«إن الحديث عن الأستاذ محمد الكغّاط يحتّم عليَّ الوقوف على رجل فنان كرّس حياته لخدمة الفن الدرامي، سواء على مستوى الكتابة، أو على مستوى الممارسة الفعلية، التي جعلت منه مخرجًا متميزًا وممثلًا مقتدرًا».
د. حسن المنيعي
كتابان مهمان تركهما المسرحي المغربي الراحل محمد الكغّاط، مواليد (1942-2001م) على حد علمي المتواضع واطلاعي عليهما هما: (بنية التأليف المسرحي بالمغرب من البداية إلى الثمانينيات، صدرت طبعته الأولى عن دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1986م في الدار البيضاء) والثاني: (المسرح وفضاءاته، وصدرت الطبعة الأولى 1996م، عن البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع في القنيطرة).
عندما فكرتُ في كتابة مادة احتفائية متواضعة تصادف ذكرى وفاة المسرحي محمّد الكغّاط (26 يونيو) التي تلقاها المشهد المسرحي في المغرب بحفاوة كبيرة؛ فأقيم في ذكراه حفل تكريمي في مدينة فاس بتنظيم من ابن الراحل الكاتب والباحث المسرحي الدكتور فهد الكغّاط، وغيرها من الاحتفائيات، وجدتُ أن العودة إلى مؤلفاته ولقاءاته ومقالاته واستعادة بعض أطروحاته الخاصة حول التجريب والتراث والهوية والنقد في المسرح هي العمل النافع.
كانت للراحل أفضال كبيرة على المسرحيين في المغرب، وأغلب من تتلمذوا على يديه يذكرون ذلك بكل خلق وأدب وتقدير. أما بالنسبة إلينا نحن المقيمين في المشرق، فإن نتاجه هو بوابتنا إليه. فالباحثون الدارسون للفن المسرحي لا شك في أنّ مؤلفات الكغّاط ستكون مرتكزًا لهم؛ فالراحل كاتب وباحث وناقد ومخرج وممثل ومسكون بالمسرح ومخلص له ومجدد فيه.
عايش الكغّاط الشغف بالمسرح منذ كتابه (بنية التأليف المسرحي بالمغرب) حيث قسّمه إلى ثلاثة أبواب، تناول في الباب الأول: (المسرح العربي في المغرب)، وجزأه إلى أربعة فصول خصصها على التوالي: «المسرح بالمفهوم الحديث، ومرحلة الاقتباس، والمحاولات الأولى في التأليف، ونموذج من المحاولات الأولى»، وأخذ في الباب الثاني قضية (التأليف المسرحي في المغرب) وجزأه في ثلاثة فصول على النحو التالي: «مسرحيات من التراث، ومسرحيات من الحياة اليومية، والمسرحية قبل التأصيل»، أما الباب الثالث فعنوانه: «مسرحيات تأصيلية» وجزأه في ثلاثة فصول هي: «تيارات مسرحية عربية»، ومسرحيات تأصيلية وقسمها إلى نموذجين؛ تناول في النموذج الأول بالتحليل تجربة «ديوان سيدي عبدالرحمن المجذوب للطيب الصديقي»، وخصص الفصل الثالث من هذا الباب للنموذج الثاني، وتناول فيه تجربة «امرؤ القيس في باريس لعبدالكريم برشيد»، واختتم الباحث كتابه بثبت قيم للمصادر والمراجع.
عندما رحتُ أتأمل محتويات الكتاب الذي قدّم له الدكتور (السرغيني) مقدمة ناقدة، هو أطروحة السلك الثالث أعدّها محمد الكغّاط لنيل درجة الدكتوراة. استوقفتني في الباب الثاني المسرحيات ذات الحياة اليومية، فبعد أن يذكر الكغّاط في التمهيد عن أحوال المغرب إبان الخضوع للحماية الفرنسية -ص 201، يشير في الصفحة التالية لها بالربط بين بعض الظواهر غير المسرحية التي لم تتطوّر وظهور المسرح؛ فيكتب قائلا: «وإذا كانت ظاهرة انتشار أصحاب الطرق والشعوذة في مجتمع من المجتمعات دليلًا على تخلفه الفكري والاجتماعي، فإنّ بعض جلسات هؤلاء الطرقيين واحتفالاتهم يمكن إدخالها ضمن الأشكال التمثيلية التي كانت معروفة عندنا قبل ظهور المسرح. ومعنى هذا أن بعض مظاهرنا التمثيلية نفسها كانت متخلفة بحكم تخلّف القائمين بها والساهرين عليها»، والسؤال الذي يمكن طرحه هنا، إذا ما نقلنا السؤال إلى شأننا المسرحي الخليجي أو العربي: هل هناك دراسات مسحية تنبئ عن هذا اكتمال هذه المظاهر أو انتهائها؟ ألا تدل الكشوفات الجغرافية المعاصرة على وجود طقوس وأشكال تمثيلية لم ينتبه إليها الباحثون المسرحيون، لذلك ظل توظيف التراث في المسرح أقرب إلى الديكور والحلى التزينية للمكان؟ لماذا تظهر اليوم الدراسات النقدية البيئية الخاصة بالجنس الأدبي «الرواية»، في حين ما زال نقدنا المسرحي يدور في أفلاك متشابه؟
(2)
في كتابه الثاني (المسرح وفضاءاته) كتبَ مقدمته الدكتور حسن المنيعي، ويتكون الكتاب من ثلاثة أقسام: الأول (الظاهرة المسرحية بين النص والعرض) والثاني: (القالب المسرحي العربي بين النص والعرض)، والثالث: (نحو البحث عن منهج تجريبي لمقاربة النص المسرحي.
تنبع أهمية هذا الكتاب من تماسه مع القضايا الراهنة التي يمر بها المسرح العربي، ويتجلى ذلك في الندوات الفكرية والمهرجانات. فما زال الشغل الشاغل حول علاقة النص بالعرض يطرح نفسه بقوة، وما زال الجدل الحاصل بين علاقة المؤلف بالمخرج وعمله، أو علاقة المخرج بالناقد المسرحي تحتل حيزا من النقاش، وما زال مفهوم «التحليل الدراماتورجي أو القراءة الممسرحة» تفرض أسئلتها وقلقها على عناوين العديد من المهرجانات، وما زال أيضا تقديم التراث على المسرح، ضمن النداءات بوجود مقاربات سينوغرافية جديدة متعددة، لكن التراث يطل علينا بالتصورات التقليدية في جلسات بعض الباحثين والمهتمين بهذا الجانب، أو غير المهتمين، وكأن لسان الحال يقول: «لا أحدا ينصت لأحدٍ، ولا طرف يسعى إلى الخلخلة والتجاوز».
إن التفات محمد الكغّاط إلى تلك الملفات المسرحية تكشف لدينا كيف كان الرجل يفكر بالمسرح ورهاناته، وكيف ستظل اجتهاداته مجرد عتبات أو مداخل أو مفاتيح لقراءة مسرحنا المعاصر، في ظل العولمة المتطورة، والتكنولوجيا المعقدة، والنقد المجزأ تارة بين الاتجاهات المسرحية والتيارات، وتارة فيما يجري على الركح من احتجاجات أو ابتكارات، وأحوال الممثلين والممثلات، والفنيين، والصحفيين والرسميين بوجه عام.
يختتم الكغّاط كتابه باستنتاجات وآفاق لها وجاهتها، وأجدها متصلة بمسرحنا العربي المعاصر ووجودنا في العالم، ونظرتنا إلى العالمية من خلال مسرح يمثل هويتنا.
إن قضية البحث عن صيغة مسرحية عربية شغلت العديد من المسرحيين العرب، كيوسف إدريس وتوفيق الحكيم (قالبنا المسرحي)، وسعد الله ونوس (البدء من الجمهور في بياناته لمسرح عربي جديد)، وعزالدين المدني (نحو كتابة مسرحية عربية حديثة) وغيرهم...إلخ، لكن ما يميز الكغّاط كما يشير إلى ذلك الدكتور (سعيد الناجي) في مقالته: (دراماتورجيا التجريب عند محمد الكغّاط، مجلة آفاق، رقم العدد 68، تاريخ 1/يونيو/2002م) في أن الكغّاط «نجح في إعادة الفعل المسرحي المغربي إلى أصوله دون تضخم نقدي، ودون ضوضاء، بل عمد إلى استدعاء عناصر الفرجة الشعبية في بعدها الجمالي والمشهدي، وترك للنص دوره الطبيعي، دون أن يراهن عليه بشكل أساسي في صناعة الفرجة».
في هذا السياق، كتب محمد الكغّاط، ثلاث مرتجلات حول مشكلات المسرح؛ هي: «المرتجلة الجديدة، ومرتجلة فاس، وشميشة لالة». ويمكن أن نُجمل أسباب توجهه الدراماتورجي إلى ابتكار المرتجلات في قوله التالي: «في اعتقادي الشخصي، المرتجلة هي انعكاس لأزمة التمثيل المسرحي ولمعاناة الفنان الصادق، وهو يحاول الارتقاء بإنسانية الإنسان، إنها صرخة».
وأهم ما يميز - فقيد المرتجلة المغربية محمد الكغّاط - بتعبير الدكتور (خالد أمين) في مقالة له بعنوان: «مرتجلة محمد الكغّاط بين الإبداع والتنظير»، منشورات مجلة الثقافة المغربية، رقم العدد 23-22، تاريخ 1/ مايو/ 2003م يتمثّل في: «هذا النزوع نحو الانشطار؛ لأنها ببساطة، درب من دروب المسرح داخل المسرح، أو تمثيل التمثيل، أو الميتا مسرح...»، وهي كما أرى تطرح حيوية في الاشتغال الواعي بعناصر المسرح.
كما تنبه الكغّاط إلى قضية أساسية هي النقد، ففي لقاء أجراه معه (بشير القمري- مجلة مجرة، رقم العدد 1، تاريخ 1/أبريل/ 1996م)، عدّد أنواعًا من النقد بصورة أقرب إلى التعميمات، وحسب ذلك اللقاء، فإن «النقد المسرحي في العالم العربي بصفة عامة مَر بالمراحل التالية: النقد الصحفي الإخباري، والصحفي الانبهاري، والنقد المسرحي بأدوات النقد الأدبي، والنقد الأيديولوجي، ونقد الأساتذة، ونقد الملتقيات، والنقد التقني». وفي الغالب، يتوفر الاجتهاد النقدي لدى بعض الأكاديميين، ويقتصر وجوده في أروقة الجامعات كبحوث للترقية أو الرسائل الجامعية.
ختامًا... إن إسهامات المسرحي محمد الكغّاط كبيرة في المشهد المسرحي المغربي والعربي، وستظل ذكراه خالدة، واجتهاده المسرحي سواء في التجريب أو التراث، أو النص أو التمثيل والإخراج، درسا مهمًا في التكوين المسرحي والتنوير الثقافي. (رحمه الله وأسكنه فسيح جناته...).
آمنة الربيع باحثة أكاديمية متخصصة في شؤون المسرح
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی المغرب ما زال
إقرأ أيضاً:
ذكرى رحيل أحمد خالد توفيق رائد أدب الفانتازيا والرعب العربي
تصادف اليوم ذكرى رحيل الأديب المصري أحمد خالد توفيق، أول رائد في أدب الرعب، الذي تُوفي في 2 إبريل (نيسان) 2018 عن 55 عاماً.
وخسرت الأوساط الثقافية برحيله شخصية أدبية متميزة حققت نجاحاً وحضوراً بارزاً، فقد كان يمارس نشاطه الأدبي، إلى جانب مزاولته مهنة الطب، وكان عضو هيئة التدريس واستشاري قسم أمراض الباطنة في جامعة طنطا، مسقط رأسه التي عاش فيها أغلب سنين عمره.
ولد توفيق بمدينة طنطا، في 1962 ودرس الطب وتخرج في جامعة طنطا في 1985 وحصل على الدكتوراه في طب المناطق الحارة في 1997، ثم اشتهر بكتابة أدب الشباب والخيال العلمي والفانتازيا، ولقب بـ"العراب" وكان أيضاً مترجماً.
استهل رحلته الأدبية بكتابة "سلسلة ما وراء الطبيعة"، التي حققت نجاحًا كبيرًا، واستقبالًا جميلا من الجمهور، ما دفعه لمواصلة مجال الكتابة، ثم أصدر سلسلة "فانتازيا" في 1995، و"سلسلة سفاري" في 1996، وفي 2006، سلسلة دبليو دبليو دبليو.
وكان توفيق غزير الإنتاج، ومن أشهر أعماله الروائية، رواية يوتوبيا في 2008، التي تُرجمت إلى عدة لغات، وأُعيد نشرها، صدر له رواية "السنجة" في2012، ورواية مثل إيكاروس في2015، ثم رواية "في ممر الفئران" في 2016، كما صدرت له روايات أخرى مثل "قصاصات قابلة للحرق"، و"عقل بلا جسد" و"الآن نفتح الصندوق" التي تكونت من 3 أجزاء.
وكتب توفيق في الصحافة العديد من المقالات الدورية وتحديدا في مجلة الشباب لمؤسسة الأهرام، وفي جريدة التحرير وفي مجلّات وصحف أخرى منها صحيفة الاتحاد الإماراتية، أما على صعيد الترجمة فنشر سلسلة "رجفة الخوف"، التي تضمنت روايات رعب مُترجمة، كما ترجم رواية "نادي القتال" للكاتب تشاك بولانيك، ورواية "ديرمافوريا" و "عداء الطائرة الورقية " و" تشي جيفارا: سيرة مصورة"، وله أيضا بعض الكتابات الشعرية.
كما كتب القصة القصيرة، ونال جائزة عزوز العربية لأدب الطفل في 2018، عن قصته الميرانتي أميرالبحار. وتحولت العديد من أعماله لمسلسلات تلفزيونية، واشتهر بمقالاته الساخرة،
وكان أحمد خالد توفيق رائداً متميزاً في نتاجه الأدبي، فقد كتب "قصة تكملها أنت: قصة رعب تفاعلية" بمشاركة 4 مؤلفين شباب هم قراء محبون للأدب وليسوا كتابًا محترفين، في 2007 عن دار ليلى، وصدرت له روايات مصورة كوميكس، وفي 2017 صدر له كتاب "اللغز وراء السطور" أحاديث من مطبخ الكتابة: عن دار الشروق، حاول فيه فك لغز الكتابة بأسلوبه الساخر والممتع، حيث قدم وصفة سحرية من عصارة تجاربه ومن تجارب كبار الأدباء، في تجربة مفيدة وممتعة للقارئ والمؤلف معًا.
وانعكست مهنته طبيباً وأستاذاً جامعياً على سلاسل قصصه، ففي "ما وراء الطبيعة" البطل رفعت إسماعيل أستاذ جامعي لأمراض الدم، وفي سلسلة "سافاري"، يروي العراب مغامرات الطبيب الشاب علاء عبد العظيم في وحدة طبية دولية في الكاميرون، ليعالج المرضى من أوبئة القارة السمراء، وقد استفاد العراب من خبراته كأستاذ جامعي حاصل على درجة الدكتوراة في طب المناطق الحارة، ليبدع لنا عشرات القصص المختلفة عن المرض والأوبئة في أفريقيا عبر قصص "سافاري".