تأثير التكنولوجيا ودورها في المجتمع الحديث
تاريخ النشر: 3rd, July 2024 GMT
لقد شكَّلت المسيرة المتواصلة للتكنولوجيا عالمنا بشكل عميق، وتركت تأثيرها على العديد من جوانب الوجود الحديث، فمن وسائل الاتصال إلى النماذج المهنية وسبل الترفيه، نسجت التكنولوجيا نفسها بسلاسة في نسيج حياتنا اليومية، والواقع أن تداعياتها المجتمعية لا لبس فيها، فهي تسفر عن فوائد هائلة وتحديات واضحة، ومن بين التأثيرات التحويلية التي أحدثتها التكنولوجيا إعادة تعريف معايير الاتصال فقد أحدث ظهور الفضاء الإلكتروني وأجهزة الكمبيوتر المحمولة، والمنتديات الاجتماعية الافتراضية، ثورة في الاتصال بين الأشخاص،
لقد أدت الجداول الزمنية المطولة لتسليم المراسلات التقليدية إلى ظهور الرسائل الفورية وعقد مؤتمرات الفيديو الوقت الفعلي، مما أدى إلى انهيار الفجوات الجغرافية حيث توفر لنا منصات وسائل التواصل الاجتماعي الوسائل اللازمة لنشر الخبرات والأيديولوجيات والمعرفة على نطاق عالمي، ممّا يعزز شعوراً غير مسبوق بالترابط المجتمعي، وهذا الترابط المتضخم لا يخلو من التعقيد، ممّا يولد مآزق مثل نشر المعلومات الخاطئة والتعدي على الخصوصية، لقد ولّد العصر الرقمي عصراً حيث يتم تحويل البيانات الشخصية إلى سلعة، مما أدى إلى ظهور مآزق أخلاقية فيما يتعلق بالمراقبة وسلامة البيانات، في عالم الأعمال، أحدثت التكنولوجيا تحولات جذرية في ديناميكيات التوظيف وأنماط الإنتاجية فقد عملت الأتمتة والذكاء الاصطناعي على تبسيط سير العمل التشغيلي، مما أدى إلى زيادة الكفاءة وتقليل الحاجة إلى العمل اليدوي في قطاعات مختارة، وقد أدى هذا التحول إلى نشوء آفاق مهنية جديدة داخل المجالات التي تركز على التكنولوجيا، في حين جعل الأدوار التقليدية السابقة عتيقة وقد انتشر العمل عن بعد، الذي تيسره البنى التحتية للاتصالات الرقمية والمنصات التعاونية،
وخاصة في أعقاب جائحة كوفيد-1، وتوفر هذه المرونة المكتشفة حديثًا للموظفين توازنًا متزايدًا بين الالتزامات المهنية والملاحقات الشخصية، ولكنها في الوقت نفسه تطمس الحدود بين هذه المجالات، ممّا يتسبب في حالات من الإرهاق والتوتر، كذلك التعليم حيث مارست التكنولوجيا تأثيراً كبيراً فقد عملت المنصات التربوية الرقمية والمستودعات الافتراضية على إضفاء الطابع الديمقراطي على إمكانية الوصول إلى المعرفة، ممّا مكن المتعلمين من بيئات متباينة من دراسة المعرفة بالسرعة التي تناسبهم وراحتهم، كما جعلت وحدات التعلم الإلكتروني وقاعات المحاضرات الافتراضية التعليم أكثر قابلية للتحقيق، وخاصة بالنسبة للمجموعات الموجودة في المناطق النائية أو المحرومة من الخدمات، إن التأثير المجتمعي للتكنولوجيا هو عبارة عن لوحة متعددة الأوجه، تستحضر عواقب جديرة بالثناء ومؤسفة في الوقت نفسه، وفي حين أدت التكنولوجيا بلا شك إلى تحسين مستوى معيشتنا وتوسيع آفاقنا، إلا أنها في الوقت نفسه أدت إلى توليد معضلات جديدة وألغاز أخلاقية ومع استمرارنا في مسيرتنا التكنولوجية، يتعين علينا أن نتبع نهجًا حكيمًا، ونحتضن الابتكار مع إدراك الآثار المترتبة عليه، ويتعين على المجتمع أن يستغل إمكانات التكنولوجيا بجدية، ويضمن نشرها بشكل عادل مع التخفيف من المخاطر المحتملة، ومن خلال التأمل المتعمَّد والمبادرات الاستباقية، يمكننا أن نبحر في تعقيدات البيئة التي تحركها التكنولوجيا ونبدأ مستقبلًا عادلاً ومستدامًا.
NevenAbbass@
المصدر: صحيفة البلاد
إقرأ أيضاً:
محمد مغربي يكتب: لماذا ندم عرّاب الذكاء الاصطناعي في العصر الحديث؟
كان العام 1850 حين تمكن إسحاق سنجر من تطوير آلة خياطة عُرفت لاحقا باسمه «سنجر»، آنذاك كان الثوب يستغرق 20 يوما على يد الخيّاط العادي وبعد الماكينة بات يستغرق يومين فقط، حينها أيضا كان أول من اعترض على هذا الاختراع هم الخيّاطون أنفسهم لأنهم ظنّوا أنّ الآلة ستحل محلهم ويندثروا، لكن ما حدث أن الإنتاج هو ما زاد وباتت الماكينات في حاجة إلى أيدٍ عاملة أكثر، خاصة وقت الحرب العالمية الأولى التي بيع خلالها مليون ماكينة سنجر، وهكذا بدلا من الاندثار زاد الطلب على الخياطين لدرجة أصبح لها معاهد وأكاديميات في بلاد أوروبا.
هذا النموذج يعد الأوضح لعلاقة الإنسان بالآلة في عصر الثورة الصناعية التي ظهرت أواخر القرن الثامن عشر وازدهرت في منتصف القرن التاسع عشر، فبدلا من الخوف من اندثار المهن ومصدر الرزق كانت الآلات هي ما وفرت فرص عمل للملايين، صحيح أنّ مقابل ذلك هناك مهن اندثرت لكن أي مقارنة ستصب في صالح الآلة التي حسّنت من حياة الإنسان خلال قرون.
نفس التحدي تعيشه البشرية في السنوات الأخيرة، لكن تلك المرة مع الذكاء الاصطناعي الذي بات يحل محل الإنسان في العديد من المهن، وكالعادة تكررت المخاوف من فقدان الناس لمهنهم ومصدر رزقهم مقابل تلك الأجهزة، وكانت الإجابة أنّ ذلك لن يحدث كما علمنا التاريخ وأنّ الذكاء الاصطناعي قادر على خلق فرص عمل تعوض اندثار مهن أخرى، لكن تلك الإجابة لم تعد تصلح لأن الذكاء الاصطناعي ليس كالآلات والثورة الصناعية، هو ثورة من نوع آخر أشد وأشرس.
من يقول ذلك ليس مجرد خبير تكنولوجي أو عالم متمسك بتقاليد الحياة القديمة، بل هو البروفيسور جيفري هينتون، وقبل أن نوضح السبب الذي دفعه إلى قول ذلك منذ أيام، أوضح أولا أنّ «هينتون» هو عالم كمبيوتر بريطاني يبلغ من العمر 77 عاما ويُعرف بـ«عرّاب الذكاء الاصطناعي»، فبجانب حصوله على جائزة نوبل في الفيزياء، فهو الرجل الذي اخترع في ثمانينيات القرن العشرين طريقة يمكنها العثور بشكل مستقل على خصائص في البيانات وتحديد عناصر محددة في الصور، وتلك الخطوات هي الأساس للذكاء الاصطناعي الحديث في العصر الحالي.
وإذا كنّا عرفنا هوية الشخص فالآن نعرف ما قاله، إذ أوضح أنّ الـ«AI» قد يقضي على الجنس البشرى خلال العقد المقبل، وقد توقع أن يحدث ذلك خلال ثلاثة عقود لكن تطورات الذكاء الاصطناعي وقفزاته أمر مدهش ومرعب في آن واحد، أما الفرق بينها وبين الثورة الصناعية أنّ في الثورة الصناعية كانت الآلات تتولى الأعمال الشاقة، بينما كان الإنسان هو من يملك زمام الأمور لأنه كان يفكر ويخطط وتتولى الآلات التنفيذ، وبالتالي ففضيلة الإنسان كانت التفكير.
أما الآن فنماذج الذكاء الاصطناعي تقترب من طريقة التفكير البشري، وبالتالي هي من ستتولى زمام الأمور إذا نجحت في الاستمرار، أي أنّ العلاقة ستصبح معكوسة، وبدلا من أن يصبح الروبوت في خدمة الإنسان، سيصبح الإنسان نفسه في خدمة الروبوت، وتلك مصيبة كما وصفها.
تحذيرات جيفرى هينتون لم تتوقف عند هذا الحد، بل أتبعها بأنّ الذكاء الاصطناعي سيتسبب في زيادات هائلة فى الإنتاجية، وهذا يفترض أن يكون مفيدا للمجتمع، لكن الحقيقة أن كل الفوائد ستذهب للأغنياء وبالتالى سيفقد كثير من الناس وظائفهم مقابل أن تغتني فئة قليلة، فالشركات الكبرى والأرباح لا ترحم، لذلك فالحل الوحيد فرض تنظيم حكومي أكثر صرامة على شركات الذكاء الاصطناعي لتضمن تنظيم عدالة ما، ولأن «هينتون» يشك في ذلك، فإنه لم يخجل من كشف أنّه يشعر أحيانا ببعض الندم لأنه قدم تلك التكنولوجيا في العالم، صحيح لو عاد به الزمن لفعل نفس الشيء، ولكن القلق من النتيجة لن يمنعه من الندم.