يمن مونيتور/إبراهيم طلحة

يعدُّ الشاعر العربي السوري المعروف أنس الدغيم، أحد أساطين الشعر المعاصر، فهو – من زاوية قراءتنا – يشكِّلُ ظاهرة شعرية وحالة استثنائية، ليصحَّ وصفه بأنه شاعر من العيار الثقيل، لا مجرد اسمٍ مسجَّل في القائمة الشعرية العربية.

كما أنَّهُ – إلى جانب ذلك – أوقيانوس عظيم، وبحر محيط، وبالمناسبة فإنَّ معنى الأوقيانوس هو: المحيط، وللكلمة دلالاتها في عوالم التصوف، وهي مأخوذة من الميثولوجيا الإغريقية التي تذهب إلى ما يشبه إيجاد معادل موضوعي حول هذا المفهوم يقابلُ بين البحر المعلوم وبحر العلوم، أي بينَ البحر بوصفه المعلوم وما يحتوي من عجائب، وبحر العلوم من أحد الأشخاص وما يمتلك من مواهب؛ ونجِدُ أنّ الوصف ينطبق على الشاعر أنس الدغيم من حيث المعرفة الزاخرة التي يكتنز بها، والثقافة الواسعة التي يصدُر منها، بما يُضفي على نصوصه هالة من البهاء والنور.

وبقراءة منَّا لشِعر أنس الدغيم يمكن أن نقف على عتبات أهم النطاقات المعرفية والإحالات المرجعية في نصوصه، وهذا الوقوف هو نسبيٌّ وإلى حدٍّ ما؛ فبطبيعة الحال يصعب تناول كل مكنون معجمه الشعري في مقالٍ سريعٍ أو مبحثٍ قصيرٍ، ولا سيما وأنه بحر محيط كما ألمعنا، وكيف لنا أن نحيط بكل ما في المحيط؟!

أنس إبراهيم الدغيم، شاعر حضرة الذّاتِ النبوية المحمدية، وشاعر قضية العرب الأولى وقضايا شعوب الأُمّة العربية.. شاعر المنافي والأوطان، والأرض والإنسان.. له عدة دواوين شعرية، وكذا عدة أعمال أخرى، كما أنه إلى جانب كونه شاعرًا وإعلاميًّا هو صيدلاني، يداوي أرواحنا بأحرفه الضّافية، كما يداوي أجسادنا بأدوية العافية.

تتضح ملامح ما نحن بصدده من نطاقات وإحالات في شعر الدغيم، من خلال تكثيف اللغة العابرة للأطر الزمكانية، والمتضمنة للمحمولات الثقافية، والتعويل على الاشتغال الإبداعي غير المسبوق الذي قفز به متجاوزًا تجارب إبداعية مناظرة.

ولشاعرنا عدة دواوين، ابتدأها بإيقاد شعلة (حروف أمام الدار)، ثم استأنفها في (المنفى)، واستوت على (الجودي)، ليرفع قواعدَ بيت القصيد (إبراهيم).

ها هو يمطر القلوب قصيدًا باذخًا وينشد الدروب نشيدًا شامخًا، فيقول:

مطَرانِ لي ولك القوافي الماطرة

والشِّعرُ بينهما يُكابِدُ شاعره

غضبي وقلبي يكتبانِ قصائدي

والموت بينهما يعدُّ ذخائره

من ذا الذي يحصر الموت بين معقوفتين من رفض ونبض إلّا شاعر كالدغيم؟!!، ولعلنا لا نستطيع صبرًا على تأويل ما لم نحط به من المعنى خُبرًا؛ بيدَ أنَّ تقابل ضمير (أنا) المتكلم مع ضمير (أنت) المخاطَب افتراضًا في كل من اللفظين: (لي، ولك) يدل على أن الشاعر يقول ما يقول، والمتلقي يتأول ما يتأوّل، والجميل أنَّ الإحالة هنا إلى مقولة: “علينا أن نقول وعليكم أن تتأوَّلوا” لم تجئ على جهة تأنيب قدرة المتلقي وتغليب قدرة الشاعر، وإنَّما جاءت خلافًا لذلك بكونها تحدّثت عن معاناة الشاعر ومكابدته، بل ومعاناة الشعر ذاته ومكابدته، وكأنّما الشعر إنسان يسمع ويعي، ويمرض ويشتاق ويتعلل، وفي هذا تجسيم أو أنسنة، أو وجه استعارة، بلغة أهل البيان والبلاغة.

أما تناولات شاعرنا في مجال المديح النبوي، فهي ليست مجرد مديح تقليدي منمط، بل تتجاوز ذلك إلى عوالم الوجود وتواريخ الجدود، بأسلوب مرهف يستدعي فيه الورد من أعطافه ليبادله الحديث، والنجوم من عليائها ليسامرها، والغيوم من حيث أمطرت ليحيي بهطولها الأرضين والقلوب بعد موتها، فيسردُ أوَّلًا حكاية الآخِرين قبل أن يروي أساطير الأوَّلِينَ، ويقول مستهلًّا:

شتان بين المالكين نِصابا

ملك القلوب ويملكون رقابا

أي شتَّان بين المالكين نِصابًا من الأموال والثروات، فتسلطوا على رقاب الناس بالسيوف والسكاكين، ومن ملك قلوب الناس من الفقراء والمساكين، من ملك قلوب العالمين، في إشارة إلى النبي محمد الذي جاء رحمة للعالمين.

وهذا البيت يشاكل بيتين قديمين ينسبان لربيعة بن ثابت، يقول فيهما:

لشتان ما بين اليزيدين في النّدى

يزيد سليمٍ والأغرّ ابن حاتمِ

فهَمُّ الفتَى الأزديِّ إتلاف مالِهِ

وهَمّ الفتَى القيسيِّ جمعُ الدراهمِ

وهذه إحالة تاريخية ضمنية في القصيدِ المقُول، توازي الحالة المناظرة لها في القصيدِ المنقول.

ثم يقول:

قلبي وعقلي والقوافي منذ أن

زمَّلتُها تتصيَّدُ الكُتّابا

هنا نحن أمام شكل تناصّ وإزاحة من خلال الاقتباس والتضمين من آيات القرآن الكريم، فتعبير التزميل مستوحى من سورة المزمل.

ثم ينتقل من تضمين معنى التزميل بأسلوب التلميح إلى تقديم قصيد المدح والثناء بأسلوب التصريح:

علَّقتُ بين البُردتين مدائحي

وسواي يعلق غادةً وكَعابا

لا ناعس الطرف الذي بايعته

في النوم كنتُ ولم أكُ السّيابا

إني وما عُلِّمتُ منطقَ طائرٍ

أشدُو بذكرك جيئةً وذهابا

لا يقول الدغيم الشعر إلّا في سبيل تكليل مشاعره بانهيال الندى، وتعزيز تجربته باجتياز المدى، وهنا خصص فيض المشاعر لمن تشدو فيه حروف الشاعر، أي لمدح النبي محمد مجدَّدًا، بعد التمهيد لذلك باستحضار قصائد البردة المشهورة التي قيلت من قبلُ، ويتَّضح لنا أيضًا تداخل مفرداته مع مضامين آيات قرآنية، كآية: “عُلِّمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء”.

وبانتقالة لطيفة يتحول الشاعر من جهة الشعر إلى جهة القصة، راويًا أجمل الروايات وأحسن القصص عن ممدوحه، فيقول:

في غاره الجبلي لم يكُ فارغًا

كان المدى يتعلم الإعرابا

ومن هذا المنطلق الذي بدأ من غار حِراء، أفصح الحرف وأسفر الصبح؛ لأنهما استوحيا فكرة تجلِّيهما من صاحب الخُلُق العظيم:

خُلُقٌ كأنَّ الورد من أعطافهِ

وخلاله يهدي الوجودَ سحابا

ويحاول الشاعر أن يرتدي حُلة جميلة من خلال نسجه لبُردةٍ جليلة:

جمَّلتُ شِعرِي حينَ لم أختر لهُ

من غير كأسكَ سُكَّرًا ورُضابا

وهذا الاشتغال الشعري على المعطى التاريخي ربما أفضى بالشاعر إلى الاشتغال الفكري على المعطى الاجتماعي، مازجًا بين قواسم نفسية مشتركة في الوعي الجمعي العربي، وملاحم شعرية مفترضة في العمل النوعي الأدبي.

همُّه الوحيد هو ألَّا يخذله بيت القصيد، فها هو يقول في قصيدة (إبراهيم):

عِنْدِي من الماءِ ما في الأرض من حطبِ

لا توقدُوا النار، إبراهيمُ كانَ أبِي

وهو هنا يحيل إحالتين متوازيتين، إحداهما إلى النبي إبراهيم عليه السّلام، وقصة إلقائه في النار، حيث كانت عليه بردًا وسلامًا، والثانية إلى أبيه، إذ إنَّ شاعرنا هو أنس بن إبراهيم الدغيم، فإبراهيم اسم أبيه أيضًا،  فمن النطاقات المعرفية في أعمال الدغيم: الدِّين واللغة والفلسفة، ومن الإحالات المرجعية: الملاحم والسِّير والتاريخ.

وإذن، نرى أنَّ شاعرنا يعودُ إلى ماضيه لينقذه من بشاعة حاضر قاسٍ مؤلم، وليبرّد على قلبه بجميل الشّعر.

يستنطق بطريقته كل جماد، ويمعن بخياله في كُلِّ وادٍ، فيخاطب ضمير الأُمّةِ حينًا قائلًا:

من لم يعش للقُدس عاش لقيصرٍ

هي قيصري كلٌّ يبايعُ قيصره

ويخاطب ملهمته حينًا، مذكّرًا لها بقلمه الرشيق وألمه العميق، قائلًا:

ولي قلمٌ أهشُّ به على ألمي

وكل مآربي يا ريمُ

بين البان والعلَمِ.

أو محذّرًا لها من ورطة الحب الزائف في زمن الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، مؤكِّدًا بالقول:

وما كان الهوى مِنِّي نِفاقًا

وحبُّ اليومِ أكثرهُ نفاقُ

ولا عجب في ذلك، فشاعرنا يعتبر أنَّ مقام شاعرٍ عظيم هو مقام يتناهى إلى جهة مقام رسولٍ كريم، فالكلمة مسؤولية، وعلى الشاعر البليغ مهمة التبليغ، كما هي على النبي المرسل؛ لذا لا يخالف شاعرنا الدغيم جماهيره إلى ما ينهاهم عنه، بل إنَّ الكلمة عنده هي بمثابة خط دفاع في الزمن الحاضر، والشعر من وجهة نظره هو رسالة إنسانية في زمن اللا إنسانية!!

 

المصدر: صفحة الشاعر على فيس بوك

المصدر: يمن مونيتور

كلمات دلالية: الشعر اليمن شاعر ا

إقرأ أيضاً:

تقرير اكاديمي يقول إن المغرب أصبح "حديقة الخضروات لأوروبا" على حساب موارده المائية

كشف تقرير حديث صادر عن « المعهد المغربي لتحليل السياسات » عن تأثير « رؤية كاليفورنيا »، وهي فكرة مستوحاة من مشاريع الري الواسعة في كاليفورنيا، على السياسات المائية والزراعية في المغرب.

وهذه الرؤية، بحسب التقرير، الذي يحمل عنوان « الانتقال المائي العادل للمغرب « ترسخت منذ عهد الحماية الفرنسية، شجعت على تحويل الصحراء المغربية إلى أراضٍ زراعية خصبة من خلال الزراعة المكثفة، مما جعل المغرب « حديقة الخضروات لأوروبا ».

وأوضح التقرير أن « رؤية كاليفورنيا » التي وصفها بالخيال، ترسخت منذ عهد الحماية الفرنسية، تدعم الاعتقاد بأن المغرب يمكنه بنفس الطريقة تحويل الصحراء إلى أراض زراعية خضراء من خلال الزراعة المكثفة. كانت هذه الرؤية متماشية مع السرديات الاستعمارية التي وصفت شمال إفريقيا كمنطقة زراعية غنية يجب إحياؤها وتحديثها.

أضاف التقرير، أنه في الوقت الحاضر يستمر هذا الإرث في التأثير على النهج المغربي الحديث في إدارة المياه والسياسات الزراعية الهيدروليكية، مع التركيز على الري واسع النطاق والسعي إلى التوسع الزراعي باعتباره جزءًا أساسيًا من التنمية الوطنية.

ونتيجة لذلك، أصبح المغرب « حديقة الخضروات لأوروبا، ففي عام 2022، بلغت صادرات قياسية للمنتجات الزراعية، حقق المغرب أرقامًا قياسية في صادراته الزراعية إلى السوق الأوروبية، حيث بلغ حجم صادرات البطيخ 271,000 طن عام 2022، ليصبح ثاني أكبر مورد للاتحاد الأوروبي بعد إسبانيا. كما تضاعفت صادرات التوت المجمد وارتفعت صادرات التوت الأزرق الطازج بشكل ملحوظ.

ومع ذلك، تشير الدراسة إلى أن هذه الصادرات تتركز بشكل كبير على المحاصيل التي تستهلك كميات هائلة من المياه، مما يتعارض مع نظرية « التجارة الافتراضية للمياه » التي توصي الدول التي تعاني من ندرة المياه باستيراد السلع كثيفة الاستهلاك المائي والتركيز على المحاصيل التي تستهلك كميات مياه أقل.

علاوة على ذلك، أشارت الدراسة إلى أن المؤشرات الاقتصادية تكافح لإخفاء الواقع الأساسي المتمثل في ندرة المياه الشديدة.

كلمات دلالية الصادرات المغرب المياه دراسة

مقالات مشابهة

  • بهجة الكلمات وإيقاع الفرح في ذاكرة الأجيال
  • ورطة منطقية والما عارفو يقول عدس
  • تقرير اكاديمي يقول إن المغرب أصبح "حديقة الخضروات لأوروبا" على حساب موارده المائية
  • ترامب يقول إنه “لا يمزح” حول الترشح لولاية ثالثة كرئيس
  • تأثير المضادات الحيوية على القدرات المعرفية
  • في مشهد مخالف لليمنيين.. المرجعية محمد عبدالعظيم الحوثي الإثنين أول أيام العيد وليس الأحد
  • ترامب يقول إنه واثق من ضم غرينلاند إلى أمريكا
  • "فضيحة سيغنال".. ترامب يقول كلمته بشأن الإقالات
  • وحيد شاوريه: شاعر فلسطين في المهجر وصوت النضال في تشيلي
  • لن يقول لك وداعا.. هل يقع الإنسان في حب الروبوت؟