لجريدة عمان:
2025-04-30@22:12:53 GMT

العودة إلى الرواقية

تاريخ النشر: 2nd, July 2024 GMT

يتفق العديد من المختصين في الفلسفة القديمة على أن الرواقية ولدت في أثينا مع زينون السيتيوني، في زمن شهدت فيه المدينة أزمة كبيرة تكمن في فقدان استقلالها. فقد كانت الهيمنة المقدونية تدعو إلى التشكيك في نموذج الحرية الذي كان يتمتع به المواطن الأثيني حتى ذلك الحين. وقد أدّى فقدان هذه الحرية إلى أزمة متعددة الأوجه، سياسية واجتماعية وأخلاقية وثقافية، وربما وجودية أيضًا.

وقد أظهرت متلازمة الأزمة علاماتها، فلم يعد أحد يعتمد إلا على نفسه فقط لتجاوزها (صعود الفردية)، وصارت القوانين تُفسر بجُبن (تطور الانحراف)، ولم يعد أحد يثق بالآخر وبخاصة السياسيين، فقد أصبح الشك سيّد الجميع، وقد تمّت العودة إلى القيم القديمة (الطبيعة ضد هذه الثقافة التي لم تعد تعمل)، وتم التعامل مع الأزمة باعتبارها إذلالاً فرديًا.

إذن؟ هل الأزمة الأثينية وظهور الرواقية هو توافق مصادفة أم علاقة سبب ونتيجة؟ وعلاوة على ذلك، هل كان المذهب الرواقي بالنسبة إلى الأزمة الأثينية يُشكّل ما تُمثله فلسفاتنا الحالية التي تُعبّر عن نفسها بشكل أساسي حول مسألة السعادة بالنسبة للأزمة (الأزمات) الحالية التي نعرفها؟

تبدو فلسفة السعادة الحالية، على الأقل فيما يتعلق بالمقاربة الرواقية، تتخذ مسارا خاطئا، أولا، لأن سؤال الرواقيين الأساسي لا يتعلق بالسعادة بل بالحرية (يبدو سؤالا محتقرا في عصرنا)، ومن ثمّ فإن فلسفة السعادة الحالية تتنازل وتساوم على موضوعها، فالفشل في تحقيق ذلك يعني أن الفلسفة الحالية تخفض مستوى التعامل؛ فهي تفشل في توفير مفاتيح السعادة، وتحاول العثور على أبواب الرفاهية المغلقة؛ وبكل الوسائل: الارتباك مع علم النفس، وصفات صغيرة ودروس قليلة (كما لو أن السعادة هي مجرد مسألة طريقة وشيء سهل، في متناول الجميع)، وأن عملية تفكير من نوع «من يستطيع أن يفعل أكثر يمكنه أن يفعل الأقل» فإذا أمكن لشخص معوق أن يكون سعيدًا، فالشخص الطبيعي، بديهيا، يمكن أن يكون سعيدًا أيضًا.

وتتميز الأزمات الحالية التي يعرفها العالم، وعلى مختلف الصُعد بعلامات مشابهة لتلك التي ظهرت في الأزمة القديمة، وعلى وجه الخصوص صعوبة الاعتماد ماليا على بلدان أخرى (لبنان في الطليعة)، وتكمن أصالة الفكر الرواقي الأول في الميل ليس إلى مواجهة الأزمة بل إلى الرغبة في حلّها بأي ثمن من خلال هزيمتها بهدف العودة إلى الوضع الطبيعي، ولا بالتحايل عليها، بل لنسيانها بسلاح اللامبالاة.

وفي الأساس، فإن الأزمة ليست سوى نتيجة التعلق بالمادة، ونتيجة هذا الهوس الاجتماعي الذي يتمثل بالضرورة في الاستجابة لطلبات العالم الخارجي، والاستسلام للإغراءات واللذة المادية.

ففي قلب روح الرواقية، يشكل هذا التيّار الذي هو قبل كل شيء ممارسة، تيارا احتجاجيا -على الأقل في عدم امتثاليته الصارخة، ثمة إذن ثلاث أفكار أصلية من الرواقية: «الخضوع والامتناع واللامبالاة» بالعالم الخارجي الذي لا يعتمد علينا، أي القدر. فلو طبقنا ذلك على أزمة اليوم، ينبغي ترجمة هذه الأفكار الثلاث على النحو الآتي: تحمّل الفقر، وتحمّل الظروف الخارجية، فمن العبث أن ترغب في الهروب من سوء الحظ؛ لأن الخروج منه ليس مسؤوليتك بل مسؤولية «الآلهة»، فلا تساعد جارك، ولا تهبّ لمساعدة أخيك (لا أهمية لذلك، إذا كان في جميع الأحوال، هو نفسه يطبّق هذه المبادئ؟ ...)، واقنع بعدم المعاناة بعدم التوجه نحو خيبات الأمل، ولا تقم بأي شيء يمكن أن يؤذيك، وكن غير مبالٍ ببيئتك، ولا تتعلق على أي شيء أو على أحد، ولا تشترِ منزلاً، ولا تتحرك بعد الآن، وإذا كنت تصر على رغبتك في لعب دور في المجتمع فلا تعطِ أي أهمية لما يحدث هناك، فلا تتمرد، ولا تغضب، ولا تظهر مشاعرك، ولا غيرتك، ولا إحباطك، بل كن باردا، ولا تفعل ذلك. أشر بإصبعك إلى تجاوزات من يملكون القوة البشرية ودعها واتركها...

والرواقية هي أيضًا تأكيد للطبيعة والعقل ضد الحضارة والعاطفة، فما هي الأزمة؟ إنها النتيجة المحتملة للشغف الذي نستخدمه للحصول على المكافآت والسلع والأوسمة بأي ثمن، وبالتأكيد، «لم يتم تحقيق أي شيء عظيم في العالم من دون العاطفة»، كما أعلن هيغل، ولكن لا يوجد شيء صغير أو كارثي أيضًا، فعبادة الطبيعة والآلهة والعقل ليست أكثر حكمة ولا أقل ضررًا من الرهان الأعمى والعقائدي والعاطفي على الثقافة.

إذن... هل يمكننا أن نكون رزينين في الأزمات؟ وهل يشكل الرواقي - لعدم المبالاة بهذه الأزمة - موقفا مناسبا في الوقت الحاضر؟ وبالإضافة إلى ذلك، هل هناك العديد من الرواقيين الحقيقيين خلال الأزمة القديمة؟ هل كانت اللامبالاة، إن لم تكن وجهة نظر عقل البعض، على الأقل موقفًا صبورًا في انتظار أن تمر الشرور من تلقاء نفسها؟

في الواقع، طوّر زينون مفهوم «الكاثيكون»، الذي يحدّد الفعل المناسب والملائم، ولكن المناسب لمن؟ إلى الطبيعة، وإلى مبادئها الثابتة، وليس إلى ظروف المجتمع المتغيرة دائمًا، فنحن نعاني لأننا نفتقر إلى الاتساق والانتظام، ودعونا نعرف ما يمكن توقعه، وربما هذا هو ما يجب أن نتذكره عن الرواقية في أوقات الأزمات. الأمر متروك لنا للتكيف مع الواقع، وليس للواقع أن يتكيف معنا. لقد فهم ديكارت، في تكريمه للرواقيين هذا جيدًا: «أن أبدّل رغباتي بدلا من نظام العالم».

أي الاعتماد على الآخرين لا على الطبيعة، ففي كل الأحوال نحن نعتمد على الطبيعة وليس من العار أن نصطفّ وراء ما هو أكبر وأقوى منّا. وبدون تأكيد حقيقي لمفهوم المساواة بين البشر، ترى الرواقية إنه ليس من الضروري على الإنسان أن يخضع لرغبات إنسان آخر حتى لو كان عبدا، وإن المجتمع ليس عليه أن ينحني لرغبات مجتمع آخر، وإلا فعلينا أن نتحمل ونمتنع عن التمرد.

إذن، هل الطبيعة نموذج جديد؟ إن الفارق الكبير بين العصر القديم وعصرنا يكمن في نوع العلاقة التي نتمتع بها مع الطبيعة، فبالنسبة إلى القدماء يقع على عاتق الطبيعة حماية الإنسان، أما بالنسبة للمعاصرين - بعد قرنين من الأضرار الصناعية- فيعود الأمر إلى حماية الإنسان لحماية الطبيعة، أي الطبيعة كنموذج؛ فالطبيعة كنموذج صحي يجب علينا استعادته بالفعل... وللحفاظ على الطبيعة نحتاج إلى ثقافة وعلم وتقنية وسياسة وسياسيين... وهذا يعني أننا إذا لم نفعل ذلك فلن نخرج من الأزمة... لقد اتخذت الأزمة شكل حلقة مفرغة؛ إنها مشكلة تموت من أجلها... وبالإضافة إلى ذلك، كان لدى زينون تلميذ، كريسيبوس. يقولون إن كريسيبوس مات من الضحك.

أن تكون رواقيًا في أوقات الأزمات؟ ... في النهاية، فإن لدى السؤال ما يكفي ليجعلنا لا رواقيين بل... متشككين.

إسكندر حبش كاتب وصحفي من لبنان

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

مطارات دبي: «الممر الذكي» أسرع 10 مرات من البوابات الحالية

كشف ماجد الجوكر، الرئيس التنفيذي للعمليات في مطارات دبي، عن أنّ سرعة إجراءات السفر عبر «الممر الذكي» في مبنى المسافرين 3 تفوق سرعته البوابات الذكية الحالية بعشرة أضعاف، إذ يتيح للمسافرين عبور نقاط الجوازات دون الحاجة للتوقف أو إبراز وثائق السفر. وأكد لوكالة أنباء الإمارات «وام» على هامش معرض سوق السفر العربي، أن هذه التقنية، التي بدأ العمل بها تجريبياً منذ ثلاثة أشهر في مبنى المسافرين 3 لمسافري الدرجة الأولى ورجال الأعمال، حققت في الأيام الأخيرة نسبة نجاح قاربت 100%، ويجري حالياً التوسع فيها لتشمل مسافري الدرجة السياحية، على أن تُعمّم لاحقاً على مختلف مباني المطار، دون أي يكشف عن موعد الإطلاق الرسمي أو موعد تعميم الخدمة.
  وأوضح أن الممر الذكي لا يمثل فقط قفزة تكنولوجية، بل يأتي ضمن منظومة متكاملة تقدم تجربة سفر سلسة يشرف عليها ما يتراوح بين 20 و23 ألف موظف في المناوبة الواحدة، يعملون على مدار الساعة لتلبية احتياجات ملايين المسافرين.
 وقال: «نحن نتبنى ثقافة الضيف أولاً، ولدينا فرق عمل تعمل بروح الفريق الواحد لتقديم تجربة سفر استثنائية للمسافرين».
 وأكد الجوكر، فيما يتعلق بتواصل مطار دبي الدولي ترسيخ مكانته كأكثر مطارات العالم ازدحاماً على صعيد الرحلات الدولية للعام الحادي عشر على التوالي، أن تعامله مع أكثر من 23 مليون مسافر خلال الربع الأول من عام 2025، يضعه على مسار تجاوز حاجز 95.6 مليون مسافر بنهاية العام، لافتاً إلى أن التوقعات خاضعة لإعادة التقييم والمراجعة دائماً.
  وأرجع هذا النمو إلى الزخم السياحي المستمر في الإمارة، وازدياد الحركة خلال مواسم الذروة، مثل عطلة الربيع وعيد الفطر ورأس السنة، إلى جانب الانتعاش الملحوظ في الرحلات القادمة من وجهات جديدة أظهرت نمواً بارزاً، مثل التشيك بنسبة 30%، وفيتنام 28%، وإسبانيا 20%، وبلغ معدل الحركة الشهرية في المطار نحو 7.8 مليون مسافر، فيما تجاوز عدد المسافرين في يناير وحده 8.5 مليون.
  وأشار إلى أن نسبة المسافرين المباشرين بلغت 57% مقابل 43% لرحلات العبور، في مؤشر على ارتفاع جاذبية دبي كوجهة نهائية، أما عدد الرحلات فقد بلغ 111 ألف رحلة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام، بزيادة 1.9% عن الفترة نفسها من 2024، وتجاوز عدد الحقائب المتداولة 21 مليون حقيبة.
 وتناول الجوكر أيضاً مستجدات مشروع مطار آل مكتوم الدولي، مشيراً إلى أنه سيكون أكبر بخمس مرات من مطار دبي الحالي، مع اعتماد فلسفة تشغيل ترتكز على التجربة الذكية، حيث من المتوقع أن يلعب «الممر الذكي» دوراً محورياً في تصميمه.
 وفي سياق متصل، سلط الضوء على جهود مطارات دبي في دعم أصحاب الهمم، وخاصة من المصابين بطيف التوحد، حيث جرى تدريب أكثر من 45 ألف موظف من مجتمع المطار على التعامل مع احتياجاتهم وتوفير بيئة سفر ميسّرة، ما أسهم في حصول دبي على التصنيف الرسمي العالمي، بوصفها أول وجهة سياحية معتمدة للتوحد في النصف الشرقي للكرة الأرضية.

أخبار ذات صلة افتتاح مشروع جسر الخور في عجمان من الأرض إلى الأثير.. الإمارات تستكشف آفاق الفضاء في إكسبو 2025 أوساكا المصدر: وام

مقالات مشابهة

  • اليمن بين جفاف الطبيعة واستنزاف السياسة
  • ألمانيا تطفئ محركاتها وتولّد الكهرباء من الطبيعة
  • مطارات دبي: «الممر الذكي» أسرع 10 مرات من البوابات الحالية
  • محافظ الغربية يشدد على الإسراع في توقيع الأحوزة العمرانية على الطبيعة
  • المجد للبندقية التي حرست المواطن ليعود الى بيته الذي كانت قحت تبرر للجنجويد احتلاله
  • شروط الاحتلال الإسرائيلي التي أدت لإلغاء مسيرة العودة
  • وادي الحمض.. سحر الطبيعة الممتدة من المدينة المنورة إلى البحر الأحمر
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • كيف نُعيد الطفل إلى الطبيعة؟
  • الذي يأتي ولا يأتي من الحـافلات