الشك في التصور الإسلامي خللٌ في اليقين وليس مدخل إليه بأي حال من الأحوال، وهو ظاهرة مرضية، ولا تجد الشك مذكوراً في القرآن إلا في موضع ذم له أو نهي عنه، ولم يوصف بالشك إلا الكفار والمنافقون.

وللأسف أصبح التشكيك -في العديد من مُسَلَّمات الدين- يتسرب إلى عقول شبابنا منذ أن سرق الشيوعيون والبعثيون والجمهوريون الثورة وحكموا خلال الاعوام الماضية، يتبين المرء ذلك في ثنايا الواقع الحياتي العام في السودان منذ أن (استعلى) اليسار بليل، مارسوه في أوساط الصبية وبعض الشباب ممن سيقوا خلف شعاراتهم وهتافاتهم التافهة، وسعوا إلى تهيئة بيئة سياسية وفكرية واعلامية وتعليمية لتخدم ذلك وتغذيه وتهيئ له- عن قصد- بإستخدام كل السبل الدافعة والمعززة، بما في ذلك وسائط وزارة الثقافة والإعلام السودانية من تلفزيون ومنابر للدولة خلال وجود الشيوعي رشيد سعيد الذي نصب نفسه وكيلا (أول) لوزارة الثقافة والاعلام!.

وقد حرصت على متابعة العديد من البرامج التلفزيونية التي تبين بأن رشيد سعيد كان يشرف عليها بنفسه تم تحضيرها واخراجها تحت ستار مشروعية التساؤل والفضول المعرفي لل(راكبين الراس والكنداكات)، حيث يتم اعلاء شأن الشك باعتباره البوابة والمدخل إلى المعرفة، وبذم اليقين بوصفه تسليم أعمى ينافي إعمال العقل، واعتبار كل ذلك استنارة تضاد الظلامية في نظر اليسار الرافض لحاكمية الدين…

ودونكم مصطلحات عديدة لم تطرأ على الساحة السودانية إلا خلال فترة حكمهم التي نسأل الله أن لايعيدها، ومنها:
الفيمينيزم.
قهر النساء.
رفض آيات المواريث.
رفض مؤسسة الزواج.
الفهم الاعتباطي للحرية ممثلا في هتاف (حريااااو).
الدعوة إلى تصالح النساء مع (اجسادهن) كما طالبهن بذلك من جعلوه وزيرا لل(تربية) وهو الشيوعي السبعيني محمد الأمين!
المناداة بفصل الدين عن الدولة، الذي تنشرخ به حلاقيم كل قيادات الطفابيع من اليسار شيوعيون وبعث وقحاطة،
إلخ إلخ إلخ.

وللعلم فإن أول من أَصَّلَ لمنهج الشك في الفكر الغربي هو الفرنسي رينيه ديكارت الملقب أبو الفلسفة الحديثة، وذلك في مقولته الشهيرة (أنا أشُكُّ، إذن أنا موجودٌ).
والشك عند ديكارت هو السبيل الأمثل للتوصل إلى معرفة الحقيقة بوضوح، ثم إنشاء اليقين بها.

وقد ظهر هذا المذهب كرؤية شخصية عند صاحبه لأسباب نفسية واجتماعية وعقلية لم ينتبه لها غالب المستوردين لهذا الفكر الخاطئ والسطحي، ومن يقرأ عن حياة ديكارت يتبين ذلك، إلا أن تَعمِيدَهُ كمرجع فكري مهيمن عند اليسار في السودان له أغراض أخرى تتجاوز حيّز تقدير الفلسفة الإنسانية، اذ جعلوه جسرا للعبور بمنهجهم المصادم للفطرة الانسانية الساعي إلى هَدم القيم الدينية والعقدية في وجدان الناشئة بالذات، واستئصال أي بقاء لمسلمات الاسلام ويقينياته، وإبطال الاعتقاد بوجود حقيقة مطلقة أو حق مرجعي للمسلم، لأن ذلك يفتح السبيل للاستمساك بالدين.

وكثير من نخب اليسار والعلمانيين المنتسبين للفكر والثقافة الغربية أخذتهم موجة الشك الديكارتي وانبهروا بها، وجعلوها الطريق الوحيد للمعرفة، وكثير منهم حاول تطبيق هذا المنهج على نصوص الوحي كما فعل طه حسين حين (شكك) في قصص القرآن، وقال في تقرير منهجه: (أريد أن اصطنع في الأدب العربي هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث)!.

ويسعى بعض كُتّاب اليسار والعلمانيون ومعهم الجمهوريون -المؤمنون ببعض الكتاب والكافرون ببعضه- التلبيس والخلط على العوام ببعض أقوال أبي حامد الغزالي في كتابه ميزان العمل، لكنهم -عن قصد- لم يبينوا للناس بأنها رؤى تم الرد عليها، وإن الغزالي رحمه الله عاد عنها ووثق لتوبته في كتابه (التوبة إلى الله ومكفرات الذنوب).

ويبرر اليسار ورافضي الإسلام لمنهج التشكيك -وكذلك منهج (التفكيك)- قدرتهما على صنع عقلية جديدة للأجيال الناشئة؛ تحترم فقط النتائج الصادرة من مختبرات العلوم، رافضة لكل الغيبيات، بل وصل الأمر بهم إلى التحجج بسؤال ابراهيم عليه السلام لله عندما قال: {رب أرني كيف تحيي الموتى}، ولأن قرأوا لتبينوا بأن سؤال نبي الله إبراهيم عليه السلام ليس فيه تشكك البتة في أمر الكفر والإيمان، ولا في قدرة الله على الخلق:

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} البقرة 260.

لنفترض إنك سألت مهندسا وقلت له أرني كيف تبني البيوت، هل يعني ذلك انك تتشكك في قدرة هذا المهندس؟!
ولله المثل الأعلى.
إبراهيم نبي وصفه الله تعالى بقوله:
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ ۚ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121)} النحل.
فهل يعقل أن يكون متشككا من يصفه الله بكونه أمة وهو نبي؟!

لقد كتب الشيخ سيد قطب رحمه الله في الظلال وهو يتحدث عن سؤال ابراهيم عليه السلام لربه وقال:
(إنه تشوُّف لا يتعلق بوجود الإيمان وثباته وكماله واستقراره؛ وليس طلباً للبرهان أو تقوية للإيمان، إنما هو أمر آخر له مذاق آخر، إنه أمر الشوق الروحي إلى ملابسة السر الإلهي في أثناء وقوعه العملي).
انتهى قول الشيخ سيد قطب رحمه الله.
وقد قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين:
(إن إبراهيم طلب الانتقال من الإيمان بالعلم بإحياء الله الموتى إلى رؤية تحقيقه عيانًا، فطلب بعد حصول العلم الذهني تحقيق الوجود الخارجي، فإن ذلك أبلغ في طمأنينة القلب).
انتهى قول إبن القيم رحمه الله.

فسؤال ابراهيم عليه السلام لربه كان زيادة لنفسه ولطمأنة قلبه، إذ يسكن القلب عند المعاينة، ويطمئن لقطع المسافة بين الخبر والعيان. وقد رد نبينا صلى الله عليه وسلم على الذين اتهموا ابراهيم عليه السلام بالتشكك وقال: (نحن أحق بالشك من إبراهيم).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: ” رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَىٰ وَلٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي”. قَالَ: “وَيَرْحَمُ اللّهُ لُوطاً، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ لَبْثِ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِيَ”.
رواه الشيخان.

قال ابن حجر رحمه الله:” واختلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم “نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ” فقال بعضهم معناه: نحن أشد اشتياقاً إلى رؤية ذلك من إبراهيم عليه السلام،
وقيل: إن سبب هذا الحديث أن الآية لما نزلت قال بعض الناس شك إبراهيم ولم يشك نبينا، فبلغه ذلك فقال: “نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ” وأراد ما جرت به العادة من المخاطبة لمن أراد أن يدفع عن آخر شيئاً، قال مهما أردت أن تقوله لفلان فقله لي، ومقصوده (لا تقل ذلك).
وقيل: أراد بقوله: نحن أمته الذين يجوز عليهم الشك وإخراجه منه بدلالة العصمة، وقيل: معناه هذا الذي ترون أنه شك أنا أولى به لأنه ليس بشك إنما هو طلب لمزيد البيان”.
وفي معناها أقوال أخرى وما تقدم أشهرها، وخلاصتها نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام إمام الحنفاء، فالشك لا يقع ممن رسخ الإيمان في قلبه فكيف بمن بلغ رتبة النبوة؟!، أما تفكره في ملكوت الله حين {هذا ربي} عندما رأى الكوكب، ثم القمر، ثم الشمس، لم يرد ذلك منه كتشكك، إنما جاء في ثنايا حوار بينه وبين قومه (الذين كانوا يعبدون تلك الأفلاك؟، والدليل ختام الآيات عندما قال لهم {… فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} الأنعام 78.
وهذه الآيات التي يحكي فيها الله جل في علاه عن نبيه إبراهيم عليه السلام انزلها الله على نبينا صلى الله عليه وسلم في ثنايا حواره مع المشركين الذين كانوا يعبدون الافلاك فيما يعبدون:
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} ذات سورة الأنعام، الآية 56.

وقيل أيضا بأن قول إبراهيم عليه السلام في ختام كل آية يتحدث فيها مع قومه عن فلك من الافلاك (الكوكب، القمر، ثم الشمس) وكان يقول (هذا ربي؟)؛ يقول ذلك في صيغة سؤال استنكاري موجه لقومه، يضاف إلى ذلك أن الآية الأولى من سورة الأنعام التي ورد فيها حوار ابراهيم عليه السلام مع قومه هي هذه الآية الكريمة:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} الأنعام1
وقد سأل ابراهيم عليه السلام الله تعالى أن يجعل له لسان صدق في الآخرين:
{وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} الشعراء 84

أي أن يجعل له من يثني عليه في الآخرين ثناء صدق، وقد استجاب الله تعالى دعاءه فكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام محل الثناء في كتب الله عز وجل وعلى ألسنة رسله، وقال الله تعالى لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} وقال تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ}، فالثناء على إبراهيم حصل في الآخرين حتى إن اليهود قالوا إن إبراهيم كان يهوديا، والنصارى قالوا إن إبراهيم كان نصرانيا، فأنكر الله ذلك وقال {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} والمقصود أن هذه الأمم كلها تفتخر أن يكون إبراهيم عليه الصلاة والسلام منها، لكنها كاذبة ما عدا المسلمين:
{وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}، وقد كذبهم الله تعالى في ذلك في قوله {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} وفي سورة الإخلاص قال الله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}.

ومن الثناء على إبراهيم عليه السلام الصلاة الإبراهيمية (التحيات لله) في ختام كل صلاة عند المسلمين، وكذلك من الثناء لإبراهيم عليه السلام:
{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} الصافات 107.
فإذا بذكرى ابراهيم عليه السلام وابنه اسماعيل عليه السلام في كل بيت من بيوت المسلمين كل عيد اضحى، وفي كل حج.

معاذ الله أن يكون هناك شك من إبراهيم، وإنما هو (عين يقين) بعد (علم يقين)، وشهود بعد خبر، ومعاينة بعد سماع”.

إبراهيم عليه السلام عندما سأل الله أن يريه كيف يحيي الموتى أراد به زيادة الإيمان والانتقال من علم اليقين إلى عين اليقين، وطمأنينة القلب ولذا قال: {وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.
ولقد كتبت من قبل مقالا عن (علوم اليقين الثلاث) تجدونه في صفحتي.
آمنت بالله.

عادل عسوم

adilassoom@gmail.com

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: إبراهیم علیه السلام ابراهیم علیه السلام صلى الله علیه وسلم الله تعالى رحمه الله إبراهیم ع ذلک فی ذلک من

إقرأ أيضاً:

الدكتور عبدالله علي إبراهيم.. مثقف ضد الإذعان لإجماع الصفوة

الدكتور عبدالله علي إبراهيم
مثقف ضد الإذعان لإجماع الصفوة
الدكتور فضل الله أحمد عبدالله
الدكتور عبدالله علي إبراهيم ، ناقد ثقافي سوداني يرتقي جالسا في ذروة الفكر المفضي إلى ثورة الإبداع .
صاحب مشروع فكري حداثي ، يتأبى على التسليم الخانع ، والاتباع القانع والتقليد العاجز .
تنظر متأملا في مشروعه الأكاديمي الدارس للثقافة السودانية ، أو ، في منجزه الكتابي الإبداعي المسرحي ودراساته النقدية ، تجد أنه يزرع روح التمرد والمغامرة والتطلع إلى المستقبل ، ضد إجماع الإذعان لسرب الصفوة في السودان .
يرى أن الإنتاج الذهني ، ليس دوائر مغلقة بقدرما هي إجابات مفتوحة لأسئلة أخرى أيضا ، لذا نجد في إنتاجه محاولات لمحاورة نفسه ، ، بذات القدر الذي يحاور غيره .
ففي كل ما يكتبه عبدالله علي إبراهيم لن تجد إلا الأسئلة المعرفية المفتوحة ، والإجابات التي لا تعرف حدود الإنغلاق .
فالسلطة عنده هي سلطة الوعي ، وأن الثقافي الثوري المبدع يجب أن يكون غير أحادي البعد ، ولا المحدود ، ولا الجامد المتكلس ، فالثورية عنده ، أعمق وأوسع وأشمل من المعنى الإيديولوجي .
تلك هي الحالة الإنفعالية العقلية التي نستنتجها من الإبداع الكتابي للدكتور عبدالله علي إبراهيم الذي نرى أنه يفرض علينا وباستمرار تفكيك الأشياء وإعادة تركيبها ، والنظر إلي التاريخ من أبعاده البعيدة بمنظورات الحادثة في حوار مع الذات من جهة ، ومع الآخر من جهة أخرى .
والنظر إلي حقائق الواقع الموضوعي ، دون الاتكاء علي منهج المكابرة القليظة وفق مقتضى الكسب الآني .
وبتلك المنظورت تفرد الدكتور عبدالله علي إبراهيم برؤية خاصة في المسألة السودانية وأزمات السودان إذ يرى أن ” الصفوة ” هي أصل البلاء والمحن إذ قال ” صفوتنا ضيوف ثقلاء على الواقع ” .. وفي مقالته : ” الصفوة والمكشن بلا بصل ” قال :
( من غضب الله علينا أن الصفوة – وهذا ما يسمي خريجو المدارس والمهنيون أنفسهم – طالقة لسانها في الآخرين ولم تجد بعد من يطلق لسانها فيها بصورة منهجية .
فهي تصف جماعات غمار الناس ، بالأمية ، أو البدائية ، أو المتخلفة ، أو بالمصابة بالذهن الرعوي ، أو ببله الريف أو انها مستعربة أو متأسلمة .
واحتكرت حق تبخيس الآخرين أشياءهم . واحتكرت حتى نقدها لنفسها ، ولكن برفق . فهي فاشلة أو مدمنة الفشل بما يشبه التوبيخ على حالة عارضة تلبستها وستخرج منها متى صح منها العزم ،
وقليلاً ما عثرت على نقد للصفوة تخطى ما تواضعت عليه من الرأفة بنفسها والعشم في صحوتها إلى نقد جذري يطال فشلها بالنظر إلى اقتصادها السياسي :
إلى مناشئها الثقافية والاجتماعية ومنازلها من العملية الإنتاجية ) ..
ويرى الدكتور عبدالله علي إبراهيم أن الصفوة السودانية خالية من ” الحمية ” وذلك أن الغرب قد أفرغها في مدارسها ، وجعل منهم طائفة بلا أدنى شغف بأهلهم وثقافتهم ، أطلقوا ألسنتهم فيهم ” يا بدائي ” يا ” أمي ” يا ” متخلف ”
وقال في استدراكته :
( كنت أستغرب مثلاً لماركسي يقول ، تأسياً بلينين ، إن الأمي خارج السياسة وحزبه في قيادة معظم نقابات العمال واتحادات المزارعين التي قوامها أميون .
أو تسمع من يقول لك ” بالله الحاردلو دا لو قرأ كان بدّع “.
وكأن ما قاله الحاردلو شفاهة ناقص ) ..
وفي تعميق آخر لمعنى الصفوة كتب الدكتور عبدالله علي مقالة أخرى بعنوان ( مفهوم الصفوة : إننا نتعثر حين نرى ) قائلا :
( فأعيد النظر في صلاح مفهوم الصفوة لتشخيصها . وهو المفهوم الذي نقلناه إلى خطابنا السياسي عن الفكر الغربي ، ولم نستأنسه بتحر يدني به زمامه لنا لمعرفة أوثق بهذه الحلقة الأثيمة .
ومن الجهة الثانية سأرد ، على بينة مَخْضي لمفهوم الصفوة ، هذه الحلقة إلى ” الثورة المضادة ” الغائبة في تحليلنا السياسي .
فلما قَصَر المفهوم فهمنا لفشل الفترة الانتقالية على تنازع الصفوة أوحى كأنه كان بالوسع ألا تتنازع لولا سوء خلقها .
وخلافاً لذلك سأوطن الصفوة ذاتها في خضم صراع اجتماعي واسع هية طرف فيه وفي حرب بين أطرافها كذلك .
باتت هذه الحلقة الجهنمية مثل دورات الطبيعة في حياتنا السياسية ” أو في اعتقادنا عنها من فرط تكرارها فينا ” تكرر الحيض عند النساء في قول منصور خالد .
وهي ليست كذلك بالطبع . ولم نجعلها كذلك إلا لأننا لم نحسن تشخيص هذا التعاقب ناظرين إلى صراع قوى مجتمعنا حول مصالحها .
وحال دوننا ومثل هذا التشخيص أنه لم ينشأ بيننا علم للسياسة مستقل عن الناشطية السياسة يكفل لنا الترقي من الإثارة إلى الفكر .
فظل الانقلاب فينا ، نظرياً ، من جرائر صفوة أنانية فاشلة تستدرج العسكريين لارتكابه .
وتقع مثل هذه نظرية في باب الأخلاق بجعلها الانقلاب حطة نفس .
ولا تقع في باب السياسة التي يتدافع الناس فيها حول مصالح استراتيجية بتكتيكات مختلفة سلمية وعنيفة ) ..
تأسيسا على ذلك يمكن القول أن الدكتور عبدالله علي إبراهيم في مذهبه هذا ، هو أقرب إلى التيار الذي يرى أن الأيديولوجيا في فضاءاتنا الثقافية العربية قد أنتجت مثقفين سيكولوجيين ، لهم في كل وجه عين واحدة ، وليس أكثر .
والعين الواحدة لا تدرك إلا لونا واحدا ، ولا تعترف إلا بحقيقة واحدة موحدة ..
فالإيديولوجيا مسكونة بالنوايا وبالأهواء ، هي وجهة نظر لا تعرف ولا تعترف بأنها مجرد وجهة نظر ، قد تكون صائبة وقد تكون خاطئة ، وقد تكون مجرد هلوسات ذهنية ولا شيء أكثر – كما قال الدكتور عبدالكريم برشيد – هذه الإيديولوجيا بتمركزها على الذات ، قد أضرت كثيرا بثقافتنا .
تلك هي الحالة الإنفعالية العقلية التي نستنتجها من الإبداع الكتابي للدكتور عبدالله علي إبراهيم الذي نرى أنه يفرض علينا وباستمرار تفكيك الأشياء وإعادة تركيبها ، والنظر إلي التاريخ من أبعاده البعيدة بمنظورات الحادثة في حوار مع الذات من جهة ، ومع الآخر من جهة أخرى .
والنظر إلي حقائق الواقع الموضوعي ، دون الاتكاء علي منهج المكابرة القليظة وفق مقتضى الكسب الآني .

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • الإصابة تنهي موسم حارس الخليج إبراهيم سيهيتش
  • جبريل إبراهيم: لم تنتهي الحرب بتحرير العاصمة
  • الدكتور عبدالله علي إبراهيم.. مثقف ضد الإذعان لإجماع الصفوة
  • المطران إبراهيم هنّأ اللبنانيين بعيد الفطر السعيد‎
  •  الحية: تسلمنا مقترحا من الوسطاء ووافقنا عليه وسلاح المقاومة خط أحمر
  • الحية: وافقنا على مقترح جديد للوسطاء.. وسلاح المقاومة خط أحمر
  • بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام
  • أنوار الصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام
  • دعاء وداع شهر رمضان .. تعرفوا عليه
  • قبل توزيعها في العيد.. ضبط 120 طربة حشيش بكفر الزيات