماضي والتنبؤ بحجمه في المستقبل، إلى جانب عدد من النتائج الأخرى التي تمثل أساسات علم الكونيات. لكن ليت الأمر كان بهذه السهولة، فقد وجد العلماء نوعا آخر من القياسات لحساب معدل توسع الكون. تقول فيردي مرة أخرى لنا: "هناك العديد من الطرق لقياس ثابت هابل، لكنها جميعا تنتمي إلى واحدة من هاتين الفئتين: إما أن يُستنتَج من خلال النظر في خصائص الكون في فترة مبكرة جدا من تاريخه، عن طريق رصد إشعاع الخلفية الكونية، أو يُقاس بالنظر في فترة متأخرة من تاريخ الكون (أي في الوقت الحالي) عن طريق رصد سرعة ابتعاد المجرات الأخرى عنا".

حين قاس العلماء سرعة ابتعاد المجرات الأخرى عنا، وجدوا أن ثابت هابل يساوي 264 ألف كيلومتر في الساعة لكل مليون فرسخ فلكي، وهي تقريبا النتيجة التي توصل إليها آدم ريس وفريقه البحثي في سبتمبر/أيلول الماضي باستخدام جيمس ويب في ورقة نُشرت بالدورية الشهيرة "ذا أستروفيزيكال جورنال". ومهما تكررت القياسات يظل فارق النتيجة بين نوعَيْ القياس كبيرا، فهل الكون يتوسع بسرعة 244 كما تقول قياسات الخلفية الكونية، أم 264 ألف كيلومتر في الساعة كما تقول قياسات سرعة المجرات؟ وهل يُنبئ ذلك بحاجة العلماء إلى فيزياء جديدة لحل هذه الكارثة؟

(الجزيرة) التوتر الذي يحكم كل شيء!

هذا الاختلاف في القياسات، أو ما يسمى بتوتر "هابل"، هو كارثة علم الكونيات الحالية، لأن ثابت هابل يسري حكمه على كل ما هو كوني، فهو يحدد المعدل الذي يتوسع من خلاله الكون، وبالتالي يرشدنا إلى معرفة عمره، ويرسم الجدول الزمني لتتالي الأحداث فيه وصولا إلى حجمه الحالي والمستقبلي. كما أنه يساعد العلماء على تقدير المسافات إلى الأجرام الأخرى في جميع أنحاء الكون. إلى جانب ذلك، فإن قيمة ثابت هابل تساعد العلماء على فهم خصائص الطاقة المظلمة والمادة المظلمة، وهما مكونان غامضان يمثلان 95% من تركيب هذا الكون، لا يعرف العلماء عنهما إلا أقل القليل. والخلل في ذلك معضلة، حيث أدى إلى انقسام في المجتمع العلمي بين مَن يرى أن المشكلة في البيانات أو الإحصاءات أو الأساليب المستخدمة لقياس الثابت، وبين مَن يعتقد أن الخلل امتد إلى النظرية نفسها أو قُل النموذج والأساس النظري الذي تعتمد عليه تلك القياسات أو حتّى فيزياء الكونيات من الأساس، التي تبني نفسها على نتائج النظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين.

يعد "بافيل كوروبا"، الأستاذ بمعهد هيلمهولتز للإشعاع والفيزياء النووية بجامعة بون الألمانية، واحدا من أولئك الذين يعتقدون أن الخلل يكمن في الأساس النظري، وبالتالي هو أحد العلماء الذين يكرسون أنفسهم لحلٍّ لهذه الكارثة، عبر وضع نظرية بديلة، وقد أوضح لمحرر "أبعاد" أنه "يمكن تفسير توتر هابل عبر دراسة اختلاف كثافة المجرات، فمجرتنا توجد في منطقة من الكون ذات كثافة مجرية منخفضة نسبيا"، تأتي فكرة كوروبا التفسيرية هذه في إطار ورقة بحثية نشرها مؤخرا بصحبة فريق من الباحثين في دورية "مونثلي نوتيس" التابعة للجمعية الفلكية الملكية.

تشير الورقة إلى أننا نسكن داخل فقاعة كونية هائلة، تزيد كثافة المجرات داخلها عن خارجها، وبسبب ذلك تنجذب المجرات القريبة إلى أطراف الفقاعة بسرعة أكبر من المعتاد، ومن هنا يرى "كوروبا" أن هذا هو السبب في أن ثابت هابل يخرج بقيمة أكبر (تصل إلى نحو 7%) حينما يقاس من خلال سرعة المجرات مقارنة بقياسه من خلال إشعاع الخلفية الكونية، أي إن فارق السرعة لا يحصل بسبب توسع الكون، وإنما بسبب هرولة المجرات إلى حدود الفقاعة تلك.

 

الجاذبية المعدلة.. ووجوه أخرى للمعضلة

لكن فرضية كوروبا تلك، وإن كانت تجيب بشكل ما عن سبب توتر ثابت هابل، فإنها تستند إلى فيزياء جديدة تختلف عما عهدناه في حصص العلوم بالمدرسة الإعدادية، وهي ما تسمى "ديناميكا نيوتن المعدلة" (MOND)، وهي نظرية مقترحة بديلا للجاذبية المعروفة في "فيزياء نيوتن" و"النظرية النسبية"، وتفترض تلك النظرية أن طبيعة الجاذبية تختلف في المسافات الشاسعة، ولكن فيما يبدو فإن هذه النظرية خلقت المزيد من المشكلات والاضطرابات في علوم الكونيات.

ولفهم الأمر دعنا نتحدث عن نظريات الجاذبية مثلما نتحدث عن أجيال هواتف الآيفون. مثلا، هناك الجاذبية العادية التي تحدَّث عنها نيوتن قبل نحو أربعة قرون، وهي ما تُبقي أقدامنا على الأرض وتتسبب في سقوط ثمرات التفاح. تعمل هذه النظرية جيدا في معظم المواقف اليومية، لكن منذ نحو قرن من الزمان، توصل "ألبرت أينشتاين" إلى تفسير أكثر تفصيلا للجاذبية يسمى النسبية العامة، وفي هذه النظرية يشير إلى أن الجاذبية ليست قوة تنشأ بين الأجسام كما كان يعتقد نيوتن، لكنها نتيجة لقدرة الأجسام على ثني نسيج المكان والزمان من حولها.

ورغم براعة نظرية أينشتاين في شرح الكثير عن الكون عبر تلك النظرية، فإن قدرتها التفسيرية قلَّت في بعض النطاقات. مثلا، عندما ينظر العلماء إلى كيفية دوران المجرات وحركتها في التجمعات المجرية، فإنهم يلاحظون أنها لا تتسق مع توقعات نسبية أينشتاين، وهنا يأتي دور نظريات "الجاذبية المعدلة" التي يفترض المؤيدون لها أنها تحديث أو تصحيح لنظرية النسبية العامة، وبحسب عالِمنا "كوروبا" فإنه يرى أن الجاذبية قد تعمل بشكل مختلف على المقاييس الكبيرة جدا أو الصغيرة جدا، مقارنة بما اعتدنا عليه، حيث تفترض نظرية الحرباء (أحد روافد الجاذبية المعدلة) أن قوانين الجاذبية ليست ثابتة في الكون كله، بل تتغير طبيعة الجاذبية في حالات خاصة بتغير البيئة المحيطة، ومن هنا جاء وصف الحرباء.

 

فوضى في أروقة قسم الفيزياء

لكن كما ذكرنا، فإن نظريات "الجاذبية المعدلة" مثلها مثل "ثابت هابل" خلقت الكثير من المشكلات في جوانب أخرى لعلم الكونيات ما زالت إلى الآن بلا حل، كما أنها وإن كانت تتسق مع بعض الأرصاد الفلكية المصورة عبر المراصد الكبرى والأقمار الصناعية المتخصصة، فإنها لا تتسق مع أرصاد أخرى أكثر، ما يجعل العلماء إلى الآن غير متشبثين بها بقوة تكفي لدفعها للتنافس مع نظريات أينشتاين. في هذا السياق نعود مجددا إلى "ليشيا فيردي"، التي ترى أنه في الوقت الحالي ما زال "النموذج النظري القائم لفيزياء الكونيات ناجحا، فهو يمتلك قدرة تفسيرية جيدة لمجموعة كبيرة من الأرصاد والبيانات، بالتالي إذا أردنا تعديل هذا النموذج لحل مشكلة ثابت هابل، فقد يؤثر ذلك على الجوانب الأخرى له، وقد يخلق مشكلات كبيرة في مكان آخر".

لكن "إنريكو رينالدي"، وهو زميل باحث في قسم الفيزياء في جامعة ميريلاند الأميركية، ما زال يرى ضرورة تأسيس فيزياء جديدة مهما كان الثمن، معتبرا ذلك هو الطريق الوحيد للخروج من المأزق. كان "رينالدي" بالتشارك مع فريق دولي قد قام بتحليل قاعدة بيانات لأكثر من 1000 انفجار نجمي، لدعم فكرة ثورية تماما في هذا النطاق، وهي أن ثابت هابل قد لا يكون ثابتا من الأساس.

يقول "رينالدي" في تصريح حصل عليه محرر "أبعاد": "السؤال الذي طرحناه في ورقتنا البحثية هو: ماذا لو لم يكن ثابت هابل ثابتا؟ وماذا لو تغير بالفعل؟"، وحتى يدلل رينالدي على فكرته التي تُطيح بثبات ثابت هابل، فإنه قام بتقسيم المسافة بين الأرض وبين أبعد الانفجارات النجمية إلى ما يشبه الصناديق، كل صندوق يحتوي على مجموعة من الانفجارات النجمية التي توجد على مسافة قريبة من بعضها بعضا، وبقياس قيمة ثابت هابل عبر طرق إحصائية قاموا بتطويرها، تبين أنه يختلف بين كل صندوق والآخر على حسب المسافة، ويعلق "رينالدي" على ذلك قائلا: "إذا كان ثابت هابل ثابتا، فلا ينبغي أن يكون ذا قيمة مختلفة عندما نستخرجه من صناديق ذات مسافات مختلفة، لكن نتيجتنا الرئيسية هي أنه يتغير فعليا مع المسافة المتغيرة"، والمحصلة التي خرج بها "رينالدي" ورفاقه أن ثابت هابل قد لا يكون ثابتا بالمرة.

أول الصور التي أعلن عنها جيمس ويب في يوليو/تموز 2022 (ناسا)

وقد تسببت تلك النتائج في تعميق أزمة علم الكونيات، لأن تحويل "ثابت" هابل من "ثابت قلق" إلى "متغير" مطلق يعني أن معدل توسع الكون ليس منتظما، وبالتالي تتأثر معارف وفهوم العلماء عن طبيعة المادة والطاقة المظلمتين، بل وسيصل الأمر إلى التأثير على فهمنا لتطور الكون منذ العصور المبكرة وحتى الوقت الحاضر. كل ما سبق ونحن لم نذكر بعد تأثير تلك النتائج على فهم العلماء لتطور الهياكل الكونية الكبرى مثل المجرات ومجموعات المجرات، بل وتوزيع المادة في الكون، هل هي متجانسة ومتساوية الكثافة أم لا؟ ويمتد الأمر وصولا إلى عمر الكون نفسه.

وبسبب التأثير الخطير للاعتماد على نظرية جديدة في علم الكونيات، فإن هناك من الفيزيائيين مَن يحاول إنقاذ الموقف، وأنه بدلا من البحث عن فيزياء جديدة، علينا أن نعيد النظر في أدوات القياس، أو الطرق التي نستخدمها لقياس قيمة ثابت هابل، وهذا هو عمل فريق يقوده باحثون من جامعة شيكاغو الأميركية.

قام هذا الفريق بعمل دراسة متفحصة لقياسات ثابت هابل بناء على سرعة المجرات القريبة، ولكنهم استخدموا طرقا غير معتادة، حيث فحصوا نجوما تسمى "العمالقة الحمراء" يمكن استخدامها لمعرفة المسافة بيننا وبين مجرة أخرى، ومن ثم دراسة معدلات ابتعادها عنا، وفي دراستهم التي نُشرت بدورية "ذا أستروفيزيكال جورنال" قال الباحثون من هذا الفريق إن القياسات جاءت قريبة من تلك المأخوذة من إشعاع الخلفية الكونية.

(الجزيرة)

أضاف هذا الفريق أن القياسات المعتمدة على المتغيرات القيفاوية (نوع آخر من النجوم يُستخدم عادة في هذه القياسات) ربما تعطي قيمة أكبر من المعتاد لثابت هابل بسبب أن هذه النجوم توجد عادة في منطقة نشطة من المجرات، ما قد يؤثر على طرائق القياس، وطبقا لهذا الاستنتاج على العلماء أن يدعوا النظريات مستقرة، وأن يستنفدوا جهدهم في البحث عن بدائل في نطاق القياسات.

 

الثورات العلمية وجدران الثقة الباردة

والحقيقة فإن الأزمة التي تواجهها العلوم الكونية تضعنا في طريق الثورات العلمية، وهو مسار تمر عبره النظريات العلمية في دورات، حيث تظهر النظرية في أحد الأطوار حلا لمشكلة، ثم في طور آخر تصبح -هي نفسها- مشكلة تبحث عن حل. وقصة الثورة العلمية هي قصة المفاجأة التي تُفتت جدران الثقة التي تلتف حول نظرية ما، المفاجأة التي تُسكت النظرية القديمة لتمهيد الطريق نحو ثورة علمية جديدة.

فمثلا حينما توقع العالمان جون أدامز وأوربان لوفيرييه مدار كوكب أورانوس بناء على قوانين نيوتن، قبل نحو قرنين من الزمن، أحدثا ثورة في تاريخ العلم، حيث تمكن علماء من الاعتماد على نموذج نظري (قوانين نيوتن)، لا عبر أدوات رصد، للاستدلال على وجود جُرم سماوي (كوكب أورانوس)، وحينما ظهرت مشكلة في تطابق التوقعات مع النتائج بدرجة طفيفة، افترض العالمان وجود كوكب أبعد من أورانوس وهو نبتون، الذي تأكد وجوده فيما بعد في استعراض مذهل لقوة المنهجية العلمية.

لكن حينما حاول "لوفيرييه" حل مشكلة شبيهة تتمثل في عدم اتفاق موقع مدار كوكب عطارد مع توقعات نظرية نيوتن، بالطريقة السابقة نفسها مفترضا وجود كوكب آخر جاءت النتيجة مخيبة، لأن المشكلة في هذه الحالة لم تكن في طبيعة البيانات أو طريقة القياس، بل كانت في قوانين نيوتن ذاتها، هنا ظهرت النظرية النسبية وأعطت إجابة دقيقة عن الخلل الطفيف في مدار كوكب عطارد.

في المرة الأولى نجح حدس العالِمَيْن، لكنه أخفق في الثانية، وهذه هي إحدى أكبر المشكلات في الطريقة العلمية بحسب بيير دوهيم، الفيلسوف الفرنسي في كتابه "غاية وبنية النظرية الفيزيائية"، حيث يواجه العلماء مشكلة ما في تجاربهم، فلا يعرفون مصدرها: هل هي في القوانين ذاتها، أم في طرق القياس، أم في طريقة بناء النتائج من تلك الطرق؟ الأمر كذلك الآن، نحن لا نعرف أين يكمن الخطأ في العلوم الكونية. في حديثها مع "أبعاد" ترى العالمة فيردي بأنه: "ربما لم ننظر بالدقة الكافية في الأخطاء المنهجية التي نقوم بها أثناء إجراء تلك القياسات، ربما يوجد شيء لا نراه بالفعل".

على سبيل المثال، ربما لا نفهم نوعية من النجوم المتغيرة بطريقة صحيحة، حيث قد تحتاج إلى تأمل القوانين التي تصفها لبعض الضبط، أو ربما تكون هناك مشكلة متعلقة بانحناء شعاع الضوء المسافر من تلك المجرات البعيدة إلينا، حينها بحسب عالِمتنا فيردي "سيقوم المجتمع البحثي بجهد كبير في هذا الاتجاه، نحو معالجة التفاصيل، ولكن ماذا لو كانت المشكلة في النموذج النظري نفسه الذي يشرح الكون كله من لحظة ميلاده إلى نهايته؟"، هنا لا بد أننا سنحتاج إلى فيزياء جديدة.

يتفق ذلك بالضبط مع فكرة فيلسوف العلم الشهير توماس كون في كتابه "بنية الثورات العلمية"، حينما عرَّف فترة "علم الكارثة" بأنها تلك الفترة الضبابية التي يتخبط فيها العلماء بين إجابات لأسئلة محيرة وغير مفهومة، ورغم محاولات العلماء المضنية لإيجاد حلول، و"ترقيع" النظريات الموجودة بين أيديهم لحل المشكلة، فإن الكارثة تتفاقم على كل حال مع الزمن، حتى ينتج عنها علم جديد تماما.

ويُعد أشهر مثال على تلك الحالة هو تلك النقطة الزمنية التي ظهرت عندها النسبية على يد أينشتاين. في البداية كان المجتمع العلمي متفقا على عدة قواعد يمارس بها العلم بشكل يومي متزن وهادئ كجريان نهر. إحدى الفرضيات التي اتفق عليها الجميع كانت فكرة "الأثير"، وهو الوسط الذي يسمح بانتقال الضوء في الفراغ، لكن ذلك استدعى أن تكون سرعة الضوء في اتجاه الأثير مختلفة عن سرعته عكس اتجاه الأثير، يشبه الأمر أن تمشي بقارب مع أو ضد اتجاه تيار الماء، في الحالة الأولى سوف تكون أسرع لأنك تمشي مع التيّار، لكن مشكلة ما ظهرت حينما حاول كلٌّ من مايكلسون ومورلي قياس ذلك الاختلاف في السرعة عبر جهاز حديث قاما بتطويره، فوجدا أن سرعة الضوء تظل ثابتة مهما تغير اتجاه القياس. تكررت التجربة أكثر من مرة، وقام بعض الفيزيائيين بوضع حلول مكملة أو مساعدة، لكنّ أحدا منها لم ينجح، هنا ظهرت مشكلة لا يمكن تجاوزها، وهي ما يرى توماس كون أنها مرحلة الثورة.

(الجزيرة)

فمع الحيرة التي حلّقت فوق عقول الفيزيائيين النظريين، جاء أينشتاين بنظريته النسبية الخاصة. لم يعتمد أينشتاين على مسلّمات النماذج الفيزيائية السابقة التي تقول إن الزمان والمكان هما نطاقات ثابتة كديكور مسرح بينما يتحرك الممثلون ويؤدون أدوارهم، بل قرر اختراقهما لصنع ثورة لم تعتمد على ما سبق من فيزياء، لأنه بالأساس كان يحطم أشياء دأب الفيزيائيون لمئات السنين على اعتبارها مسلّمات. ولّد أينشتاين في تلك اللحظة نموذجا ومنهجا جديدا فيه الزمان والمكان أشياء نسبية.

هل يمكن أن يحدث ذلك في حالة توتر هابل فنخرج بنظرية جديدة؟ يقول آدم ريس تعليقا على تلك المشكلة لمحرر "أبعاد": "لا نعرف أي شيء بعد، قد يشير ذلك إلى وجود طاقة مظلمة غريبة، أو مادة مظلمة غريبة، أو ربما نحتاج إلى مراجعة لفهمنا للجاذبية، أو ربما هناك جسيم ما لم نكتشفه بعد يُعد فريدا من نوعه".

يرى ريس أن التفسير الأكثر بساطة هو أن أخطاء القياس تتآمر معا، ولهذا السبب من المهم جدا إعادة القياسات بدقة أكبر، وهذا هو ما ينوي فعله: التدقيق في نتائج إشعاع الخلفية الكونية وكذلك أرصاد المجرات القريبة. ولكن مع ذلك، يضيف قائلا: "إن الاحتمالات الأكثر إثارة للاهتمام بشأن فيزياء جديدة تماما لم تصل إليها عقولنا بعد لا تزال مطروحة على الطاولة".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات أبعاد إلى فیزیاء عن بعضها جیمس ویب مشکلة فی من خلال فی هذه التی ت

إقرأ أيضاً:

ذنب حيوانات التجارب.. لم يصاب العلماء بالقلق والاكتئاب؟

في زوايا منصات التواصل الاجتماعي، تنتشر بين الحين والآخر مقاطع قصيرة لطالب أو طالبة جامعية، في لحظة ارتباكهم الأولى داخل مختبر العلوم أو الطب أو الصيدلة، حين يُطلب منهم تشريح فأر أو ضفدع صغير، ويبدأ الأمر غالبا بحقنة مخدّرة، تنذر ببداية تجربة لن تُمحى بسهولة من الذاكرة.

قد يبدو المشهد في ظاهره كوميديا، أو طريفا، أو حتى روتينيا من وجهة نظر الأكاديميين، لكنه في جوهره يحمل طبقات عميقة من التأثير النفسي يصعب تجاهلها. فذلك اللقاء الأول بين الطالب والكائن الحي في مختبر التشريح، ليس مجرد تمرين علمي عابر، بل بذرة لعلاقة طويلة الأمد ومعقّدة ومثقلة بالمشاعر المتشابكة.

فالذين يختارون مواصلة هذا الدرب في ميادين البحث العلمي، سيجدون أنفسهم وجها لوجه مع واقع يتكرّر: كائنات حيّة توضع على طاولة العلم، لتُحقن أو تُشرّح أو تُراقب في لحظات ضعفها الأخيرة.

ولئن كان هذا المصير مؤلما للحيوان الذي لا حيلة له، فإن الباحث نفسه لا يخرج من التجربة سالما. إنها علاقة لا تسير على خط واحد، حيث تؤكد الدراسات في هذا النطاق أن الباحث يتأثر بشكل كبير، وصولا إلى أشد درجات الاكتئاب والقلق، والانفصال عن الواقع.

يُعدّ "إرهاق التعاطف" ظاهرة متكررة ومقلقة في بيئات البحث العلمي (الصحافة الفرنسية) عالم مختلف

تُعد التجارب على الحيوانات جسرا حيويا نحو فهم أعمق للكائنات الحية والأمراض التي تصيب الإنسان والحيوان. ومن خلال هذه التجارب، يكتسب العلماء معارف لا يمكن الحصول عليها بوسائل أخرى، وهذا يمهّد الطريق لتطوير أدوية وتقنيات جراحية جديدة.

إعلان

وتُختبر هذه الابتكارات أولا على الحيوانات لضمان سلامتها وفعاليتها قبل تطبيقها على البشر، تجنبا لأي مخاطر محتملة.

وتتنوع الكائنات المستخدمة في هذه التجارب، فبالإضافة إلى الفئران والجرذان الشائعة، تُستخدم الخنازير والخيول والثعابين والرئيسيات والأبقار والبوم والأغنام، وغيرها من الحيوانات، بحسب حاجة العلماء إلى وسيط بسمات محددة لإقامة التجربة.

أسهمت هذه التجارب في تحقيق ابتكارات طبية حسّنت جودة حياة الإنسان وزادت من متوسط عمره. على سبيل المثال، مُنحت جائزة نوبل في الطب عام 2023 لكاتالين كاريكو ودرو وايزمان لتطويرهما لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال المضادة لفيروس كوفيد-19، والتي جُرّبت على الفئران ككائن نموذجي أساسي.

وبالفعل تعاني معظم الحيوانات المستخدمة من حد أدنى من الألم أو الانزعاج لفترة وجيزة. فوفقا لتقرير وزارة الزراعة الأميركية، لا تتعرض نحو 94% من حيوانات المختبر لإجراءات مؤلمة، أو تُعطى أدوية لتخفيف أي ألم ناتج، وحتى الـ6% المتبقية، تُجرى عليها إجراءات مؤلمة من دون مسكنات، حيث قد يتعارض تخفيف الألم مع أهداف التجربة.​

وبعد انتهاء التجارب، تُقتل الحيوانات غالبا لفحص أنسجتها وأعضائها، وفي حين يصعب تحديد العدد الدقيق للعلماء والأطباء البيطريين ومقدمي الرعاية الحيوانية العاملين في مرافق الأبحاث، فإننا نعلم أن حوالي 100 مليون حيوان تُستخدم في الأبحاث والاختبارات عالميا كل عام.

أثر غير متوقع

بعيون مرهقة وقلوب مثقلة، يقف علماء الأبحاث أمام معضلة لا تُرى في نتائج التجارب ولا تُكتب في تقارير المختبر: إنها الضريبة النفسية للعمل مع حيوانات التجارب.

وتشير دراسات متعددة إلى أن العمل في هذا المجال لا يخلو من نزف داخلي صامت، حيث يُعدّ "إرهاق التعاطف" ظاهرة متكررة ومقلقة في بيئات البحث العلمي، خاصة داخل وحدات رعاية الحيوانات. ذلك النوع من التعب النفسي الذي لا ينتج عن بذل الجهد الجسدي فحسب، بل عن الانغماس العاطفي المتواصل في مشهد الألم، حتى يفقد المرء طاقته على العطاء، ويذوي وجدانه شيئا فشيئا.

إعلان

ويُعرّف إرهاق التعاطف بأنه استنزاف عاطفي وعقلي يصيب الفرد حين تُثقل روحه بمشاعر الحزن والقلق والإشفاق المستمر، إلى حدّ يفقده قدرته على الاستمرار في عمله بصفاء. ويصاحبه طيف من الأعراض: توتر، انفعال، شعور بالعجز، صداع دائم، تعب لا يهدأ، انخفاض في الإنتاجية، وانسحاب تدريجي من الذات والمحيط. وحتى النوم لم يسلم؛ فكثير من العاملين يُبلّغون عن كوابيس متكررة أو ذكريات صادمة من مواقف مروا بها.

وتصل حدة هذا الإرهاق إلى ما يشبه البلادة النفسية، حيث يشعر بعضهم وكأنهم باتوا "غير مرئيين"، أو أن ما يفعلونه مجرد تكرار بارد لواجبات فقدت معناها. وفي تلك اللحظات، يتسلل إلى النفس الإحساس باليأس، والتساؤل: "هل ما أفعله صواب؟".

وتُظهر الدراسات الاستقصائية في أميركا الشمالية وأوروبا أن غالبية العاملين في مجال حيوانات المختبر قد عانوا من أعراض الإجهاد المزمن أو الإرهاق العاطفي، في مرحلة ما. على سبيل المثال، يشير أحد التقارير إلى أن ما يصل إلى 86% من العاملين في مجال حيوانات المختبر سيواجهون هذه المشكلة خلال مسيرتهم المهنية.

وفي دراسة مقطعية أجريت عام 2021، أجريت على باحثين وفنيين ومختصي رعاية، أفاد معظم المشاركين (أكثر من ثلثيهم) بشعورهم بإرهاق عاطفي؛ واعترف الكثيرون بتعرضهم للتوتر بشكل متكرر في العمل، وبأنهم أصبحوا بلا مشاعر عاطفية أو غير مبالين بعملهم، وشعروا بأن عملهم قد تأثر سلبا نتيجة لذلك.

اعترف الكثيرون بتعرضهم للتوتر بشكل متكرر في العمل (الفرنسية)

لكن التحدي في هذا المجال يتجاوز الإرهاق الشخصي، إذ يواجه العاملون تضاربا أخلاقيا مؤلما، يتمثل في إدراكهم أنهم -رغم نواياهم الحسنة- يُلحقون الأذى بكائنات حية. هذه المفارقة الأخلاقية، بين تعاطفهم الفطري مع الحيوانات، وبين مهامهم العلمية التي تتطلب إلحاق الأذى بها أو إنهاء حياتها لأغراض البحث، تخلق ما يُعرف بـ"الضيق الأخلاقي"، وهو شكل من أشكال الألم الوجداني يصعب احتماله أو الإفصاح عنه.

إعلان

وقد ركزت بعض الدراسات على ما يُعرف بـ"مفارقة الرعاية والبحث"، حيث يُظهر الموظفون حنانا حقيقيا تجاه الحيوانات التي يعتنون بها، لكنهم يُضطرون في النهاية إلى تنفيذ القتل الرحيم، وهو ما يُمثّل لحظة انكسار عاطفي حاد، غالبا ما يكون مصدر الشعور الأعمق بالذنب أو الحزن.

وكلما زادت معاناة الحيوان داخل التجربة، سواء في الألم أو التوتر، زاد معها الضغط النفسي على العاملين، وهو ما تشير إليه بيانات ميدانية ربطت بين مستوى ألم الحيوان ودرجة الضيق البشري المرافق.

ولا يُعد الضغط النفسي مرتبطا فقط بطبيعة العمل، بل أيضا بمناخه. فالعاملون الذين يجدون أنفسهم في بيئات غير داعمة، أو يشعرون بالعزلة، أو يفتقرون إلى تواصل إنساني مع مشرفيهم، يكونون أكثر عرضة للانهيار العاطفي. وفي أحد الاستطلاعات في أميركا الشمالية، ظهر أن نقص عدد الموظفين، وضعف الموارد، وسوء العلاقات مع الزملاء، بالإضافة إلى الروابط العاطفية القوية التي تُبنى مع الحيوانات، كانت من أبرز أسباب إرهاق التعاطف.

إنها تجربة معقّدة من الداخل، لا تتحدث عنها المراجع العلمية كثيرا، ولا تُدرَّس في كتب المناهج.

إنها تجربة معقّدة من الداخل، لا تتحدث عنها المراجع العلمية كثيرا (رويترز) ثقافة الصمت

في النهاية، يعاني العالم الأكاديمي من مشكلة صحية نفسية موثقة جيدا، فمثلا أفاد استطلاع أُجري عام 2018، وشمل حوالي 2300 باحث علمي في بداية مسيرتهم المهنية في 26 دولة، أن 41% منهم يعانون من قلق متوسط ​​إلى شديد، وأن 39% يعانون من اكتئاب متوسط ​​إلى شديد.

ووجدت دراسة أجريت على حوالي 200 عالم كوري أن الباحثين في مجال الحيوانات سجلوا درجات قلق أعلى بكثير من الباحثين في مجالات أخرى.

في الواقع، فإن الاكتئاب شائع في الأوساط الأكاديمية لدرجة أن الباحثين في مختلف المجالات يعتبرونه جزءا من العمل.

إعلان

في السويد مثلا، حيث يتفوق السكان من حيث نسب السعادة الإجمالية، تابع الباحثون أكثر من 20 ألف طالب دكتوراه خلال دراستهم، ووجدوا أن استخدام طلاب العلوم الطبيعية للأدوية النفسية ارتفع بشكل مطرد عاما بعد عام، حيث تضاعف تقريبا عند تخرجهم.

في هذا السياق، فإن البيئة الأكاديمية تُنتج عن غير قصد ثقافة صمت، حيث يشعر الأفراد بعدم القدرة أو الرغبة في التحدث عن المشكلات من هذا النوع، فالأساتذة والمشرفون يملكون نفوذا كبيرا، والطلاب أو الباحثون الجدد يعتمدون عليهم في التقييم، والدعم الأكاديمي، والتمويل. لذلك، التحدث عن تجربة ما قد يُعتبر مخاطرة، ويُخشى منه الانتقام أو العزل أو عرقلة المسيرة المهنية.

هنا، يُفاقم التنافر العاطفي المشكلة (أي التضارب بين مشاعر المرء الحقيقية والمشاعر التي يُتوقع منه إظهارها في العمل). على سبيل المثال، قد يشعر الباحث بالحزن أو التعاطف بعد قتل حيوان رحيم، لكن ثقافة مكان العمل قد تثني عن التعبير عن هذه المشاعر علنا (باعتبارها "غير مهنية" أو "ضعيفة").

في الواقع، فإنه يُنظر في بيئات العمل الأكاديمية إلى الإرهاق والعمل لساعات طويلة أو الضغط النفسي كأمر عادي في هذه الأوساط، ومن ثم فإن الشكوى قد تُفسَّر على أنها ضعف أو نقص في الحماس، هذا يدفع الناس إلى كبت مشاكلهم النفسية أو السكوت عن الضغط الزائد.

حاليا، لا يدرب الطلاب في كليات العلوم والطب والصيدلة على التعامل النفسي مع التجارب التي قد تتضمن إيلام كائن حي، ونادرا ما توفر الجامعات أو المراكز البحثية دعما نفسيا للباحثين العاملين مع الحيوانات.

لا يدرب الطلاب في كليات العلوم والطب والصيدلة على التعامل النفسي مع التجارب التي قد تتضمن إيلام كائن حي (شترستوك) ما البديل؟

إلى الآن، تظل الحيوانات أساسا في هذا النطاق، لكن رغم ذلك يرى عدد متزايد من العلماء أن الاعتماد على التجارب الحيوانية في الأبحاث الطبية لم يعد مجديا كما كان يُعتقد في السابق، بل إنها أصبحت وسيلة تقليدية تجاوزها الزمن، ونتائجها في الغالب لا تُترجم إلى فائدة فعلية للبشر.

إعلان

ففي دراسة نُشرت عام 2014 في مجلة "بريتيش ميدكال جورنال"، أشار الباحثون إلى أن حتى التجارب التي تُظهر نتائج واعدة على الحيوانات، كثيرا ما تفشل حين تُجرى على البشر، ونادرا ما تؤدي إلى تطوير علاجات طبية ناجحة.

كما أوضحت الدراسة أن أكثر من 90% من الاكتشافات الأساسية، ومعظمها مستخلصة من تجارب على الحيوانات، لا تصل إلى مرحلة التطبيق السريري الفعلي.

وفي تقرير صادر عن المنظمة الصناعية للتقانة الحيوية، تناول الفترة بين عامي 2011 و2020، تبين أن 92% من الأدوية التي نجحت في التجارب ما قبل السريرية (بما في ذلك على الحيوانات) فشلت لاحقا في التجارب على البشر. هذا الفشل الكبير يعكس مدى الحاجة إلى نهج علمي جديد.

من هنا، يتجه العالم بخطى متسارعة نحو مستقبل تجريبي لا يعتمد على الحيوانات، بل يستند إلى تقنيات حديثة مثل الخلايا البشرية والأنسجة الصناعية ونماذج الأعضاء المصغرة والطباعة الحيوية ثلاثية الأبعاد والذكاء الاصطناعي، ما يُنذر بمرحلة جديدة أكثر دقة وإنسانية في البحث العلمي.

وتتيح الأنسجة السليمة والمريضة، المتبرع بها من متطوعين بشريين، طريقة أكثر ملاءمة لدراسة بيولوجيا الإنسان والأمراض مقارنة بالتجارب على الحيوانات.

يمكن التبرع بالأنسجة البشرية من خلال الجراحة (مثل الخزعات وجراحة التجميل وزراعة الأعضاء). على سبيل المثال، طورت نماذج للجلد والعين مصنوعة من جلد بشري معاد تكوينه وأنسجة أخرى، وتستخدم هذه النماذج بدلا من اختبارات تهيج الأرانب القاسية.

يمكن أيضا استخدام الأنسجة البشرية بعد وفاة الشخص (مثلاً، بعد الوفاة). وقد وفرت أنسجة الدماغ بعد الوفاة أدلة مهمة لفهم عملية تجديد الدماغ وآثار التصلب اللويحي ومرض باركنسون.

كذلك، يمكن اليوم أخذ عينة من ورم مريض بالسرطان واستخدام خلايا الورم لاختبار أدوية وجرعات مختلفة بهدف الوصول إلى علاج دقيق وفردي لهذا المريض، بدلا من اختبار العقار على فئران أو حيوانات لا تُشبه البشر في استجابتهم الدوائية.

إعلان

ولا يمكن تجاهل دور مزارع الخلايا، حيث تُزرع خلايا بشرية أو حيوانية داخل مختبرات مخصصة لدراستها تحت ظروف دقيقة، بما يفتح آفاقا جديدة لفهم الأمراض وتطوير علاجات من دون التسبب بألم أو أذى لكائن حي.

ومن البدائل الرائدة، يبرز مفهوم "الأعضاء البشرية على رقائق"، وهي شرائح ميكروية ثلاثية الأبعاد مصنوعة من خلايا بشرية تحاكي وظائف الأعضاء بدقة، وتُستخدم لفهم استجابات الأدوية أو السموم الكيميائية داخل الجسم، كما تُساعد في كشف ما يحدث داخل الجسم عند الإصابة بالعدوى أو المرض.

أما النماذج الحاسوبية المتقدمة، فهي تمثل ثورة صامتة. وهذه النماذج تستخدم البيانات المتوفرة للتنبؤ بتأثيرات الأدوية من دون الحاجة لإجراء اختبارات جديدة على الحيوانات. وهذا يجعل البحث أسرع، وأقل تكلفة، وأكثر أمانا.

في نهاية المطاف، تمثل هذه التقنيات الحديثة نقطة تحوّل مفصلية في عالم الطب، لا لأنها تُجنّب الحيوانات الألم فقط، بل لأنها تُوفّر نتائج أكثر واقعية للبشر.

مقالات مشابهة

  • خنجر "توت".. هدية ملكية حيّرت العلماء
  • ذنب حيوانات التجارب.. لم يصاب العلماء بالقلق والاكتئاب؟
  • عالم بالأوقاف: الإسلام يدعو إلى الرحمة في التعامل مع الكون والطبيعة
  • صخرة غريبة على المريخ تحير العلماء!
  • الشهداء فى الذاكرة.. محمد أحمد ثابت استشهد عقب صلاته الفجر
  • ظاهرة كونية مثيرة قبل نهاية رمضان.. ماذا سيحدث في عصر يوم السبت؟
  • العلماء الروس يختصرون مليوني عام في يوم واحد
  • جامعة قناة السويس تنظم حلقة نقاشية لتعزيز الثقافة العلمية بين طلابها
  • موقف ثابت من تابت إلى طرة!
  • تلسكوب جيمس ويب يرصد مجرة قد تغير مجرى تطور الكون