لجريدة عمان:
2024-07-05@05:51:27 GMT

بناء العقول المُستَلبة

تاريخ النشر: 2nd, July 2024 GMT

تُعاني المجتمعات العربيّة من وطْأة الجامعات الخاصّة التي تجتمع عامّة في قُدرتها على تحصيل الأموال من تقديم منتوج يُفتَرَض أنّه علميّ ومتقدّم على الجامعات العامّة، فهل تحتاج البلاد العربيّة إلى استثمار الخواصّ في التعليم، وكيف للدول أن تترك التعليم نهبا لأصحاب الكروش الذين يُطلقون الدرهم والدينار ليعودا آلافا مؤلّفة دون اعتبار لحال المواطن الشاقي ولا لتقديم منتوج صالح بالضرورة؟ من الذي أفسد التعليم العمومي ليلجأ الناس إلى الناهبين تُجّار العلم؟ هل تُراقب أجهزة الدول العربيّة ما تعرضه هذه الجامعات الخاصّة، وهل تدرس ما تتطلّبه العمليّة التعليميّة من أموالٍ، وهل فعلا ما زال التعليم الجامعيّ الخاصّ خيار مَن زلّت بهم القدم في التعليم العامّ أو خيار المُترَفين؟ وهل بلغ تعليمنا العربيّ مرحلةً من النُضج العموميّ تُمكّنه من فتْح المجال للمُسْتثمرين يتقشّفون في الإنفاق ولا يشبعون من التحصيل المالي؟ أسئلةٌ عديدة تُطْرَح في ظلّ وجود تجارب متباينة للتعليم العالي الخاصّ في المنطقة العربيّة، في اعتقادي يُمكن تقسيم المنطقة العربيّة تعليميّا إلى ثلاثة أقاليم كبرى، إقليم بلاد المغرب، وقد أشعّ التعليم الجامعيّ فيها منذ أواخر ستينيّات القرن الماضي مع الدولة الوطنيّة جالبة للاستقلال، وكان التعليم فيها رهانا تنمويّا لصناعة العقول، وقد تواصلت هذه الريادة إلى بدايات القرن الواحد والعشرين، ثمّ بدأت حركة الهبوط مع التفويت في التعليم إلى القطاع الخاصّ وتهميش مؤسّسات التعليم العالي العموميّة، أمام التجهيزات الخاصّة وتأمين النجاح، مع محافظة قسم هامّ من هذه المؤسّسات على تألّقها وتميّزها رغم أنّها لم تدخل في التصانيف العالميّة.

وإقليم بلاد المشرق، وهو أيضا ليس كلاّ متكاملا، تتفاوت فيه التجارب التعليميّة، ولكنّ أغلبها بدأ خوصصة التعليم منذ زمن، وفقدت مؤسّسات التعليم العالي العموميّة ألقها وتميّزها مع حركة تجهيل مسّت العقول الصانعة للعقول، ولذلك كانت مُخرجات التعليم العالي في البلاد المصريّة وسوريا ضعيفة جدّا، وغلبت الدكترة شكلا اجتماعيّا، والنهم الماليّ طلبا اقتصاديّا، وحلاّ أوصل إلى الإسهال المعرفي، وتأخّرت في هذا التهاوي بلاد العراق والأردن التي حافظت إلى حدّ ما على بعضٍ من الوجاهة المعرفيّة. أمّا الإقليم الأخير، فهو الإقليم الخليجيّ الذي بدأ تجاربه في مرحلة متأخّرة، غير أنّا إذا نظرنا في التصنيف العالمي للجامعات، وجدنا الجامعات العامّة الخليجيّة تتصدّر الجامعات العربيّة، وتحتل منزلة ضمن المائتي جامعة الأولى، ويمكن أن نلقي نظرة على تصنيف مؤسّسة «كيو إس» (QS) البريطانيّة ـ لنجد أنّ جامعة الملك عبد العزيز أخذت المركز 143 عالميّا، والأوّل عربيّا، ضمن تصنيف أفضل الجامعات لسنة 2024، ثمّ تأتي من بعدها الجامعة القطرية التي حصلت على المركز (173) عالميّا، ثمّ جامعة الملك فهد للبترول والمعادن التي كانت رتبتها (180) عالميّا، وأخيرا جامعة الملك سعود التي تركّزت في المرتبة (203) عالميّا، وتأتي من بعد ذلك بعض الجامعات العربيّة الأخرى مثل الجامعة الأمريكيّة في بيروت وجامعة خليفة وجامعة الإمارات العربيّة المتّحدة وجامعة حمد بن خليفة والجامعة الأمريكيّة في الشارقة. وقراءة سريعة في هذه المراتب تجعلنا نصل إلى نتيجتين سريعتين، الأولى تبدو بشكل صارخ مبينة تبدّل مراكز الإشعاع المعرفي في المنطقة العربيّة، وتصدّر الخليج العربيّ، وخاصّة المملكة العربيّة السعوديّة ريادة التعليم، وبصرْف النظر عن نظريّات التآمر وعن أوهام المراكز العلميّة التقليدية بأنّ الخليج يشتري بأموال البترول هذه المراكز، فإنّ تطوّرا علميّا وتعليميّا قد تحقّق في منطقة الخليج، نظرا إلى توجيه قسم من الثراء البترولي إلى التعليم والعناية به، من خلال استقطاب أساتذة علماء وتوفير المختبرات العلميّة والتجهيزات الحديثة واعتماد برامج خاضعة للتقويم الدائم وللقياس المستمرّ، أمّا النتيجة الثانية، فهي أنّه وفق التصانيف الكونيّة، ورغم الجهد العلمي الحثيث، والسعي إلى «إرضاء» المقاييس الغربيّة، ما زالت المنطقة العربيّة لم تدخل سباق المائة جامعة الأولى عالميّا، وهو أمرٌ يدعوني إلى التفكير الجديّ في مسألة اللهث وراء إرضاء المصنّفين، وأعتقد جازما أنّ الأموال التي تُصرَف في شكليّات ودعوات ولجان تحكيم وإقامات في فنادق مُرهبة الترف، كان يُمكن أن تُستَثمَر في تنمية البحث العلمي، وأن نترك أوهام التصنيف هذه، فهي داخلة في ثقافة الأصداء. لقد كانت لي تجربتان للتدريس في الخليج في جامعةٍ خاصّة وأخرى عموميّة، ولكلّ منهما في الخوصصة والتعميم مزايا ومزالق، ويُمكن أن أقول إنّ من مزايا الجامعة الخاصّة التي درّستُ فيها احترام هيكل التدريس والتمييز بين الغثّ والسمين، وتقدير الإضافة وسُرعة القرار، وهي مزايا لا تتوفّر أوّلا في كلّ الجامعات الخاصّة، ولا تتوفّر أيضا في التعليم العمومي الذي يتحوّل فيها الأساتذة الباحثون إلى أرقام وجداول ومواعيد حضور وانصراف وإبداء الطاعة العمياء دون جدل أو نقاش، إضافة إلى بطء مديد في المبادرة إلى اتّخاذ القرار، خاصّة عندما تُقَدَّم مشاريع بحثيّة أو رؤى إصلاحيّة فإنّها تطوف على مكاتب المسؤولين لسنوات قمريّة. بسببٍ من ذلك، فقد كنت في الجامعة الخاصّة منفتحا على المُجتمع، أقوم بأنشطة ثقافيّة وعلميّة وتربويّة بكلّ بساطة، يكفي أن أدخل على نائب رئيس الجامعة وأن تقنعه الفكرة، وهو ما لا يتوفّر في الجامعة العموميّة. أمران ما لم يُنظَر إليهما بشكل جادّ وجديّ، فإنّ التعليم العالي في بلادنا ستبقى الشكليّات هي الغالبة عليه، الأمر الأوّل، احترام عقول المدرّسين الباحثين، والتمييز بين الصدى والعمق، فغالبا ما رأيتُ العميق يُفرَد ويغترب ويغادر، والطبل يبقى ويدوم ويُنتج أصداء، والأمر الثاني هو التخلّص من البيروقراطيّة الجامعيّة وإحداث آليّة لإقرار المقترحات البحثيّة والحثّ عليها. لقد فسد التعليم الجامعي في مصر على عراقته وقدمه، بسبب من تكوّن بورجوازيّة جامعيّة تستعبد مَن دونها من الأساتذة الأقلّ رتبة، وبمرور الزمن أصبحت هذه العُقَد متوارثة، وصار التعليم العالي مملكة فيها أمراء وعبيد. الأستاذ هو القيمة الاعتباريّة الأساسيّة في الدورة التعليميّة، وإن فسد خرب التعليم، ومن مضارّ التعليم الجامعي الخاصّ أنّ الأستاذ فيه يتحوّل إلى آلةٍ، سليبة الرأي، تعمل على إرضاء أصحاب الاستثمار، في الإنجاح والترسيب، في البحث والتعطيل، تُصبح هذه الآلة قوّة عملٍ فاقدة لما يُميّز الجامعيّ: الرأي والتدبير، ليكسب الجامعي معاشه في الجامعات الخاصّة يترك مبادئه عند البوّابة. لكن ما جلب اهتمامي فعلا أنّنا في سلطنة عُمان قد تمكنّا -عموما- من إيجاد تعليم جامعيّ خاصّ يقوم عليه محبّون للعلم، راغبون في الريادة التعليميّة، مقدّرون للبحث وللباحثين، وأذكر أنّ تجربتي في عُمان كانت أنجح وأكثر تحرّرا في الخاصّ منه في العامّ، فحتّى لا نتحوّل إلى آلات وإلى عبيد في أوهام العصابات النافذة وجب التخلّص من الثلاثيّ القاتل: الولاء المطلق، الخوف المستبطن، الصمت المطبق، وهو الثلاثي الذي ساهمنا في زرعه في الجامعيين.

محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الجامعات الخاص ة المنطقة العربی ة التعلیم الجامعی التعلیم العالی فی التعلیم التعلیمی ة عالمی ا

إقرأ أيضاً:

التعليم العالي: مواصلة مقابلة المرشحين لرئاسة جامعة الإسكندرية

أعلنت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، اليوم الخميس، مواصلة مقابلة المرشحين لرئاسة جامعة الإسكندرية. 

واصلت اللجنة المُختصة بترشيح رؤساء الجامعات الحكومية، برئاسة الدكتور منصور حسن رئيس جامعة بني سويف ورئيس اللجنة، أعمالها لاختيار المُرشحين لرئاسة جامعة الإسكندرية، اليوم الخميس الموافق ٤ يوليو ٢٠٢٤.

جدير بالذكر أن هذه اللجنة تم تشكيلها بقرار من المجلس الأعلى للجامعات، لاختيار المُرشحين لرئاسة الجامعات الحكومية المصرية.

يأتي ذلك في ضوء صدور قرار وزير التعليم العالي والبحث العلمي ورئيس المجلس الأعلى للجامعات رقم (1365) بتاريخ 21/4/2022، بشأن تشكيل اللجان المختصة بترشيح رؤساء الجامعات وعمداء الكليات والمعاهد وتنظيم عملها، وإجراءات وشروط الترشح ومعايير المفاضلة.وأضاف المجلس أنه يأتي أيضًا القرار الوزاري رقم (1384) بتاريخ 24 أبريل 2022 بشأن تشكيل اللجنة المختصة بترشيح رؤساء الجامعات. 

استقبال أوراق المرشحين لرئاسة جامعة الإسكندرية 

واستقبلت اللجنة أوراق الراغبين في التقدم ابتداءًا من يوم الأحد 26 مايو وحتى السبت أول يونيو ما عدا يوم الجمعة بمقر أمانة المجلس الأعلى للجامعات من التاسعة صباحًا وحتى الثالثة عصرًا.

وأعلنت اللجنة القائمة المبدئية للمرشحين الأحد 2 يونيو، وتلقت الطعون على مدار يومين الأربعاء والخميس 5 و 6 يونيو، وتم البت في الطعون عقب اجتماع لجنة البت في الطعون.

وأعلنت القائمة النهائية للمتقدمين لرئاسة جامعة الإسكندرية يوم الإثنين 10 يونيو.

مقالات مشابهة

  • التعليم العالي: مواصلة مقابلة المرشحين لرئاسة جامعة الإسكندرية
  • حكومة أخنوش: الدولة الإجتماعية ليست شعاراً والإصلاحات أنعشت الإستثمار
  • هيئة الشارقة للتعليم الخاص تعزز المعايير التعليمية عبر برنامج التطوير المهني
  • أولويات عمل «التعليم العالي» الفترة المقبلة.. بينها تطوير منظومة الطلاب الوافدين
  • بن حبتور يشيد بالدور الاكاديمي والبحثي للجامعات الأهلية
  • الحكومة الجديدة 2024.. أبرز إنجازات وزير التعليم العالي
  • تعيين المعلمين أبرزها.. ملفات هامة تنتظر وزير التعليم الجديد
  • منها دعم النوابغ.. تطورات هائلة في التعليم العالي والبحث العلمي
  • تقرير يرصد أولويات الحكومة المرتقبة في قطاعي التعليم والصحة.. أبرزها تحسين مستوى الخدمات