الإبهام الثالث.. ماذا يمكنك أن تفعل بإصبع إضافي في يدك؟
تاريخ النشر: 2nd, July 2024 GMT
تخيّل الأصوات التي كان يمكن أن يستحضرها عازف الجيتار الشهير جوزيبي تارتيني أو جيمي هندريكس لو كان لديه إصبع إضافي للعمل به. وبالمقياس نفسه، فكر في مدى سرعة الرسامين التاريخيين مثل ليوناردو دافنشي أو فنسنت فان جوخ في تجميع أعمال حياتهم إذا كان بإمكانهم ببساطة حمل ألوان الزيت والفرشاة في اليد نفسها.
كل واحد من هؤلاء الفنانين كان مقيدا بتشريحه البيولوجي حيث تحتوي كلتا يديه 10 أصابع، ولكن قد لا يكون هذا هو الحال بالضرورة بالنسبة للمبدعين المستقبليين بفضل ابتكار إصبع روبوتي إضافي يمثل تقدما محتملا رائدا في الأطراف الصناعية، ويطلق عليه "الإبهام الثالث".
الإبهام الثالث الذي ابتكرته داني كلود أخصائية الأطراف الصناعية في مختبر اللدونة بجامعة كامبردج (مختبر مختص بدراسة علوم الأعصاب الخاصة بالأجهزة المساعدة)، صُمم لتعزيز القدرات البيولوجية للمستخدمين، ومساعدة الأشخاص في التقاط المزيد من الأشياء المختلفة وحملها مع التركيز على ضمان المساواة في الوصول إلى مختلف الفئات.
وهذا الإبهام الإضافي إنما هو إصبع آلي اصطناعي إضافي مطبوع ثلاثي الأبعاد يُتحكم فيه عن طريق أصابع قدم المستخدم، وهو جزء من مجال التكنولوجيا المتنامي المشار إليه باسم "التعزيز الحركي" الذي صُمم لتوسيع القدرات البدنية للبشر.
الإصبع الإضافي يمكن أن يعزز قدراتنا الحركية بما يتجاوز القيود البيولوجية الحالية (داني كلود ديزاين)يُرتدى "الإبهام الثالث" تحت إصبع الخنصر مباشرة على الجانب الآخر للإبهام الحقيقي للمستخدم، ويُثبت في مكانه بواسطة رباط المعصم ليشبه الإصبع السادس.
وأوضح مبتكرو الإصبع الآلي أنه بمجرد تجهيز يُشغل عن طريق الضغط إلى أسفل على زوج من الأجهزة الموضوعة تحت كل إصبع كبير في كلتا القدمين، والتي يمكن وضعها داخل الحذاء.
ويؤدي الضغط الذي يمارسه إصبع القدم الأيمن إلى تحريك "الإبهام الثالث" من جانب إلى آخر عبر اليد، بينما يؤدي الضغط الذي يٌمارس من إصبع القدم الأيسر إلى تحريكه بقوة لأعلى ولأسفل نحو الأصابع الطبيعية.
تبدو أدوات التحكم في حركة الإبهام الثالث لاسلكية ومتناسبة طرديا مع الضغط المُطبَّق، لذا فإن الحركة الأسرع من أصابع القدم ستؤدي إلى حركة سريعة مماثلة بالإبهام، وسيؤدي تحرير الضغط على إصبع القدم إلى إعادة الإبهام إلى موضعه الأصلي.
ويرى الباحثون أن أحد مجالات التكنولوجيا الناشئة هو التعزيز الحركي باستخدام أجهزة يمكن ارتداؤها مثل أجزاء الجسم الآلية الإضافية لتحسين القدرات الحركية البشرية إلى ما هو أبعد من حدودها الحالية.
مهام متعددة بيدٍ واحدةيقول مبتكرو الإبهام الثالث في ورقتهم البحثية: إن "التكنولوجيا تُغير تعريفنا لما يعنيه أن تكون إنسانا، حيث أصبحت الآلات بشكل متزايد جزءًا من حياتنا اليومية، وحتى عقولنا وأجسادنا".
ويعتقدون أن هذا الإبهام الآلي يمكن أن يساعد قريبا الأشخاص على استعادة القدرة على الحركة والأداء الوظيفي، كما يمكن أن يكون ذا قيمة خاصة لمبتوري الأطراف الذين فقدوا أذرعتهم، ويواجهون صعوبة في أداء مهامهم بيد واحدة فقط.
لكنّ الاستخدامات المحتملة للإبهام الثالث لا تقتصر فقط على مساعدة المستخدِمين الذين فقدوا أصابعهم. وفي مقاطع الفيديو والصور التي توضح الاختبارات، أظهر المستخدِمون أن الإبهام قوي بما يكفي للضغط على الفاكهة، ودقيق بما يكفي لتمرير الخيط عبر الإبرة.
وفي مكان آخر، يمكن رؤية مستخدِمين وهم يكسرون بيضة، بينما يضعون أخرى بأمان على الإبهام.
تُظهر صورة أخرى رساما يحمل كوبا مليئا بالحبر بإبهامه ويمسك في اليد نفسها فرشاة رسم، ويمكن أيضا استخدام الإبهام على ما يبدو للعزف على أوتار الجيتار.
في نهاية المطاف، يعتقد الباحثون الذين يستكشفون أتمتة المحركات القابلة للارتداء، والتي يمكن أن تشمل الأطراف الميكانيكية المعقدة وبدلات الهيكل الخارجي التي يطلق عليها "البدلات الخارقة"، أن هذا الإبهام الآلي يمكن أن يعزز الأداء البيولوجي والقدرة على الإمساك بالأشياء الكبيرة، وتوسيع القدرة الاستيعابية لليد حتى يتمكن مرتدوه من إكمال المهام التي عادة ما يكون صعبا أو مستحيلا القيام بها باستخدام الإبهام وأربعة أصابع. ويعتقدون أن هذه الأدوات يمكن أن تزيد في النهاية من الإنتاجية والسلامة.
نتائج مشجعةعلى الرغم من أن التصميم الأولي لجهاز الإبهام الثالث الآلي يعود إلى عام 2017، فقد أصدر باحثون من جامعة كامبردج نتائج أول جولة واسعة النطاق من الاختبارات البشرية باستخدام الجهاز.
وونشرت الدراسة -التي قادتها "تامار ماكين" الأستاذة في وحدة علوم الإدراك والدماغ بمجلس البحوث الطبية بجامعة كامبردج- في مجلة "ساينس روبوتيكس".
وفي دراستهم، أخذ الباحثون نسخا مختلفة الأحجام من الإبهام إلى المعرض العلمي الصيفي للجمعية الملكية البريطانية لعام 2022، واختبروه على 596 شخصا تتراوح أعمارهم بين 3 و96 عاما.
الإبهام الثالث متاح بأحجام مختلفة ليناسب أيدي الكبار والصغار (داني كلود ديزاين)وعلى مدار 5 أيام، شرع الباحثون باستخدام مجموعات من المتطوعين الذين جاؤوا من خلفيات مختلفة من حيث الجنس والعرق واستخدام اليد، ومُنحوا ما يصل إلى دقيقة واحدة للتعرف على الجهاز.
وقام المشاركون في التجربة ببعض المهام اليدوية لتحديد ما إذا كان بإمكانهم فهم طبيعة عمل الإبهام بسهولة واستخدامه لالتقاط أشياء مختلفة بسرعة وبشكل فعال أم لا.
وكانت نتائج التجربة مشجعة، ووجدت الغالبية العظمى من المختبِرين أن "الإبهام الثالث" سهل الاستخدام، وتمكنوا من توسيع نطاق حركاتهم بتأثير فوري تقريبا.
وتمكن نحو 98% من المشاركين من تجهيز الإبهام الإضافي بنجاح والتعامل مع الأشياء خلال الدقيقة الأولى. وبشكل عام وجد الباحثون أن ارتداء الإبهام والتحكم فيه نجح بنسبة 99.3% من العينة.
لكن تحريك الأشياء والقيام بها ببراعة قصتان مختلفتان تماما. ولاختبار ذلك، كُلِّف الأشخاص الخاضعون للاختبار بمهمتين منفصلتين مدة كل منهما دقيقة واحدة لمعرفة مدى فائدة "الإبهام الثالث".
طلب الباحثون من المشاركين استخدام إصبعهم الآلي الجديد لالتقاط المشابك ووضعها في السلة خلال 60 ثانية، وأكمل أكثر من نصفهم (333 مشاركا) المهمة بشكل فعال. طُلب من الخاضعين للاختبار استخدام الإبهام جنبا إلى جنب مع أصابعهم الأخرى لتحريك ما يصل إلى ستة أجسام رغوية بأحجام وأشكال مختلفة تتطلب مستويات مختلفة من البراعة لحملها ووضعها بالمثل في السلة بسرعة. وفي هذه المرة أكمل 246 من المشاركين الاختبار.وأمكن للذين اختبروا الإصبع من جميع الأعمار استخدام الإبهام بنجاح وبسرعة إلى حد ما، لكنّ الأطفال الأصغر سنا واجهوا صعوبة في استخدام الإبهام.
كما لاحظ الباحثون أن الأداء انخفض لدى كبار السن، وأرجعوا هذه النتيجة إلى التدهور العام في القدرات الحسية والإدراكية المرتبطة بالشيخوخة. وإضافة إلى ذلك، يمكن أن تعكس هذه التأثيرات أيضا علاقة الأجيال بالتكنولوجيا.
ولم يكن هناك أي دليل على أن الأشخاص الذين يمكن اعتبارهم "جيدين في استخدام أيديهم" لأنهم يعزفون على آلة موسيقية أو لديهم وظيفة تنطوي على براعة يدوية على سبيل المثال؛ كانوا أفضل في استخدام الجهاز التعويضي من غيرهم.
وعلى الرغم من أن موضوعات الاختبار في معرض العلوم الصيفي للجمعية الملكية كانت مقتصرة إلى حد كبير على بعض المهام المحددة، فإن الباحثين قدّموا بالفعل لمحات عن أداء المهام التي قد تكون صعبة أو مستحيلة بيد واحدة، مثل فتح زجاجة أو تقشير موزة أو حمل أكواب متعددة أو التدقيق في أوراق اللعب.
الإبهام الثالث يتيح لمرتديه حمل وفتح زجاجات المشروبات بيد واحدة (داني كلود ديزاين)واعترفت كلود التي طورت الإبهام الثالث في كامبردج، بأن تعلّم كيفية استخدام الجهاز يمكن أن يبدو "غريبا جدا" بالنسبة للأشخاص الذين عاشوا حياتهم باستخدام 10 أصابع وإبهامين، ومع ذلك تشير أحدث الأبحاث إلى أن المظهر قد يكون خادعًا.
وقالت كلود: "الأمر المثير حقًا بشأن الإبهام هو أنه يبدو معقدا للغاية منذ البداية، وهو في الواقع ليس كذلك، إذ يمكن للناس استخدامه بسرعة وسهولة خلال دقيقة واحدة، ولا يستغرق الأمر سنوات من التدريب أو حتى أشهرا أو حتى أياما".
وقالت لوسي دودال، وهي إحدى الباحثات المشاركات في الورقة البحثية: "كنا مهتمين حقا بهذا البحث للنظر في مدى قدرة الأشخاص على اكتساب تلك المهارات الحركية الأولية في البداية، لذلك أثبتوا في اللحظات القليلة الأولى من الاستخدام أن بإمكانهم حقًا استخدام الإبهام الثالث". وأضافت: "لقد فوجئنا بمدى كفاءة الجميع، لا سيما في المعرض، ولكن أيضا بالفئات العمرية الواسعة.. يمكن للجميع أداء المهمة بشكل جيد".
محاولة لتعزيز المساواةيريد الباحثون تعزيز إمكانية وصول الإبهام الآلي في وقت مبكر من عملية التصميم، ويؤكدون في اختبارهم أهمية تطوير الأدوات التي تكون عملية وسهلة الاستخدام، وبالتالي تعليم المرضى كيفية استخدام هذا الجهاز بسرعة.
وفي التجارب لاحظ الباحثون أنهم شجعوا ليس فقط العدد الهائل من المشاركين القادرين على استخدام الإبهام، ولكن أيضا تنوعهم الديمغرافي الواسع.
وبالمثل، يقول الباحثون إنهم لم يقيسوا أي اختلاف ملحوظ في الأداء العام بين الجنسين أو بين الأشخاص الذين يستخدمون اليد اليسرى أو اليمنى، وذلك على الرغم من أن الإبهام كان يُرتدى دائمًا في اليد اليمنى.
ومن المتوقع أن تساعد هذه النتائج الباحثين على تكييف الإبهام الثالث بشكل أفضل لاستخدامه مع عدد أكبر من الأشخاص.
ويشير الباحثون إلى أن سهولة الاستخدام عبر الاختلافات البيولوجية أمر بالغ الأهمية للمساعدة في منع مجموعة واحدة أو مجموعة فرعية من الاستفادة بشكل غير متناسب من التكنولوجيا واكتساب ميزة غير عادلة. وعلى الرغم من أن هذا القلق قد يبدو سابقًا لأوانه بالنسبة لتكنولوجيا الأطراف البيولوجية التي لا تزال ناشئة نسبيا، فإن الباحثين يهدفون إلى محاولة مراعاة الاعتبارات الأخلاقية والمساواة.
وقالت كلود في بيان صحفي للجامعة: "نظرا لتنوع الأجسام، من المهم أن تكون مرحلة تصميم التكنولوجيا القابلة للارتداء شاملة قدر الإمكان، ومن المهم بنفس القدر أن تكون هذه الأجهزة سهلة الوصول وفعالة لمجموعة واسعة من المستخدمين، وإضافة إلى ذلك يجب أن يكون من السهل على الأشخاص تعلمها واستخدامها بسرعة".
الباحثون يريدون تعزيز إمكانية الوصول للإصبع الإضافي مبكرا (داني كلود ديزاين)تمتلئ التقنيات الحديثة بالأمثلة المضادة، حيث لم تُركز هذه التقنيات على هذه الاعتبارات بشكل صحيح، بدءا من عدم المساواة في الواقع الافتراضي والمعزز وحتى أنظمة التعرف التلقائي على الكلام التي تمكّن من التحكم الصوتي في الأجهزة مثل الهواتف الذكية ومكبرات الصوت الذكية وأنظمة التشغيل الآلي للمنزل، والتي تواجه تحيزات عنصرية ضد السمات اللغوية للأشخاص الملونين.
وكذلك الأمر بالنسبة لمعايير سلامة السيارات التي لا تأخذ في الاعتبار بشكل متساوٍ سلامة النساء والرجال في اختبارات حوادث التصادم التي تستخدم دمى تمثل البشر لتقييم مدى أمان السيارة للركاب، وتعطي الأولوية للذكور، على الرغم من أن الأبحاث تشير إلى أن النساء "في الواقع أكثر عرضة لخطر الوفاة أو الإصابة عند وقوع حوادث".
كما ثبت أن الخوارزميات المفوّضة باتخاذ القرار المناسب لديها تحيزات عنصرية سلبية كبيرة ضد الأشخاص من مختلف الهويات الاجتماعية -وخاصة المجموعات ذات الأقليات العرقية- في مجالات مثل الرعاية الصحية والأحكام الجنائية والمركبات ذاتية القيادة والرقابة على الكلام ومحركات البحث وتقنيات التعرف على الوجه.
ومثل هذه التكنولوجيا مليئة بحالات من التحيز والتفاوت والتغاضي في مرحلة التصميم مما يؤدي إلى تأثيرات غير متكافئة محتملة لمجموعات معينة في جميع أنحاء العالم، لذلك يحرص الباحثون على محاولة تجنب تكرار هذه النتائج باستخدام "الإبهام الثالث".
وقالت قائدة المشروع تامار ماكين في بيان: "تفتح هذه التقنيات المستقبلية فرصا جديدة مثيرة يمكن أن تفيد كثيرا من الناس، ولكنْ من المهم أن نفكر في كيفية مساعدة جميع الأشخاص على قدم المساواة، وخاصة المجتمعات المهمشة التي غالبًا ما يتم استبعادها من البحث والتطوير في مجال الابتكار".
وأضافت أنه "لضمان حصول الجميع على فرصة المشاركة والاستفادة من هذه التطورات المثيرة، نحتاج إلى دمج وقياس الشمولية بشكل واضح خلال المراحل الأولى الممكنة من عملية البحث والتطوير".
ومن غير الواضح متى أو كيف يمكن للباحثين إتاحة أجهزتهم للجمهور في الأسواق، أو كم سيكلف ذلك، لكنهم يأملون أن يمهد ذلك الطريق لإنشاء معيار للأجهزة الأخرى الشاملة التي تركز على الإنسان.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات من المشارکین الباحثون أن یمکن أن
إقرأ أيضاً:
سفيرة الألب نحلة غامضة تربط بين العراق وتركيا وفرنسا
خلال عمليات جرد روتينية للنباتات والحيوانات في حديقة ميركانتور الوطنية في المنطقة الجنوبية الغربية من سلسلة جبال الألب الفرنسية رأى الباحثون مخلوقا صغيرا طنانا يطل من خشب شجرة ميتة، وبعد الفحص وجدوا أنهم أمام نحلة برية صغيرة مخططة لها زائدة ضخمة معلقة من مقدمة جسمها، وكانت عبارة عن خرطوم فريد في طوله، وبعد مزيد من الفحص وجدوا أنه لم يتم تسجيل العثور على هذا النوع في مكان آخر بفرنسا.
وكانت المفاجأة التي اكتشفها الباحثون لاحقا وتم تسجيلها في دورية علم الحشرات الجبلية "ألبين إنتومولوجي" أنه عند إجراء المقارنة الشكلية مع عينات نوع غير موصوف من جنوب تركيا وشمال العراق وجدوا توافقا تاما جعلهم يطرحون تساؤلات مهمة بشأن التوزيع الجغرافي غير الطبيعي لهذه النحلة الغامضة التي بدت كسفير بيولوجي يعمل كحلقة وصل بين مناطق جغرافية مختلفة.
والنحلة المكتشفة من جنس يسمى "هوبليتيس" الذي ينتمي إلى فصيلة فرعية من النحل الانفرادي تسمى "الأوزمين"، وتعتمد في غذائها على نباتات مضيفة محددة للحصول على حبوب اللقاح والرحيق هي "أونوسما"، وبسببها أطلق عليها الباحثون اسم "هوبليتيس أونوسمايفاي".
النمط الأنثوي لنحلة "هوبليتيس أونوسمايفاي" (ألبين إنتومولوجي) لغز بيولوجي يحتاج لحلويُعد اكتشاف نحلة "هوبليتيس أونوسمايفاي" إضافة مهمة إلى جنس"هوبليتيس"، وهو مجموعة من النحل الانفرادي المعروف بسلوكه الفريد في بناء الأعشاش.
وبينما تم اكتشاف النحلة الجديدة في فرنسا -وهي منطقة معروفة بتنوع نظمها البيئية وحمايتها القانونية- تم اكتشاف تجمعاتها الأخرى في المناطق الجبلية النائية بتركيا وشمال العراق، وهي مناطق تختلف تضاريسها وظروفها البيئية عن تلك الموجودة في جبال الألب الفرنسية.
واعتبر الباحثون أن التوزيع الجغرافي غير الطبيعي للنحلة يمثل لغزا بيولوجيا، حيث يفصل بين تجمعاتها أكثر من ألفي كيلومتر، ويرى أستاذ النحل البري في جامعة قناة السويس المصرية الدكتور محمد شبل أن حل هذا اللغز ليس صعبا.
ويقول شبل في تصريحات خاصة للجزيرة نت "صحيح أن الانفصال الجغرافي بين أماكن العثور على النحلة يثير أسئلة مهمة بشأن كيفية انتشار هذا النوع وتكيفه مع بيئات مختلفة لكن الإجابة ليست صعبة، ويمكن بمزيد من العمل الحقلي العثور على النحلة في أماكن أخرى، بما يمكّن الباحثين لاحقا من تقديم خريطة جغرافية محدثة لأماكن وجودها".
سلوك بيئي فريدوإلى أن يحسم الباحثون حل هذا اللغز تبدو نحلة "هوبليتيس أونوسمايفاي" مثيرة للاهتمام من جوانب أخرى.
ووفقا للدراسة، فمن المعروف أن النحل الآخر في عائلة "هوبليتيس" يبني أعشاشه في منخفضات الصخور أو التجاويف، ويستخدم أحيانا الرمل والحصى الصغيرة مواد للتعشيش، ولكن النحلة المكتشفة حديثا لها سلوك بيئي فريد، إذ تعتمد بشكل حصري على الأخشاب الميتة لبناء أعشاشها، وتُعد هذه السمة غير شائعة بين أنواع النحل، مما يشير إلى أن توفر الأخشاب الميتة هو عامل حاسم لبقاء هذا النوع.
وبالإضافة إلى سلوكها في بناء الأعشاش تتميز بأطول خرطوم لجمع الغذاء، حيث يوجد بين أنواع النحل 4 فقط ذات خرطوم أطول يصل طولها إلى نحو نصف طول جسم النحلة، ولكن النحلة الجديدة تمتلك خرطوما أطول يبلغ طوله تقريبا مثل طول الجسم، وهو تكيف يمكنها من الوصول إلى الرحيق في أعماق أزهار"أونوسما"، وهي نباتات ذات أزهار أنبوبية طويلة.
وقال الباحثون "إن الإناث تجمع حبوب اللقاح بمساعدة الطنين، وهو سلوك نادر أيضا لدى النحل المنفرد"، ويعني ذلك أن النحل يصدر صوت طنين عن طريق اهتزاز أجنحته بسرعة أثناء وجوده بالقرب من الأزهار، ويساعد هذا السلوك على إطلاق المزيد من حبوب اللقاح من أزهار نبات "أونوسما"، مما يسهل على النحل جمعها.
مخاوف بشأن الانقراضوبينما تعتمد النحلة بشكل أساسي على نبات "أونوسما" لتوفير كل من حبوب اللقاح والرحيق مما يجعلها ملقحا أساسيا له فإن هذا الاعتماد يجعلها عرضة لأي تقلبات في أعداد النبات، وفي حال تدهورت تجمعاته نتيجة فقدان الموائل أو التغيرات البيئية فقد يصبح النحل في خطر كبير كما أوضحت الدراسة.
ويقول الباحثون إنه "على الرغم من أن الحديقة الوطنية ميركانتور توفر بعض الحماية فإن التوزيع المحدود لنحلة "هوبليتيس أونوسمايفاي" في فرنسا ووجودها في منطقتين صغيرتين فقط خارج أوروبا في جنوب تركيا وشمال العراق يثيران مخاوف بشأن انقراضها".
ويؤكد الباحثون أن التوزيع المحدود للنحلة في فرنسا قد يكون مرتبطا بتخصصها البيئي المناخي الضيق.
وتوجد النحلة في جبال الألب الفرنسية على ارتفاعات تتراوح بين 1900 وألفي متر، حيث يسود مناخ يتسم بشتاء بارد ورطب وصيف حار وجاف، وتعيش في تركيا والعراق في ارتفاعات تتراوح بين 1075 و2350 مترا.
وتشير هذه الارتفاعات المتفاوتة إلى أن النحل يحتاج إلى ظروف مناخية محددة جدا ليتمكن من البقاء، مما يجعله عرضة للتغيرات البيئية، خاصة تلك الناجمة عن التغيرات المناخية.
وتشكل التغيرات المناخية تهديدا كبيرا لبقاء النحلة، فمع ارتفاع درجات الحرارة وزيادة التقلبات الجوية قد يتقلص الموطن المناسب لهذا النوع، مما يترك له مساحات أقل لبناء أعشاشه والبحث عن الغذاء.
وإضافة إلى ذلك فإن الأنشطة البشرية مثل تغيير استخدام الأراضي والتوسع الزراعي قد تقلل توفر نباتات "أونوسما" والخشب الميت، وهما عنصران أساسيان لدورة حياة النحل.
وشهدت منطقة جبال الألب حيث تم اكتشاف النحلة في فرنسا قرونا من إزالة الغابات وتغيير استخدام الأراضي، مما غيّر خصائصها البيئية، وبدأ تدمير الغابات في هذه المنطقة منذ نحو ألفي عام قبل الميلاد، ومن المحتمل أن يكون ذلك قد قلل توفر الخشب الميت الذي يعد ضروريا لبناء أعشاش النحل.
وإلى جانب إزالة الغابات يشكل الرعي الجائر في حديقة ميركانتور الوطنية تهديدا إضافيا للنحل، فبينما يمكن للرعي أن يساعد في الحفاظ على الموائل المفتوحة ومنع زحف الغابات فإن الرعي المفرط قد يتسبب في تدهور تجمعات نبات "أونوسما"، وقد تؤدي الضغوط المرتبطة بالرعي إلى جانب التغيرات المناخية مثل فترات الجفاف الطويلة إلى تهديد التجمعات المحدودة بالفعل لنحل "هوبليتيس أونوسمايفاي".
إلى جانب إزالة الغابات يشكل الرعي الجائر تهديدا إضافيا للنحل (شترستوك) إجراءات فورية للحفظوفي ضوء هذه التحديات يدعو الباحثون إلى اتخاذ إجراءات فورية لحفظ النحلة وموائلها.
ويقترح الباحثون إجراءات حفظ رئيسية، منها إدارة الرعي بشكل منضبط في المناطق التي تُعرف بوجود النحل فيها، فمن خلال الحد من الرعي المفرط يمكن حماية تجمعات نبات "أونوسما"، مما يضمن استمرار توفر مصدر غذائي للنحل، كما ينبغي بذل الجهود للحفاظ على الخشب الميت في موائل النحل، إذ يُعد ضروريا لبناء الأعشاش.
كما يؤكد الباحثون على الحاجة إلى مراقبة مستمرة لتجمعات النحل، خاصة في ضوء التغيرات المناخية، وسيكون من الضروري مراقبة تأثيرات تغير درجات الحرارة وأنماط هطول الأمطار على موائلها لفهم كيفية تأثير التغير المناخي على توزيعها وبقائها.
لماذا كل هذا الاهتمام؟ورغم أن هذه النحلة المكتشفة ليست من نحل العسل الذي يتم تربيته بشكل تجاري فإن اهتمام الباحثين بها يرجع لأسباب عدة، بعضها اقتصادي والآخر بيئي، حسب الدكتور شبل.
ويوجد نحو 21 ألف نوع من النحل مقسمة بين نحل العسل والنحل البري، وتوجد اختلافات عدة بين الاثنين، أهمها أن نحل العسل يعيش في مستعمرات كبيرة منظمة، غالبا في خلايا يصنعها النحالون أو في تجاويف طبيعية، وكل خلية تحتوي على ملكة واحدة وآلاف عدة من النحل العامل.
أما النحل البري فيعيش غالبا منفردا أو في مستعمرات صغيرة، ولا يشكل معظمه خلايا معقدة مثل نحل العسل، ويعيش في تجاويف طبيعية بالأرض أو الخشب الميت أو حتى في جذوع الأشجار.
ويقول شبل "كثيرا ما يتم سؤالنا عن أسباب الاهتمام بالنحل البري رغم أنه لا يقوم بتخزين العسل بكميات كبيرة مثل نحل العسل، لذلك ليس غريبا أن يطرح السؤال نفسه مع سياق هذا الاكتشاف الجديد".
ويوضح أن النحل البري ملقح فعال، وفي بعض الأحيان يكون أكثر كفاءة من نحل العسل في تلقيح بعض النباتات، وهذا أمر مهم، ليس فقط لزيادة إنتاجية النبات، ولكن لزيادة جودة المنتج، ومن الناحية البيئة فإن وجوده مهم في الحفاظ على التنوع البيولوجي.
ويضيف أنه في حالة النحلة الجديدة فإنها تعتمد على نبات "الأونوسما"، وهو جزء من النظام البيئي، واستمراره يساهم في الحفاظ على التنوع البيولوجي، ووجود النحلة يساعد على تحقيق ذلك، لأنها تلعب دورا في تلقيح النبات، وهذا يضمن استمرار عملية تكاثره طبيعيا، وبالتالي استمرار وجوده في البيئات التي يعيش فيها.
ويشير شبل إلى أن لاستمرار النبات قيمة اقتصادية، إذ تُستخدم بعض أنواع "الأونوسما" كنباتات زينة، وفي بعض الثقافات يستخدم في الطب التقليدي لعلاج مجموعة من الحالات الصحية.