إسرائيل هي جيش له دولة، إذ تتحكم المؤسسة الأمنية؛ الجيش وأجهزة الاستخبارت، في مفاصلها وأحزابها السياسية وأنشطتها الاقتصادية ومراكزها البحثية. وهذا الكتاب الذي بين أيدينا اليوم "نتنياهو ضد الجنرالات: المعركة على مستقبل إسرائيل" يتناول بالشرح والتحليل هذه الظاهرة التي تتميز بها دولة الكيان. وقد صدر هذا الكتاب في يناير 2024 عن مطبعة جامعة كامبرديج بالولايات المتحدة، ومؤلفه هو "جاي زيف" الأستاذ المساعد في قسم السياسة الخارجية والأمن العالمي بكلية الخدمة الدولية بالجامعة الأمريكية بواشنطن، وهو معلق منتظم بوسائل الإعلام الرئيسية.



أهمية الكتاب

من حيث التوقيت، فقد صدر الكتاب في وقت تشهد فيه إسرائيل فشلا استخبارتيا واستراتيجيا وعسكريا وسياسيا ستكون له آثار عميقة عليها، وعلى موازين الصراع، ووضعها الإقليمي والدولي. وفي وقت تشهد فيه أيضا انقساما غير مسبوق بين نخبها السياسية والعسكرية وحراكا اجتماعيا مستمرا يزداد يوما بعد يوم نتيجة لمعركة طوفان الأقصى وما أدت إليه من نتائج وتداعيات.

أما من حيث الموضوع، فإن الكتاب هو تشريح جيد للعلاقة العسكرية المدنية في إسرائيل منذ إنشائها، والعوامل المؤثرة على صنع القرار فيها. تشريح يفسر لنا ما نشهده اليوم من صراعات واستقالات على المستوى السياسي والأمنى. ونستنج من هذا التشريح أن إسرائيل لا يمكنها تحقيق إنجاز عسكري في حرب غزة، لأنها منقسمة على نفسها في أعلى وأخطر مستوياتها. وهذا يُعد بلا شك أخطر ما يمكن أن تواجهه دولة في اللحظات المصيرية من تاريخها، وسيكون أحد العوامل المهمة لضعف الكيان وزواله.

ملخص الكتاب

خلال عقود من نشاطه السياسي، زرع نتنياهو بعناية صورة ذاتية له باعتباره "سيد الأمن" لإسرائيل. وقد لاقت سمعته كزعيم ذي عقلية أمنية صدى واسعا لدى قطاعات كبيرة من الجمهور الإسرائيلي، مما مكنه من أن يصبح رئيس الوزراء الأطول تقلدا لهذا المنصب في إسرائيل. ومع ذلك، فقد شكك مجتمع الأمن الإسرائيلي مرارا في نهج نتنياهو تجاه الأمن القومي. وشهدت فترات حكمه توترات مدنية - عسكرية غير مسبوقة، فقد رفض قيادته وسياساته علنا الجنرالات المتقاعدون والقادة السابقون للموساد والشاباك، الذين عين نتنياهو بعضهم.

أدى تراجع مكانة الجنرالات في المجتمع الإسرائيلي إلى فتح المجال السياسي واسعا أمام اليمين المتطرف لاستهداف المؤسسة الأمنية والقضاء ووسائل الإعلام والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان، مما أدى إلى تآكل ثقة الجمهور بهذه المؤسسات المدنية والأمنية. وهكذا، أصبح مسمى "رئيس الجيش الإسرائيلي"، أو "جنرال متقاعد"، أو "رئيس سابق للموساد أو الشاباك"، له تأثير محدود على الرأي العام.بالاعتماد على مقابلات مع العشرات من كبار المحاربين القدامى في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، يتناول الكتاب أسباب انعدام الثقة المتبادل والخلافات الشديدة بين نتنياهو والمجتمع الأمني، ولماذا لا يهتم الجمهور الإسرائيلي بهذا الرأي الجماعي لمئات الجنرالات المتقاعدين وقادة التجسس السابقين؟

سيد الأمن متهم بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة

في سبتمبر 2021، أعلن زعيم المعارضة آنذاك، بنيامين نتنياهو، أن الحكومة الإسرائيلية برئاسة نفتالي بنيت هي "كارثة كبيرة" للأمن القومي الإسرائيلي. وحذر نتنياهو مرارا وتكرارا من أن إسرائيل تحتاج إلى يد قوية، هي يده، لاستعادة الأمن. وكانت هذه هي نفس الرسالة التي حاول إيصالها للإسرائيليين طوال حياته السياسية والمهنية: أنه فقط، وهو وحده، الذي يمكن أن تعهد إليه إسرائيل بأمنها. وهي رسالة نجح في إيصالها مرارا وتكرارا في أمة مهووسة بالأمن. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2022، أعاد الناخبون نتنياهو إلى السلطة مرة أخرى بعد إجراء خمسة انتخابات في أقل من أربع سنوات.

ومن المفارقات، أنه في الوقت الذي يرى قطاعات واسعة من الناخبين أن نتنياهو  هو "سيد الأمن"، فقد كان في بداية عام 2020، متهما رسميا بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة في ثلاث قضايا فساد منفصلة.

احتجاجات ضد نتنياهو منذ 2020

طوال معظم عامي 2020 و2021، اجتذبت الاحتجاجات الأسبوعية خارج مقر إقامة نتنياهو الرسمي مئات  ـ أحيانا الآلاف ـ من المتظاهرين المطالبين باستقالته. أحد المتظاهرين الذي أصبح رمزا للحركة بعد اعتقاله كان الجنرال المتقاعد "أمير هاسكل" الذي أمضى اثنين وثلاثين عاما في سلاح الجو الإسرائيلي. وانضم مسؤولون أمنيون سابقون رفيعو المستوى إلى المظاهرات المناهضة لنتنياهو، مثل: كرمي جيلون الرئيس السابق لجهاز الشاباك، وموشيه يعلون رئيس أركان الجيش ووزير دفاع نتنياهو من 2013 إلى 2016.

بعد عام ونصف من المظاهرات، وفي أعقاب تشكيل نتنياهو للحكومة الأكثر تطرفا ويمينية في تاريخ إسرائيل، وصلت التوترات بين نتنياهو والمجتمع الأمني إلى ذروتها. وحاول ائتلاف نتنياهو اختراق إصلاحات قضائية لمعالجة ما اعتبره اختلالا في توازن القوى، إذ تمتلك المحكمة العليا الكثير من السلطة مقارنة بالبرلمانيين المنتخبين. شارك مئات آلاف الإسرائيليين في احتجاجات أسبوعية ومظاهرات حاشدة، هي الأكبر في تاريخ إسرائيل منذ عقود، لوقف ما اعتبروه انقلابا قضائيا. وشارك في هذه المظاهرات العديد من كبار المسؤولين الأمنيين السابقين، وتحدثوا بقوة ضد الإصلاحات التي اقترحتها الحكومة. وهدد أفراد الاحتياط العسكري الإسرائيلي، بمن فيهم أفراد وحدات النخبة في سلاح الجو، بالتوقف عن الذهاب إلى الخدمة إذا مضت الحكومة قدما في إصلاحاتها، مما دفع قائد الجيش الإسرائيلي إلى التعبير عن مخاوفه بشأن أجندة نتنياهو القضائية.  وتحدث وزير دفاعه علنا في معارضة القانون، وطالب بإصلاح شامل. كانت التطورات الدراماتيكية في عام 2023 سببا في تحول الرأي بحدة ضد نتنياهو. وظهر أن الجمهور قد توصل إلى نفس النتيجة التي توصل إليها المجتمع الأمني قبل عقود، وهي أن نتنياهو لم يكن سيد الأمن.

المفارقة ودلالتها وتفسيرها

قبل وقت طويل من ظهور اتهامات لنتنياهو بالفساد، كان هناك عدد من كبار مسؤولي المؤسسة الأمنية المتقاعدين، حتى من عينهم من قبل، قد تحدثوا معارضين لقيادته.  وكانت المؤسسة الأمنية شوكة في خاصرة نتنياهو، على الرغم أنه طوال حياته الحياة السياسية زرع بعناية لنفسه صورة قوية لزعيم يدافع عن حق أمته المحاصرة في الدفاع عن نفسها. ولقد أصبح العديد من هؤلاء المسؤولين الأمنيين السابقين منتقدين شرسين لنتنياهو. حفنة من هؤلاء جنرالات سابقون، يدخلون حسب التقليد الإسرائيلي الساحة السياسية كمهنة ثانية، وصاروا على صدارة التحدي له.

ما الذي يفسر الكراهية المتبادلة بين نتنياهو والمجتمع الأمني؟!! ولماذا يتجاهل الجمهور الإسرائيلي الحكمة الجماعية لمئات من كبار المسؤولين العسكريين والاستخباراتيين السابقين في البلاد من خلال دعم سياسات نتنياهو إن لم يكن دائما الرجل نفسه؟!! هناك عاملان رئيسيان:

1 ـ  البعد الشخصي:

قدم نتنياهو نفسه للمجتمع الإسرائيلي ك "سيد للأمن". وهو لقب رفضه كبار الضباط السابقين. ومع ذلك، فلم يتردد صداه بين عامة الناس حتى وقت قريب. وهذه ليست مجرد مفارقة مثيرة للاهتمام فحسب، بل إنها مهمة للنظر إلى بصمة نتنياهو العميقة على السياسة والمجتمع الإسرائيلي المعاصر. كما أن لها تداعيات على طابع دولة إسرائيل، ومصير الفلسطينيين تحت الاحتلال، وسلوك إسرائيل في المسرح الدولي.

وتشهد فضائح نتنياهو على ما يعتبره كبار المحاربين القدماء في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ميله إلى وضع مصالحه الشخصية والسياسية فوق المصالح الوطنية. كما ينظرون إلى أن دافعه للبقاء في السلطة أكبر من دافعه لتأمين مصالح إسرائيل على المدى الطويل. لذا، فقد أعلنوا اعتراضهم عليه بأعداد أكبر بكثير، وبعبارات أقوى بكثير ضد أي رئيس وزراء آخر في تاريخ إسرائيل.

2 ـ  الخلاف بين المؤسسة الأمنية واليمين الديني:

تشهد العلاقات المدنية العسكرية توترا خاصا في عهد نتنياهو. وهناك خلافات سياسية خطيرة بين المجتمع الأمني واليمين الديني في إسرائيل. إذ يرى المجتمع العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي أن:

ـ فك الارتباط بين إسرائيل والفلسطينيين ـ عبر حل الدولتين أو أي شكل آخر للحل ـ هو أولوية وطنية قصوى، وشرط لا غنى عنه لبقاء إسرائيل على المدى الطويل كدولة يهودية وديمقراطية.

استغل نتنياهو المزاج المعادي للنخبة العسكرية واليسارية، فصعّد من خطابه المثير للانقسام، ولعب على مخاوف الناس، وقدم دعمه للتشريعات التي تستهدف المحاكم والأقليات. ووصف منتقديه بالنخب التي تهدد أمن إسرائيل.ـ دعم اليمين لضم الأراضي الفلسطينية هو أمر كارثي لإسرائيل.

ـ الوضع الراهن، أو بتعبير أدق: "الضم الزاحف" للضفة الغربية، يقوض المصالح الوطنية لإسرائيل.

إضافة إلى ما سبق، فإن نظرة المؤسسة الأمنية بشأن مسائل الأمن القومي نظرة متشائمة نسبيا، وذلك فيما يتعلق: بالمفاوضات مع السلطة الفلسطينية، والتعامل مع الهجمات الصاروخية من غزة، وإحباط البرنامج النووي الإيراني. وكل هذه القضايا، وضعت المؤسسة الأمنية في خلاف ليس فقط مع نتنياهو، ولكن أيضا مع اليمين الأيديولوجي والديني بشكل عام.

أسباب تضاؤل تأثير المؤسسة الأمنية على الرأي العام الإسرائيلي

الفرضية الأساسية التي يقوم عليها هذا الكتاب هي الهوة التي تميز العلاقة بين مجتمع الأمن القومي الإسرائيلي واليمين السياسي بقيادة نتنياهو. لكن، لم يتأثر الرأي العام بصورة كبيرة بتقييمات كبار رجال الأمن، ولا الخلافات السياسية المسربة مع المسؤولين الحكوميين، ولا جوقة الانتقادات والتحذيرات من العديد من الجنرالات المتقاعدين وقادة التجسس، ويعود ذلك إلى تضاؤل مكانتهم في المجتمع الإسرائيلي. ويمكن تفسير هذه الظاهرة المحيرة بثلاثة أسباب رئيسية:

1 ـ تراجع مكانة الجيش الإسرائيلي:

كان الجيش الإسرائيلي مقدسا منذ قيام إسرائيل؛ لكن هذا الوضع تراجع بعد سلسلة من الكوارث العسكرية بدءا 1973، في تناقض صارخ مع الانتصارات الحاسمة التي ميزت حروب: 1948، 1956، و1967:

ـ الهجوم المفاجئ من قِبل الجيشين المصري والسوري في حرب 1973، والتي لم تكن إسرائيل مستعدة له، مما أدى إلى مقتل حوالي 2,600 إسرائيليا.

ـ تحولت حرب لبنان 1982 إلى "فيتنام إسرائيل". وكان أكبر الفشل هو حرب 2006 ضد حزب الله.

ـ انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005 وسلسلة الحروب غير الحاسمة على القطاع والتي قللت جميعها من إعجاب الإسرائيليين بالجيش وكبار ضباطه.

2 ـ تفكك اليسار الإسرائيلي:

تعرض اليسار الإسرائيلي لضربة مدمرة في أعقاب فشل رئيس الوزراء إيهود باراك في التفاوض في قمة كامب ديفيد تموز/يوليه 2000، فقد رفض ياسر عرفات عرضه للسلام، وتلا ذلك بوقت قصير التي حولت العديد من دعاة السلام الإسرائيليين إلى متشددين، مما أدى إلى هيمنة أحزاب اليمين السياسي. وخاب أمل الجمهور الإسرائيلي من عملية السلام التي فشلت في إنهاء المقاومة أو التوصل إلى اتفاق على الرغم مما يعتبره كثير من الإسرائيليين تنازلات كبيرة من قبل قادتهم. ومنذ ذلك، قبل الجمهور الإسرائيلي فكرة أن إسرائيل تفتقر إلى شريك تفاوضي فلسطيني. وكان من نتائج هذه المتغيرات، أن أصبح المجتمع الأمني ضحية لانهيار اليسار نظرا لارتباطه بعملية أوسلو للسلام ودعمه للمبادرات الدبلوماسية بشكل أعم.

3 ـ  صعود اليمين المتطرف:

أدت الانقسامات الاجتماعية والغضب من النخبة، خاصة من منتصف 2010، إلى ارتفاع هجمات السياسيين اليمينيين على المؤسسات الرئيسية للدولة. وأصبح يُنظر إلى وسائل الإعلام والمحاكم والجهات الفاعلة في المجتمع المدني، إلى أنها جزء من "النخبة اليسارية" المنفصلة عن "الشعب" وحتى من الواقع.

المؤسسة الأمنية وصناعة القرار السياسي والاستراتيجي

من الناحية الرسمية، يخضع الجيش الإسرائيلي للسيطرة المدنية. وقد تعززت هذه السيطرة بتعديلات أدخلت على القانون الأساسي أعوام 1976 و1983 و1992 التي أدت إلى تعزيز الرقابة البرلمانية على ميزانيات الدفاع، ونص تعديل 1992 على أنه لا يجوز للدولة أن تشن حربا إلا بموجب قرار حكومي. لكن في الممارسة العملية، فقد تمكن الجيش الإسرائيلي من القيام بدور أكثر نشاطا في الحياة السياسية. لذا يوصف الجيش الإسرائيلي بأنه "جيش مدني في مجتمع عسكري جزئيا"، إذ تنعدم الخطوط الفاصلة الواضحة بين المجالين العسكري والمدني. وتسمى هذه العلاقة بأنها "شراكة شيئة السمعة بين الجنرالات والسياسيين في إسرائيل".

هناك عدة عوامل عززت استقلالية الجيش الإسرائيلي، منها القوانين المتعلقة بالتسلسل القيادي، وضعف الرقابة البرلمانية على الجيش. وقد نتج عنها استمرار الجيش الإسرائيلي في فرض قبضة خانقة على كل جانب من جوانب استراتيجية إسرائيل تقريبا، وعلى التفكير والنشاط الدبلوماسي. ومن الناحية العملية، لم تكن الرقابة على الجيش الإسرائيلي قوية أبدا. وتأسس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي عام 1999 كهيئة تنسيقية ملحقة بمجلس الوزراء لإصدار التقييمات والتوصيات المتعلقة بسياسة الأمن القومي؛ لكن بدون تأثير يُذكر، إذ استمرت مديرية التخطيط في الجيش الإسرائيلي في الهيمنة على الخطة الاستراتيجية.

نماذج مهمة من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي

مما سبق، يمكن القول: إن الجيش الإسرائيلي تمتع طوال تاريخه بنوع من الحكم الذاتي ساعده ليس فقط على تشكيل سياسة الحكومة؛ وإنما في بعض الأحيان أخذ زمام الأمور ذات الاعتبار في يديه:

1 ـ سياسة الاغتيالات والعمليات الانتقامية:

بعد تأسيس قوات النخبة، أصبح رئيس الوزراء ديفيد بن جوريون عام 1953مقتنعا بفائدة الاغتيالات وهي الطريقة التي استخدمتها مجموعة من الكوماندوز، الوحدة 101، في محاربة مجموعات الفدائيين. وبعد ذلك بعامين، استمرت هذه الوحدة في تنفيذ العمليات الانتقامية ضد الفدائيين دون الحصول على موافقة رئيس الوزراء آنذاك موشيه شاريت، خليفة بن جوريون. وكان الضابط الشاب المتهور قائد الوحدة 101، هو آرئيل شارون، الذي ارتقى في الرتب، وعند تقاعده ودخوله الساحة السياسية أصبح وزيرا في العديد من الحكومات، ثم رئيسا للوزراء. وطوال مسيرته العسكرية والسياسية لاحقا، تميز شارون بعصيانه عادة للأوامر. ومع ذلك، فإنه في عمليات الوحدة 101، تلقى الدعم الكامل من رئيس أركان الجيش آنذاك موشيه ديان الذي كان معارضا لسياسة شاريت القائمة على ضبط النفس؛ بينما كان ديان يدعو إلى الانتقام العسكري في الرد على الخسائر في صفوف المدنيين أو اقتحام الحدود الإسرائيلية.

2 ـ شن الحروب والحملات العسكرية:

عند عودة بن جوريون إلى رئاسة الوزراء عام 1955، فقد حثه ديان وشمعون بيريز، المدير العام لوزارة الدفاع، على شن حرب ضد مصر. وكان لهما دور فعال في جعل رئيسهم المتردد بن جوريون يشارك في نهاية المطاف في حملة سيناء 1956، التواطؤ الإسرائيلي الفرنسي البريطاني، ردا على قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس وفرض حظر على مرور البضائع من وإلى إسرائيل عبر مضيق تيران وخليج العقبة.

 3 ـ التصنيف السياسي والدول وطريقة التعامل معها:

بحلول منتصف ستينيات القرن العشرين، كان الجيش الإسرائيلي قد بنى سمعة إيجابية مع الجمهور. وكانت هيمنة قائد الجيش على صنع القرار الأمني هي التي مكنت رابين من وضع سياسة إسرائيل ضد المقاومة الفلسطينية، والتي استمرت حتى منتصف التسعينيات. قامت هذه السياسة على تصنيف الدول حسب ميولها تجاه منظمات المقاومة، فميزت الإجراءات الإسرائيلية بين الدول التي تشجع هذه المنظمات مثل سوريا، وتلك التي عارضتها أو لم تشجعها مثل الأردن ولبنان. ولهذا لم يرد الجيش الإسرائيلي على عمليات المقاومة الفلسطينية المنطلقة من الأردن بمهاجمة النظام في الأردن؛ وإنما جاء الرد بمداهمة قرية السموع بالضفة الغربية في تشرين الثاني نوفمبر 1966، وقرية الكرامة في الضفة الشرقية في مارس آذار 1968، وكلاهما كانتا من بؤر النشاط الفلسطيني المنطلق من الأردن حين كان الأردن مكنوا من الضفتين الشرقية والغربية.

4 ـ شن الحروب الاستباقية:

كان قرار الذهاب إلى الحرب في عام 1967 مدفوعا إلى حد كبير بجنرالات جيش الدفاع الإسرائيلي، الذين ضغطوا قبل عام من الحرب على رئيس الوزراء ليفي إشكول لاستباق حرب مع مصر وسوريا تجعل لإسرائيل ميزة استراتيجية، وذلك لاقتناعهم بأن الاستباقية الإسرائيلية أفضل من انتظار هجوم عربي مفاجئ؛ بينما كانت حكومة إشكول تفضل الجهود الدبلوماسية التي اعتقد الجنرالات أنها غير مجدية.

خلاصات واستنتاجات مهمة

في هذه المعركة المحتدمة بين نتنياهو واليمين المتطرف من جهة، والمجتمع الأمني من جهة أخرى، ومع تراجع مكانة المؤسسة العسكرية بين الجمهور الإسرائيلي والتي وظفها نتنياهو بما يخدم مصالحه، يقدم الكاتب خلاصات واستناجات مهمة، هي:

أدت الانقسامات الاجتماعية والغضب من النخبة، خاصة من منتصف 2010، إلى ارتفاع هجمات السياسيين اليمينيين على المؤسسات الرئيسية للدولة. وأصبح يُنظر إلى وسائل الإعلام والمحاكم والجهات الفاعلة في المجتمع المدني، إلى أنها جزء من "النخبة اليسارية" المنفصلة عن "الشعب" وحتى من الواقع.1 ـ استغل نتنياهو المزاج المعادي للنخبة العسكرية واليسارية، فصعّد من خطابه المثير للانقسام، ولعب على مخاوف الناس، وقدم دعمه للتشريعات التي تستهدف المحاكم والأقليات. ووصف منتقديه بالنخب التي تهدد أمن إسرائيل.

2 ـ أدى تراجع مكانة الجنرالات في المجتمع الإسرائيلي إلى فتح المجال السياسي واسعا أمام اليمين المتطرف لاستهداف المؤسسة الأمنية والقضاء ووسائل الإعلام والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان، مما أدى إلى تآكل ثقة الجمهور بهذه المؤسسات المدنية والأمنية. وهكذا، أصبح مسمى "رئيس الجيش الإسرائيلي"، أو "جنرال متقاعد"، أو "رئيس سابق للموساد أو الشاباك"، له تأثير محدود على الرأي العام.

3 ـ إن استمرار هذا الوضع وتدهوره وتركه دون إعادة تأهيل في السنوات المقبلة سيكون عاملا مهما في تشكيل الأمن القومي والسياسة الخارجية لإسرائيل، وله آثار مهمة أيضا على هويتها وديمقراطيتها الهشة.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب إسرائيل الكتاب الجنرالات عرضه إسرائيل كتاب جنرالات عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المجتمع الإسرائیلی الجمهور الإسرائیلی الجیش الإسرائیلی المؤسسة الأمنیة الیمین المتطرف المجتمع الأمنی رئیس الوزراء الأمن القومی الرأی العام بین نتنیاهو مما أدى إلى فی المجتمع فی إسرائیل سید الأمن العدید من بن جوریون کان الجیش من کبار

إقرأ أيضاً:

قراءة في كتاب: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان «5- 5»

قراءة في كتاب: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان (5- 5)

المؤلف: دكتور عبد الله الفكي البشير- عدد فصول الكتاب: سبعة فصول- عدد الصفحات: (664)، الناشر ط1: دار باركود للنشر والتوزيع، الخرطوم، 2021، ويجري العمل حالياً لنشر ط2، عن دار الموسوعة الصغيرة للطباعة والنشر والتوزيع، جوبا، 2024

بقلم: سمية أمين صديق

المحـــاور

عن مؤلف الكتاب

مدخل

الحوار حول أطروحة المركز والهامش

مفهوم التهميش عند الأستاذ محمود محمد طه

التوجه العربي للسودان وتعميق التهميش وتعزيز الإقصاء

الأمة الأفريقية والدعوة لانسحاب السودان من جامعة الدول العربية

الحزب الجمهوري والعلاقات بين السودان ومصر

جنوب السودان والتاريخ الطويل من التهميش

محمود محمد طه هو السجين الأول والوحيد من أجل جنوب السودان

التنقيب عما بعد التاريخ المعلن: ملاحظات حول كتاب الدكتور سلمان محمد أحمد سلمان

قضايا التعدد الثقافي ونظام الحكم والمعرفة الاستعمارية واستمرار التهميش

الموقف من مؤتمر البجة/ البجا، أكتوبر 1958

تجليات ضعف الانفتاح على الأرشيف القومي عند المثقفين: الدكتور مجدي الجزولي نموذجاً

الدستور وقضايا التهميش

المرأة أكبر من هُمش في الأرض

حل قضية المرأة في أصول الإسلام حيث تطوير الشريعة الإسلامية

بيَّن عبد الله أن الأستاذ محمود محمد طه قرر وبصورة حاسمة انه: “لابد من تطوير الشريعة لمواجهة تحديات العصر ومطالب الإنسان”. فمع تحديات العصر وتجدد مطالب الإنسان وتوسعها مع مرور كل يوم جديد، نجد أن المجتمع قد تطور تطوراً هائلاً، منذ نزول القرآن الكريم والى يومنا هذا، فهناك تطور كبير في المجتمع ككل، وفي وضع المرأة بصورة خاصة، وقد تطور وضعها من مستوى القصور الذي كان عليه في القرن السابع إلى مستوي هي فيه رشيدة، فقد أصبحت المرأة الآن مساوية للرجل، من حيث الحقوق والواجبات لذلك من الظلم  أن تطبق عليها نفس قوانين القرن السابع، ومن هنا وجب أن يقوم القانون على مبدأ المسئولية، فالمرأة مسئولة أمام القانون، كما الرجل مسؤول.

قدم هذا الفصل بالشرح، طرح تطوير شريعة الأحوال الشخصية، والزواج، ووقف عند مشروع: خطوة نحو الزواج في الإسلام، والذي طرحه الأستاذ محمود محمد طه عام 1971. كما بين الفصل ثلاثة موضوعات أثار البعض حولها، وهي موقف الأستاذ محمود محمد طه من الخفاض الفرعوني، و”المرأة مكانها البيت”، وموضوع إبقاء النسب في شروط الكفاءة ضمن الركن الثالث “الولي” من أركان الزواج.

قدم دكتور عبد الله قضية التهميش في السودان من خلال رؤية وتشخيص ومواقف الأستاذ محمود محمد  طه، فقدم  بعض النماذج لعدد  منها، اتجه دكتور عبد الله  في تناوله لقضية التهميش في السودان ، اتجاه يختلف  بعض الشيء عن  المنحى  والاتجاهات التي ناقشت  قضايا التهميش  في السودان، والتي تناولها  عدد من الكتاب والمثقفين  بمساهمات  عديدة ومهمة  و مقدرة،   وجميعها  تصب في   محاولات التفاكر لإيجاد الحلول لموضوع مُستفحل. وفي غاية الأهمية، وحقيق  بأن يجد عظيم الاهتمام من كل حريص، ومهتم بقضايا السودان، وفي طليعتهم  المثقفين، وتتزايد الحاجة  للحوار والنقاش حوّل موضوع  التهميش بصورة كبيرة خصوصاً في وضع السودان الراهن ، أخذ دكتور عبد الله، في الفصل الأول من الكتاب  القُراء  في رحلة عبر التاريخ ،  مُتعمقاً  بعض الشيء و متتبعاً خُطي  الرحالة و الجغرافيين العرب والمسلمين،  وما خطوه من كتابات  في مدوناتهم، عاكسين صورة سلبية ودونية عن أفريقيا و  مناطق السودان وشعوبها، تلك الكتابات  التي ساهمت في تكوين فكرة خاطئة و تصوير (دوني)  لإنسان المنطقة،  ثم تسرب  ذلك التصور إلى أوربا ، والذي أصبح بمثابة الإلية الأولي التي بُذرت بها  أول بذور التهميش في  أفريقيا والسودان ، فقد أُهمل ذكر  الحضارة   والأهرامات السودانية ، و حضارات  أفريقيا ،  حيث لم يرد لها ذكر عند المدونين العرب،  كما تم تنميط سكان تلك المناطق بتصور ، يكاد يبعد عنهم صفات ( البشر) . كما أوضح لنا دكتور عبد الله، تأثر المستعمر الأوربي   بما خطه الرحالة المسلمون والعرب وانعكاس ذلك بصورة جلية في تعاملهم كمستعمرين مع شعوب المنطقة  (كتاب ديفيدسون)! . تناول الكتاب معنى التهميش وتعريفه ، ودخول   مصطلح  التهميش للسودان لأول مرة، ثم  تناول  فترة الستينات  من القرن الماضي وحراكها وحضور  السودان كجزء لا يتجزأ من ذلك  الحراك العالمي الذي ازدهرت فيه حركات نضال الجماعات والشعوب توقاً للحرية  ونجد  ذلك في توضيح دكتور عبدالله : فعندما اندلعت  ثورة أكتوبر المجيدة في السودان عام 1964،  والتي كان من بين أهم أسبابها مشكلة جنوب السودان ، لم يكن السودان بمعزل عن مناخ ستينات القرن العشرين في العالم ، حيث شهد  انتصار حركة الحقوق المدنية في أمريكا، Civil Rights Movement، حيث لحظات الاعتراف العالمي بالتعدد الثقافي، واستيعابه في القواميس السياسية  والدساتير القومية، كما هو الحال في كندا .

لم تكن ثورة أكتوبر في بعض جوانبها، سوي تعبير عن الأشواق للتغيير بتناغم مع المشهد العالمي حيث انتصار حركة الحقوق المدنية، والاعتراف الدستوري بالتنوع الثقافي). كما ناقش الكتاب تفاعل المثقف السوداني مع موضوع التهميش وبعض الكتابات التي تناولت موضوع التهميش وبعض النظريات والأطروحات بحياد (الباحث والمُنقب)، ودعم كتاباته بالمصادر والمراجع بدقة وتوسع. وعن تناول الكتاب لمصطلح التهميش عند الأستاذ محمود محمد طه، لفت دكتور عبد الله الانتباه إلى أن الأستاذ محمود محمد طه، وهو أكبر من دافع عن حقوق المهمشين في السودان منذ أربعينات القرن الماضي وظل يدافع عنهم حتى صبيحة يوم 18 يناير 1985 عند تجسيده لمعارفه، لم يستعمل كلمة *تهميش*  في كتاباته ألا أنه استخدم كلمة مستضعف و استضعاف… إلخ

خلص المؤلف من خلال دراسته لمشروع الأستاذ محمود محمد طه، من خلال كتبه ومحاضراته وأحاديثه…إلخ خلص إلى أن الأستاذ محمود محمد طه لم يستعمل مصطلحات الهامش والتهميش والمهمشين ومشتقاتها، وإنما وردت عنده مصطلحات: “المستضعفون “، و”الذين استضعفوا ” و”المظلومون “، و”المغلوبون”، و”المهضومون”، و “المساكين “، و”الفقراء “، والمسترقون”، و”المستعبدون”، و”المُستذلون”. كما أن  جميع هذه المصطلحات جاءت بتكرار متفاوت، منذ إعلان مشروعه: الفهم الجديد للإسلام، في 30 نوفمبر عام 1951، ضمن كتبه، مقالاته، ومحاضراته، ورسائله، واللقاءات الصحفية معه. كما أشار إلى شرائح المستضعفين/ المهمشين، ومنهم العمال والفلاحين والأطفال والنساء والرجال. وأما المرأة، فهي عند الأستاذ محمود، أكبر من  أُستضعف  في الأرض. يقول  دكتور عبد الله أن جُل هذه المصطلحات واردة إما في  القرآن الكريم أو السنة النبوية، ويري دكتور عبّد الله  أن معني  كلمات  الاستضعاف  والذي يعني  القهر والذل، والمستضعفين التي وردت في القرآن الكريم ومشتقاتها  والتي استخدمها الأستاذ محمود محمد طه،  قد  وردت كثيراً عنده هي كمصطلح، أشمل وأدق  في التعبير عن حالة الدونية “التي  يعمل الجميع على وصفها ومن ثم معالجتها” من مصطلح المهمشين .

تتبع الكتاب مواقف الأستاذ محمود محمد طه من قضايا السودان وقضايا التهميش فيه والتي ناضل الأستاذ محمود محمد طه وعمل على إيجاد الحلول لها منذ العام 1945. وكما وضحها المؤلف من خلال فصول الكتاب، ونجد مثالاً لذلك، قضية مزارعي الجزيرة في العام 1946، وموقف الأستاذ محمود محمد طه وحزبه ومساندته لهم في وجه الحكومة في ذلك الوقت! كما فصل الكتاب في مواقف الأستاذ محمود محمد طه من قضية جنوب السودان والتي ناضل الأستاذ محمود محمد طه من أجلها، بل كان السجين الوحيد من أجل قضية جنوب السودان وذلك في عهد الاستعمار، وظل يناضل من أجلها حتى يوم تجسيده لمعارفه صبيحة يوم 18 يناير 1985. بين الكتاب أن الأستاذ محمود محمد طه قد دعا منذ العام 1955، إلى الحكم الفيدرالي لجميع أقاليم السودان وإلى تشجيع الحكم الذاتي نسبة لما يتمتع به السودان من تنوع ثقافي. فالتنوع الثقافي عند الأستاذ محمود محمد طه يزيد من حيوية الأمة السودانية، ولهذا ظل ينادي بضرورة احترام التنوع الثقافي وحسن إدارته منذ العام 1958.  ومراعاة حالة جنوب السودان الخاصة، (التمييز الإيجابي). وعن هامشية السودان في المحيط العربي فقد كان الأستاذ محمود محمد طه رافضا ً للتوجه العروبي، وهو أول من نادي بضرورة الانسحاب من جامعة الدول العربية باعتبار أن السودان دولة أفريقية وشعب السودان شعب أفريقي له مكانته ووجوده في محيطه الأفريقي وهو أنفع وأجدى له ولدول الجوار الأفريقي، ويمكنه أن يقدم الكثير من خلال ذلك التواجد وتلك المكانة، وضح الكتاب مواقف الأستاذ محمود محمد طه العديدة في نصرة المستضعفين/ المهمشين. وقد احتل موضوع المرأة ونُصرتها موقعاً أمامياً عند الأستاذ محمود، وكما ذكر دكتور عبد الله قائلاً: “إن موضوع المرأة، كما يراه الأستاذ محمود محمد طه، هو أخطر شئون الأرض على الإطلاق، فالمرأة في الأرض، عند الأستاذ محمود محمد طه، كالقلب من الجسد. لهذا وجدت المرأة في مشروعه، الفهم الجديد للإسلام، مكانة، لم تبلغها في أي طرح فكري إسلامي أو غير إسلامي”.

أعطي هذا الكتاب عمقاً بعيداً ومتشعباً لمعنى التهميش عما يتبادر للذهن لدي الوهلة الأولي، ويختلف عما جرت به الأقلام! فقد ظهر جلياً من خلال فصول هذا الكتاب أن مصطلح التهميش “مظلة واسعة تتعدي نظرية المركز والهامش وتتجاوز تقسيم السلطة والثروة!”. وعن تقديمه لرؤية ومواقف الأستاذ محمود في نصرة المظلومين يقول دكتور عبد الله إن كتابه هذا قدم طرفاً من رؤية الأستاذ محمود محمد طه لقضايا التهميش في السودان، وهي رؤية تنطلق من مشروع الأستاذ محمود محمد طه، الفهم الجديد للإسلام، وهو مشروع ينشد إحداث التغير الجذري والشامل  ليس  في السودان فحسب، وإنما في فضاء الإنسانية جمعاء. وتقوم دعوة الأستاذ محمود محمد طه والتي هي دعوة لنصرة المستضعفين/المهمشين ، تقوم على بعث آيات الأصول من القرآن الكريم ( الآيات المكية) المنسوخة، ليقوم عليها الدستور الإنساني  و هو كما يقول الأستاذ محمود محمد طه، الدستور الإسلامي الصحيح، حيث تطوير الشريعة الذي يرتفع فيه الإسلام من مستوي العقيدة إلى مستوي العلم ، وفي هذا المستوى الناس، رجالاً كانوا أو نساء فإنهم لا يتفاضلون بالعقيدة أو العنصر أو الجنس وإنما يتفاضلون بالعقل والخلق ، فالحر، عند الأستاذ محمود محمد طه لا يُربي بالإكراه والعصا و إنما يُربي باحترام عقله وإنسانيته. ولن يكون حظ المرأة، في هذا الميدان حظاً منقوصاً، وإنما هي فيه مؤهلة لتبز كثيراً من الرجال. والإسلام في هذا المستوى يعيش في مجتمعه جميع المواطنين على احترام وتساو بينهم ( بحق المواطنة)  دون تميز ضد أحد باعتبارات الملة.

كتاب محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان دار الوثاق القومية- مواقف وآراء وأفكار الأستاذ محمود محمد طه

يقول دكتور عبد الله: “على الرغم من عظمة مواقف الأستاذ محمود محمد طه الوطنية والإنسانية، وأصالة وجدة وأهمية وقيمة ما طرحه، وحاجة السودان إليه، مما ورد في فصول هذا الكتاب، وتوفر كل ذلك موثقاً في أرشيف السودان القومي بدار الوثائق القومية، كما هو مبين في هوامش الكتاب، وفي ثبت مصادرة ومراجعه، إلا أن أنه من خلال بحثه لم يجد لها أثراً في دراسات المثقفين السودانيين وغيرهم من المهتمين بالشأن السوداني”.

عاب المؤلف على الأكاديميا السودانية خلو أعمالها من أي أثرٍ لمواقف الأستاذ محمود محمد طه وآرائه، سواء كان ذلك في أطروحات الدكتوراه والماجستير أو في أوراق المؤتمرات والندوات أو في الدوريات العلمية، إلا نادراً جداً. بل ذهب دكتور عبّد الله لأكثر من ذلك واصفاً الأكاديميا السودانية بالتماهي مع المؤسسة الدينية وعلمائها، وهي المعنية بالبحث عن حقيقة وتنمية الوعي وخدمة التنوير، كما يري أنها ظلت إلى يومنا هذا في مقاطعة لمشروع الأستاذ محمود محمد طه ولسيرته ومواقفه ولنضالاته، فعزلته عن منابرها وحواراتها وعن مشاريعها البحثية وموضوعات أطروحاتها الجامعية، وكذلك في دراسات المتخصصين في تاريخ السودان الحديث والمعاصر، الأمر الذي يكشف عن ضعف انفتاح الدراسات السودانية على أرشيف السودان القومي.

وقف الدكتور عبد الله الفكي خلال بحثه على طرح بعض المثقفين من السودانيين والعرب لأفكار الأستاذ محمود محمد طه في الكتب والأحاديث الإذاعية واللقاءات التلفزيونية، دون أن ينسبوها له أو إعطاءه ميزة الذكر أو حتى مجرد الإشارة إليه! في حين أنهم دائمي الاستشهاد بغيره من المثقفين والمفكرين السودانيين وغير السودانيين. وقد رجح الدكتور عبد الله أن مثل هذه الأفعال تفيد باستبطان تغييب عند البعض أو ادعاء أحقية في أفكار الأستاذ محمود محمد طه عند البعض الآخر، وهو فعل لا يحمد من حيث الأمانة العلمية أو في الدوائر البحثية لخدمة التنوير.

وقد خلص الدكتور عبد الله الفكي إلى أن إسهامات الأستاذ محمود محمد طه، والتي تمثل ، أهم مصدر ومرجع لشؤون السودان وقضاياه ، لم تُحظ بالدراسة والعناية الكافية من المتخصصين والمؤرخين ، بل طال الإلغاء بعض فصولها عن تاريخ السودان ، كما طالها التهميش والإقصاء .عن دوائر البحث العلمي في السودان.

تناول الكتاب في ختامه حراك ثورة ديسمبر والتضحيات العظيمة التي قدم فيها الشعب السوداني  التضحيات الجسام  رافعاً شعار السلمية وقد اختار دكتور عبد الله عنواناً عند الحديث عنها يقرأ( ثورة 19 ديسمبر والتاريخ الجديد للثورات الإنسانيّة ثورة تحالف المهمشين: المرأة والشباب والتي يري المؤلف أنها ثورة تم فيها استدعاء حراك ماضي الثورات وإرثه (ثورة أكتوبر 1964، وانتفاضة أبريل 1985، كما استدعت إرثاً حضارياً يعود لآلاف السنين، فقد استدعت المرأة السودانية بقوة عزيمتها وإصرارها على الانتصار مفردة الكنداكة…) يعتبر دكتور عبد الله أن ثورة الشعب السوداني في  19 ديسمبر  بعظيم تضحياتها ،  ليست ثورة ضد الإسلام السياسي  الذي حكم البلاد مدي ثلاثين عاماً ( 1989- 1919) فحسب وإنما هي  ثورة ضد الفهم القديم للإسلام، فالفهم القديم للإسلام حاضر خارج دوائر الإسلام السياسي، و يري   دكتور عبد الله أن ثورة    ديسمبر 2018  ماهي سوي نداء لمشروع الفهم الجديد للإسلام. وعنده   أن هذه الثورة عبَّرت عن ثورة عقول، حيث الوعي الجديد وإعادة تعريف الذاتية السودانية، كما هي تعبير عن أشواق التحرر من الأوصياء على العقول. يستنهض المؤلف المثقفين السودانيين للقيام بواجبهم بإشعال الفكر و (عقلنة) الثورة “لنكون على مشارف “انفجار الثورة الكبرى” التي أشار لها الأستاذ محمود محمد طه، وأشار إلى أنها ثورة ستشتعل في عقول الجماهير، وهدفها التغيير الشامل والجذري. ومتى ما تمت الثورة الكبرى، والتي بكمالها تكون إدارة السودان على أساس التعدد الثقافي، وقيم الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان ، من أبجديات الحراك السياسي والفكري ، وعندها ستتم الوحدة بين أقاليم السودان المختلفة، بما في ذلك جنوبه ، الذي اختار اسم (جمهورية  جنوب السودان) لدولته وفي هذا نبوءة مستقبلية لوحدة قادمة، كان قد أشار لها الأستاذ محمود محمد طه.

خاتمة

لقد ظلت مسألة التهميش تشغلني، وهي من الأمور المستعصية والمتعمقة في مجتمعنا السوداني، وهي كسلوك بشري مشين وقاسي، ولا يخلو منه مجتمع في العالم، مع التفاوت في مدي التعامل معه ومحاولات تلك المجتمعات لإيجاد الحلول له. معني التهميش عندي كان يقتصر على جانب واحد وبسيط يتمثل في النظرات الدونية من مجموعات قبلية أو اجتماعية نحو أخري تختلف عنها، وكل ذلك كان من المسائل المؤذية والمؤرقة التي يرفض عقلي تقبلها منذ الصغر .ولمَّا ظهر كتاب: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان، كان عنوانه عنواناً جاذباً لي، فسعيت للحصول عليهمع كتاب آخر للدكتور عبد الله الفكي البشير. وما أن حصلت علىهما، حتى وقع اختياري لقراءته أولاً. كم كانت مفاجأة مُبهرة لي، مدي عُمق الطرح الذي تناول به الدكتور عبد الله موضوع التهميش من خلال فصول الكتاب السبعة، بدءاً من السرد التاريخي العلمي والشيق لحقبة القرون الوسطى وسردياتها وتأثير ذلك على أفريقيا والسودان، مروراً بتعريفه لمعني التهميش عموماً ثم معني التهميش (الاستضعاف) عند الاستاذ محمود محمد طه ومواقفه من التهميش. فالكتاب يجذب القارئ بصورة لا يتخللها الملل إطلاقاً، فكل فصل من فصوله السبعة يصلُح لأن يكون كتاباً مرجعياً قائماً بذاته. كذلك اعتمد الدكتور عبدالله منهجاً توثيقياً صارماً اعتمد فيه على عدد كبير من المصادر والمراجع، الأمر الذي يبعث على الاطمئنان لما اشتمل عليهمن معلومات وبيانات وتحليل وتشخيص، ولما خلص إليه من نتائج وخلاصات.. بدأت في قراءة الكتاب، ولما فرغت منه كاملاً، أعدت قراءته ثانية، فهو يستحق الدراسة والتمعن. لقد اشتمل الكتاب على تفصيل دقيق ومعلومات مهمة وجديدة تحكي عن مواقف الأستاذ محمود محمد طه، وعن النضال والمواجهة والمواقف العظيمة التي سجلها الحزب الجمهوري منذ قيامة في أربعينات القرن الماضي، وتفرد بها عن باقي الأحزاب المعاصرة له. كما ظل الأستاذ محمود في مواجهة لجبهات متعددة، سواء ضد المستعمر ودولتيه، أو ضد الطائفية، والكثير من الأحزاب السودانية، كما هو الحال في موقفه من قضية جنوب السودان، على سبيل المثال.

عالج الكتاب موضوع التهميش/ الاستضعاف في السودان بصورة جديدة وأوسع وأشمل استناداً على مواقف الأستاذ محمود محمد طه وتشخيصه لقضايا التهميش والحلول التي طرها. وفي تقديري أن الكتاب بز الكثير من الدراسات التي تناولت التهميش، بل بما قدمه من آراء جديدة للأستاذ محمود، فإن الكتاب يصب في معنى تعلىم المتعلمين واستنهاضهم لحجز الأماكن الأمامية من أجل نصرة المظلوم والمساهمة في بناء وطن الحرية والسلام والعدالة.

قدم لنا الكتاب الأُنموذج الأمثل وخارطة الطريق التي وضعها الأستاذ محمود محمد طه والمتنزلة من الفهم الجديد للإسلام. وفي يقيني أننا بإتباعها نستطيع أن نصل لوطن العدل والنماء والحرية والمساواة والسلام، خاصة وأن رؤية الأستاذ محمود محمد طه انطوت على تشخيص علمي ورصين، وطرحت الحلول الجذرية الناجعة لمشاكل السودان ومعضلاته المزمنة.

هذا الكتاب من الكتب النادرة والقيمة، وفي تقديري أنه يصلح ليكون بوابة العبور والمدخل للتعرف على طرح الأستاذ محمود محمد طه في الفهم الجديد للإسلام، والذي اشتمل على الحلول لمشاكل العالم الإسلامي، وفك التناقض الذي يعيشه المسلمون اليوم، بل الإنسانية جمعاء.

وعلى الرغم من محاولاتي في الكتابة عن هذا الكتاب إلا أن هناك شعور يتملكني بقصوري الكبير عن إعطائه حقه الكامل في إبراز ما حواه من عُمق وقوة وألق، فهو يزخر بالكثير الذي لم تسعه سطوري البسيطة عنه.  في رأي ان هذا الكتاب من الكتب المهمة التي تُعرف بالسودان بصورة تختلف عما هي عليهالكتب المعنية بالدراسات السودانية، كما أنه يخاطب الراهن والواقع السوداني، ويقدم رؤية جديدة تجاه قضايا التهميش، وقضاياه المزمنة انطلاقاً من طرح الأستاذ محمود محمد طه، ولهذا فهو جدير بالاطلاع. ويستحق كذلك إقامة الحوار حوله في المنابر العامة، وقراءته في مجموعات من خلال أندية الكتب (نادي الكتاب)، وتزداد أهميته للأجيال الجديدة، وقطعاً ستجد فيه فائدة كبيرة. وفي تقديري إن هذا الكتاب يمثل اضافة حقيقة للمكتبة السودانية والإسلامية والإنسانية.

ما جاء في وصف الكتاب في غلافه الخلفي

    التهميش كمصطلح أمر جديد، ولكن بمفهومه القائم على الإهمال، والعزل، والقهر، وعدم إعطاء الأهمية أو الاهتمام المباشر، والتغييب في السجلات الرسمية أو التعبير عن حالة الدونية، للأفراد أو المجموعات أو الثقافات، ليس بجديد، ولا يخرج عن مفهوم الاستضعاف والظلم، كما أنه كممارسة في مسيرة البشرية، قديم ومتجدد، ويتجلى في أشكال عديدة.

    ظل المهمشون/ المستضعفون في العالم، عبر التاريخ، في حالة يقظة مستمرة، يقومون بالثورات من أجل التغيير والتحرير، وقد انتفعت البشرية من ثوراتهم في محطات عديدة، كما يرى محمود محمد طه، حيث أرجع تطور كلمة الشعب في مسيرة البشرية، إلى يقظة المستضعفين/ المهمشين في الأرض.

    يقف الكتاب عند نشأة مصطلح التهميش ومفهومه وتطوره في العالم، وتاريخ ظهوره في السودان.

    تعاني أقاليم/ أطراف السودان من تراكم المظالم في مجالات التنمية، وتوزيع الثروة والسلطة، والحقوق الثقافية وهضمها دستورياً، لا سيما عدم الاعتراف باللغات المحلية.

    لم يُوصف أهل الأقاليم المهمشة في السودان بالمهمشين، إلا في العام 1983 حيث ظهرت مصطلحات “المناطق المهمشة” و”المجموعات المهمشة”.

    يدرس الكتاب صورة السودان في المخيلة العربية- الإسلامية من خلال سرديات القرون الوسطى العربية- الإسلامية، وقدم لمحات من أثر تلك السرديات في المخيلة الأوروبية، وفي حقبة التكالب الاستعماري.

    يقدم الكتاب قراءة في آراء محمود محمد طه ومواقفه من قضايا التهميش في السودان.

    نادى محمود محمد طه منذ عام 1946 بضرورة تحقيق الوحدة الداخلية أولاً، فهي التي يجب أن تتحكم في تكييف علاقات السودان الخارجية، لا سيما عضويته في جامعة الدول العربية.

    دعا منذ عام 1955، إلى إقامة الحكم الفيدرالي لجميع أقاليم السودان، وإلى تشجيع الحكم الذاتي، كما نادى منذ عام 1958 بضرورة احترام التنوع الثقافي وحسن إدارته.

 جدد دعوته للحكم الذاتي عندما عُقد مؤتمر البجة/ البجا بمدينة بورتسودان (أكتوبر 1958)، واصفاً مخرجات المؤتمر بأنها دون مستوى حقوق أهل المنطقة.

    وقف الكتاب عند تعريف محمود محمد طه للسودان انطلاقاً من ذاتيته، وسلط الضوء على رؤيته لمستقبل السودان، ولدوره المرتجى في مسيرة الإنسانية.

قراءة في كتاب: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان «4- 5»

الوسومالحزب الجمهوري الحكم الفيدرالي السودان د. عبد الله الفكي البشير دار الوثائق القومية السودانية سمية أمين صديق كتاب محمود محمد طه محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان

مقالات مشابهة

  • ما قبل الغرب.. صعود وسقوط أنظمة العالم الشرقي.. قراءة في كتاب
  • قراءة في كتاب: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان «5- 5»
  • أردوغان: لغة التهديد الإسرائيلية ضد لبنان تقلقنا بشدة على مستقبل المنطقة
  • خبير في الشؤون الإسرائيلية: نتنياهو يعاقب جنرالات من الجيش بسبب طلبهم هدنة في غزة
  • جنرالات إسرائيل يريدون وقف إطلاق النار فى غزة
  • إسرائيل تنتقل للمرحلة الثالثة من الحرب على غزة.. وكبار الجنرالات يطالبون بالتوقف
  • الجيش الإسرائيلي يقدم طلبا لنتنياهو حول عملية رفح
  • واشنطن بوست: قطاع غزة لن يشهد انفراجة طالما نتنياهو في السلطة
  • نتنياهو: نتجه نحو نهاية مرحلة القضاء على جيش حماس