الحربُ وقواعدُها.. والجريمةُ وبواعثُها
تاريخ النشر: 3rd, July 2024 GMT
الدكتور عبدالرحمن المختار
روَّجت القوى الاستعماريةُ الصهيوغربيةُ ولا تزال تروِّجُ، ومنذ تسعة أشهر، لما يجري في قطاعِ غزةَ بأنه حربٌ، ولم يقتصرْ هذا الترويجُ والتضليلُ على القوى الاستعمارية الإجرامية، بل إن الأنظمةَ العربيةَ ووسائلَها الإعلاميةَ سارت في ذات الاتّجاه التضليلي، الذي رسمته تلك القوى.
ولم تخرُجْ عليه الأنظمةُ العربية ووسائلُها الإعلاميةُ ولو لمرة واحدة، ولم نجدْ نظامًا عربيًّا، خُصُوصاً أنظمةَ التطبيع، والسائرةَ في ذات الطريق، يصفُ ما يجري في قطاع غزةَ، بأنه جريمةُ إبادة جماعية، بل إن التعاطيَ -سواء السياسي أَو الإعلامي- يقومُ على أَسَاسِ وصف الحالة في غزة، بأنها حربٌ بين “إسرائيل” وحماس، وترى الوسائل الإعلامية واسعةُ الانتشار التابعةُ لهذه الأنظمة، أنها في أعلى درجات الإنصاف حين تُبْرِزُ في عناوين أخبارها عنوان (حرب إسرائيل على غزة).
والحقيقةُ أن مثلَ هذه العناوين التي تُبرِزُها وسائلُ الإعلام التابعةُ للأنظمة العربية، هي عناوينُ تخدُمُ القوى الاستعماريةَ الصهيوغربية، سواء بقصدٍ أَو بغير قصد؛ فالنتيجة النهائية للترويج للحالة في غزة بأنها حرب، تَصُبُّ في مصلحة القوى الاستعمارية الإجرامية، وضد مصلحة الشعب الفلسطيني، والمؤسف أن الأنظمة العربية ووسائل إعلامها، لم تكلِّفْ نفسَها تقييمَ الحالة في غزة بشكل جدي، وتقييم سلوك جيش كيان الاحتلال الصهيوني، والقوى الإجرامية الشريكة له، ولم تتخذ الأنظمةُ العربية ووسائلُ إعلامها موقفًا واضحًا ومحدَّدًا.
فلو افترضنا جدلًا، ومسايرةً لمنطق تضليل القوى الاستعمارية، أن الحالة في غزة حالة حرب، فَــإنَّ المنطق بحد ذاته، يحتِّمُ على الأنظمة العربية ووسائل إعلامها -وهنا يكفي أن نتحدث عن المنطق، ولا نتحدث عن واجب أَو رابط آخر ديني أَو أخوي أَو إنساني أَو جوار جغرافي- أن يكون لها موقف بوصفها أنظمة حكم قائمة على رأس دول، هي جزء من جغرافية المنطقة، وشعوبها بعشرات الملايين، بل بمئات الملايين، وهم جزء لا يتجزأ من شعوب المنطقة العربية، فالأصل -وَفْـقًا لهذه المعطيات- أن تعلن الأنظمة العربية موقفها بكل صراحة ووضوح في وجه القوى الاستعمارية الصهيوغربية، بأن للحرب قواعدَ حدّدها القانون الدولي، الذي هو صنيعة هذه القوى، وللحرب أخلاقياتُها، ليس لأي طرف في الحرب انتهاكُها.
فالقانون الدولي يمنع استهداف من لا يشاركون بشكل مباشر في النزاع المسلح، ويوجب على أطراف النزاع تجنب أي سلوك من شأنه ترويع الآمنين وتحديدًا الأطفال، ومن ذلك تحليق الطيران فوق الأحياء السكنية، وَإذَا كان مُجَـرَّدُ تحليق الطيران فوق هذه الأحياء محظورًا؛ لأَنَّ التحليق يتسبب في ترويع الأطفال، فماذا يمكن أن يقال عن تدمير الأحياء السكنية فوق رؤوس ساكنيها أطفالًا ونساءً وشيوخًا؟!
كان من أدنى الواجبات على الأنظمة العربية، أن تنخرط مع القوى الاستعمارية الداعمة والشريكة للكيان الصهيوني في نقاش جدي ولو من جانب إنساني، ومن باب أن تعملَ هذه الأنظمةُ لنفسها قدرًا واعتبارًا؛ كونها تحكُمُ دولًا أعضاءً في المجموعة الدولية، المُسَمَّاة (منظمة الأمم المتحدة)، وكان على هذه الأنظمة أن تخاطب بشكل صريح وواضح، تلك القوى، حول ما تقترفه في غزة من إبادة جماعية، ودمار شامل لكل مقومات الحياة! وأن تتساءل هذه الأنظمة عن المقصود من كُـلّ تلك الإبادة والدمار الشامل؟ وهل المقصود من ذلك ما أعلنه قادة دولة الكيان الصهيوني حول القضاء على حماس، الذي لقي تأييدًا وتأكيدًا واضحًا وصريحًا من جانب الإدارة الأمريكية، وغيرها من الحكومات الغربية؟
وهل ما يحدث في غزة من إبادة جماعية لسكانها، وتدمير لبنيانها بشكل عام هو تجسيد لهدف القضاء على حماس؟ فالواقع يؤكّـد وبما لا يدع مجالًا للشك أن حماس مُجَـرّد عنوان، وأن المقصود هو القضاء على سكان غزة بشكل عام، بالقتل المباشر بالصواريخ والقنابل، والقتل بالحصار التجويع، ومنع دخول الأدوية اللازمة لمعالجة الأمراض الفتاكة والمزمنة!
وهذا كله على فرض أن الحالة في غزة -وَفْـقًا لمنطق القوى الاستعمارية الإجرامية- هي حالة حرب بين طرفين على قدر من التكافؤ في العدة والعتاد، ومن باب احترام الأنظمة العربية لنفسها ولشعوبها، الأصلُ أن تتخذَ مواقفَ تجسِّدُ فيها رفضَها لانتهاك أطراف النزاع أَو أي طرف فيه لقواعد القانون الدولي، المتعلقة بما يجب على هذه الأطراف مراعاته أثناء العمليات العسكرية المتبادلة، وما يرتبط بها من أخلاقيات توجب على أطراف النزاع المسلح تجنُّبَ استهدافِ المدنيين والأعيان المدنية، من أحياءٍ سكنية، ومدارسَ ومساجدَ ومستشفياتٍ وحدائقَ ومخازن غذاء ودواء ووسائل نقلها، وكل ما له علاقة بحياة الإنسان.
ومثل هذه المواقف كان لا بد أن تحدث، إن كانت الأنظمة العربية تقيم لنفسها ولشعوبها قَدْرًا ووزنًا واعتبارًا بين شعوب الأرض؛ باعتبَار أنها ومن حَيثُ الأصل أنظمة حاكمة على رأس دول مستقلة وذات سيادة، وبغضِّ النظر عما إذَا كان النزاع المسلح بين طرفين، لا تربط هذه الأنظمة بطرفَيه أَو بأحدِهما أيَّةُ صلة أَو رابطة، ومصالح مشتركة، بل يكفي أنها تمثل دولًا مستقلة ذات سيادة، وهو بحد ذاته كافٍ ليكون لها موقفٌ واضحٌ ومعلَنٌ، تُسمِعُ من خلاله صوتَها للآخرين تحديدًا المنتهكِين لقواعد القانون الدولي.
وليست الأنظمة العربية أقلَّ شأنًا من الأنظمة الحاكمة في أمريكا اللاتينية، التي اتخذت مواقفَ مناهضةً ورافضةً لسلوك القوى الاستعمارية الصهيوغربية، وصلت تلك المواقف لمستوى قطع العلاقات التجارية والدبلوماسية معها، ولا يصح أبدًا أن تكونَ الشعوبُ العربية ممثلةً بأنظمة لم تجرؤ حتى على اتِّخاذ موقفٍ يدين سلوكَ دول تنتهكُ جهارًا نهارًا أحكامَ القانون الدولي القائمة نظريًّا! ولا يصح أبدًا أن تستمرَّ هذه الأنظمة على رأس دولٍ عربية وهي عاجزةٌ تماماً عن التعبير عن إرادَة دولها المجسِّدة لإرادَة الشعوب الحرة المستقلة.
أما إذَا لم تكن الحالةُ في غزة حالةَ حرب، والارتباطُ بين غزة والأنظمة العربية وشعوبها قائمٌ على أَسَاس الدم والدين واللغة والجغرافيا والتاريخ والمصير المشترك، فَــإنَّ الأصل أن سقف موقف الأنظمة العربية أن يكون عاليًا جِـدًّا، وأعلى علوٍّ له أن تواجهَ هذه الأنظمةُ القوى الاستعماريةَ الإجرامية عسكريًّا، وأدنى سقف لموقف الأنظمة العربية أن تقاطع تلك القوى الإجرامية سياسيًّا واقتصاديًّا وفي جميع المجالات، ولا يوجد مستوى أدنى للموقف مما يجري في غزة إلا تحت الأرض؛ بمعنى أن الأنظمة العربية ميتة ومدفونة تحت التراب، وأدنى من هذا الموقف أن تنخرط الأنظمة العربية وإعلامها إلى جانب القوى الاستعمارية الصهيوغربية في الترويج لما يجري في غزة بأنه حالة حرب!
ولا تكلف نفسها جهدًا ولو بسيطًا بوصفها أنظمة تمثل دولًا، أن تُسقِطَ قواعد القانون الدولي على حالة غزة لتتبيَّنَ ما إذَا كانت الحالة هناك حربًا أم شيئًا آخر؟ وطالما الأنظمة العربية لم تتخذ موقفًا يجسد كونها تمثل دولًا مستقلة ذات سيادة، فَــإنَّ معنى ذلك أن هذه الأنظمة لا تحترم نفسها ولا تقيم أي اعتبار لكرامة شعوبها، وهي تقر وتعترف عمليًّا بأنه لا سيادة لدولها ولا كرامة لشعوبها، وأنها مُجَـرّد تابع لا يملك إرادَة التصرف، ولا حرية القول خلافًا لإرادَة المتبوع وقوله!
لكن هل يُعقَلُ فعلًا أن يصلَ مستوى تبعية الأنظمة العربية للقوى الاستعمارية الصهيوغربية إلى حَــدِّ القبول بالإبادة الجماعية لإخوانهم في قطاع غزة ولا يحرِّكون ساكنًا؟! وعلى مدى تسعة أشهر من تتابع واستمرار أفعال جريمة الإبادة الجماعية، التي يقترفها الكيان الصهيوني تحت عنوان (القضاء على حماس)، هذا العنوان الذي أعلنه قادة الكيان الصهيوني، وأَيَّدَه وأكَّـدَه شركاؤه في جريمة الإبادة؛ فماذا يعني هَدَفُ القضاء على حماس؟ المعنى القريب لهذا الهدف هو القضاء على حركة حماس المعروفة كحركة جهادية مقاومة للاحتلال، والمسؤولة عن تنفيذ عملية (طوفان الأقصى)! لكن من هي حماس التي يهدف الكيان الصهيوني للقضاء عليها؟ وهل هي فقط منتسبو الحركة المجاهدون في الجانب العسكري؟ أم تشمل كُـلَّ مَن ينتسب لحركة حماس في كافة المجالات؟
الواضِحُ أن حماس التي يهدف الكيان الصهيوني للقضاء عليها، وتؤيده القوى الاستعمارية الإجرامية، تشمل جميع المجاهدين وأقاربهم بمختلف درجات القرابة، لا فرق في ذلك بين طفل صغير وكبير مسن ورجل وامرأة، الكل يندرج ضمن هذا الهدف، ويندرج ضمنه أَيْـضاً المسكن الذي يؤويهم، والماء الذي يرويهم، والأرض التي منها طعامهم، والمشفى الذي فيه دواؤهم، وباختصار المقصود من هدف القضاء على حماس سحق غزة بما فيها ومن فيها!
وهذا واضح منذ أول فعل من أفعال جريمة القوى الاستعمارية الصهيوغربية في قطاع غزة، واليوم هذا الهدف أكثر وضوحًا في شمال غزة ووسطها وجنوبها، فالجميع يواجه الموت، والواضح أَيْـضاً أن الأنظمة العربية توافق المجرم -إن لم يكن صراحةً، فضمنًا- على استكمال فصول جريمته، فيا له من عار تلطخت به الأنظمة العربية ولطخت به شعوبها، عار لن يمحوه الزمن؛ فهي أنظمة تقف على سدة الحكم في دول قد يصل مجموع عدد سكانها لما يقرب من نصف مليار، ومواردها تفوق في وفرتها مواردَ قوى الإجرام مجتمعةً، ومع ذلك لم تنتصر لمظلومية العصر، ووقفت عاجزة أمام جريمة القرن، رغم وضوح بواعثها! وأصرَّت على وصفِها بالحرب، رغم انتفاءِ قواعدها وأخلاقياتها! ولم يقف انحطاطُ هذه الأنظمة عند هذا المستوى، بل إلى القَعْرِ السَّحِيقِ هوى!
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: الکیان الصهیونی الأنظمة العربیة القضاء على حماس القانون الدولی الحالة فی غزة هذه الأنظمة ما یجری فی فی قطاع موقف ا
إقرأ أيضاً:
من أجل عودة الرهائن ووقف الحرب..إسرائيليون يواصلون التظاهر في تل أبيب
تظاهر مئات الإسرائيليين أمس السبت، في تل أبيب تعبيراً عن غضبهم مما يعتبرونه عجز حكومتهم عن التوصل إلى اتفاق لوقف النار ضد حركة حماس في غزة، وتحرير الرهائن الـ97 المحتجزين في القطاع الفلسطيني منذ أكثر من عام.
وكما كل أسبوع منذ بداية الحرب في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، في ميدان أطلقوا عليه "ساحة الرهائن" في العاصمة الاقتصادية لإسرائيل، طالب المتظاهرون الذين رفعوا أعلاماً وصوراً للرهائن، بـ"اتفاق الآن" وبـ"وقف الحرب"، مؤكدين "لن نتخلى عنهم".وقال زاهيرو شاهار مور : "كانت هناك فرص لا حصر لها لإنهاء هذه الأزمة، نسفت الحكومة كل واحدة منها".
وأضاف هذا الموظف في أحد المصارف، 52 عاماً، والذي مات عمه أفراهام موندر في الأسر:"دورة العنف تتفاقم أسبوعاً بعد آخَر، ولا نرى نهاية في الأفق".
ويدعو المتظاهرون إلى هدنة مع حماس، في وقت تقول إسرائيل إنها حققت غالبية أهدافها العسكرية بما فيها القضاء على زعيم حماس يحيى السنوار، في الشهر الماضي.
وعند الحكومة الإسرائيلية والمسؤولين الأمريكيين وعدد من الخبراء، فإن السنوار الذي يُعتبر العقل المدبر للهجوم على جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، كان العقبة الرئيسة أمام التوصل إلى اتفاق هدنة.
واتهمت عفت كلديرون، قريبة الرهينة الفرنسي الإسرائيلي عوفر كلديرون، رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو بـ"تخريب" كل محاولات التوصل إلى هدنة. وقالت عفت، 50 عاماً) وهي شخصية بارزة في الاحتجاجات المناهضة للحكومة: "كل مرة نحاول التوصل إلى اتفاق على الرهائن، يُخرب نتانياهو الاتفاق. لقد أنحى باللائمة على السنوار، والآن بعد أن لم يعد موجوداً، يجد دائماً سبباً آخر".
وأضافت "إنها حرب دامية يجب أن تتوقف. كفى. مات كثير من الجنود ومن المواطنين العاديين"، في إشارة إلى الضحايا المدنيين، الإسرائيليين والفلسطينيين على السواء.
وأدى القصف الإسرائيلي والحرب البرية إلى مقتل 43314 فلسطينياً في غزة، معظمهم مدنيون من النساء والأطفال، وفق بيانات وزارة الصحة التي تديرها حماس.
Now in Tel Aviv: hundreds protest against the war pic.twitter.com/kCktjARTYN
— Oren Ziv (@OrenZiv_) November 2, 2024ويُعبّر المتظاهرون الإسرائيليون عن دعمهم لعشرات آلاف الجنود الذين أنهكتهم الحرب في غزة منذ أكثر من عام. ويأمل آخرون مشاركة أكبر من الولايات المتحدة، الحليف التاريخي لإسرائيل، والتي تشهد انتخابات رئاسية الثلاثاء.
وقال زاهيرو شاهار مور: "آمل في أن يكون الفائز ناضجاً كفاية" ليأتي بالمسؤولين في المنطقة إلى طاولة المفاوضات.
وعبّر عن شعوره بـ"بخيبة أمل وإحباط وغضب" لأن الرهائن لا يزالون محتجزين في غزة، مبدياً في الوقت نفسه "أملاً في الذين لا يزالون منهم على قيد الحياة".
وانخرطت قطر، والولايات المتحدةن إلى جانب مصر، في وساطة لوقف الحرب في غزة وإطلاق سراح رهائن إسرائيليين في القطاع ومعتقلين فلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
وفي الأسبوع الماضي، أعادت دول الوساطة الثلاث إطلاق المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وحماس والتي كانت متوقفة منذ الصيف. لكن حماس ترفض أي اقتراح "لا يتضمن وقفاً دائماً للعدوان وانسحاباً للجيش الإسرائيلي من قطاع غزة".
ومعارضو نتانياهو الذي يرأس ائتلافاً يمينياً، يتهمونه بعرقلة المحادثات للبقاء في السلطة، وهي تهمة ينفيها بشدة.
وقالت المتظاهرة سيمون سافران، 77 عاما، من هرتسليا بشمال تل أبيب، إن الحكومة "لا تكترث" للرهائن.
واعتبرت أن بعضاً من اتفاقات الهدنة المقترحة "لم يؤتِ ثماره، ليس بسبب حماس فقط. أنا لا أتوقع أي شيء من الحكومة".