عربي21:
2025-03-06@10:21:23 GMT

أسئلة غزة المحرمة

تاريخ النشر: 1st, July 2024 GMT

لم يسبق لغزة أن عاشت ما تعيش الآن، نحو تسعة أشهر انهار فيها كل شيء ليس على رؤوس أهلها فحسب، بل على رؤوس كل فرد في هذا العالم، من ينفعل بالحدث ومن ينأى بنفسه عنه. غزة تركت العالم في حالة عري غير مسبوق، عري من كل الأقنعة التي ارتداها المهرجون والقتلة ودعاة الأخلاق وحقوق الإنسان، حالة غير مسبوقة من ارتكاب جريمة جماعية مع عدد كامل من الشهود.



كتب لي صديق من بؤرة المكان يقول: "أتدري ماذا تعني الحياة دون مصدر رزق، ودون بيت، ودون محلات تجارية كانت تحت البيت، ودون سيارة، ودون ملابس ودون حذاء، ودون طعام؟ حين يكون لديك بنات في الجامعة وأولاد دون سن الرشد، وأحفاد من ابن شهيد، وكلهم يقول لك: هات، بدنا، اشتري لنا، أتدري ما لون الحياة في مثل هذه الحالة؟ أتدري أخي حلمي ماذا يعني الصباح، وكيف يعبر الليل؟ أتدري ماذا يعني أن تجد نفسك عاريا في هذه الدنيا، بعد أن كنت أميرا برزقك وصحتك وبيتك وعائلتك؟ هذا هو الوجه الآخر للحياة في غزة، والذي لا يمكن الحديث عنه إلا لمن هم ثقة، ومن هم جديرون بفهم الحالة الفلسطينية، الاحترام لك من موجوع ومفجوع حطت على رأسه الهموم والأحزان، ومع ذلك، لا يسمع الناس من حنجرتي إلا الصمود، والثقة، والأمل في المستقبل، شامخون مظهرا، ومرهقون محتوى"!

المعذرة صديقي، أستميحك عذرا في نشر بوحك الخاص على الملأ، مع أن شيئا مما قلت لم يعد سرا مكنونا في الصدور، بعد أن فضحته الصور والكاميرات والبث المباشر للجريمة. لم يعد في غزة ما يمكن ستره، ووسط هذا الحال الملتهب، تبرز الأسئلة المحرمة التي لا بد من طرحها، وأولها وأقساها وأكثرها إيلاما: هل من حق المقاومة أن تجر على غزة وأهلها كل ما يعانونه اليوم، وبإمكانها منذ الغد، بل اليوم، بل الآن؛ أن تطفئ النار التي تحرق قلوب الكبار والصغار، وتنهي الحرب؟ كم أحد منا دار في خلده هذا السؤال؟ كم تمنينا أن تتم "صفقة" تبادل الأسرى (بأي ثمن!) بعضنا يحسب أن غزة وأهلها طراز من البشر لا يتعب، وأنهم "مستمتعون" بالموت اليومي والتشريد والهرب والنزوح من مكان إلى آخر ليس أقل أمنافقط أن تعيش غزة ولو قليلا (أياما أو حتى ساعات!) بلا موت؟ ألم تكن مختبئة في كلمات الصديق المكلوم الذي يعيش (بل يموت حيا!) وسط أتون الحرب، "شامخون مظهرا، ومرهقون محتوى"، عبارة تختصر كل ما يجري؟!

بعضنا يحسب أن غزة وأهلها طراز من البشر لا يتعب، وأنهم "مستمتعون" بالموت اليومي والتشريد والهرب والنزوح من مكان إلى آخر ليس أقل أمنا. ماذا عن الفقد اليومي، وصلاة الجنازة التي غدت طقسا يفوق في تكرارها الصلوات الخمس؟ ماذا عن رؤية الأحبة أبناء وبنات وإخوة ووالدين مقطعي الأوصال، أو متفحمين حرقا، أو أشلاء يجمعون في كيس؟ ماذا عن النوم على أزيز الطائرات وقصف المدافع والصحو على جدران تنهار وسقوف تدفن تحت أنقاضها الأحلام والآمال والحياة كلها؟ هل من حق الغزي أن يقول: "أخ" تعبت، كفى؟ هل من حقه أن يصرخ بملء فمه الذي نسي مذاق الطعام الهنيء: أوقفوا الحرب بكل ما أوتيتم من "استسلام"؟ هل من حقه أن يقول لمقاومته: استسلموا، فلم نعد مستعدين لمزيد من التضحية؟ هل يجرؤ على أن يقول: ألقوا سلاحكم، فلم يعد لدينا متسع لموت إضافي؟

أهي أسئلة محرمة فعلا، بل هي مشروعة فعلا؟ أم أن هذا السؤال هو نفسه من ضمن الأسئلة المحرمة؟

أظن أن هناك في غزة تحديدا من يطرح مثل هذه الأسئلة، ولكننا لا نريد أن نسمعها، ولا نريد أن نتخيل أن هناك من يطرحها أصلا، فنحن المراقبون لما يجري نعيش حياتنا بكل ضجرها وروتينها، نذهب إلى الحمام في الوقت الذي نريد ونقضي حاجتنا بغير اهتمام، في الوقت الذي لا يجد الآلاف هناك من يقضون هذه الحاجة مكانا آمنا لقضائها، نشرب قهوتنا الصباحية باستمتاع، وآلاف يستيقظون على صوت القصف، فيلملمون من وما يستطيعون لملمته بحثا عن نزوح جديد!

هي أسئلة محرمة، ولكنها مشروعة، وقاسية وحقيقية، لا نريد أن نسمعها أو حتى أن نفكر فيها، وإن كان هناك من يبحث عنها ويجتهد في إذاعتها ونشرها، عشرة أشهر مضت من "انتصار" مكلف جدا، ودام جدا، وكارثي جدا، نتغنى بها ونتيه فخرا، ونقولها بملء الفم: غزة رفعت رؤوسنا، ولكن ماذا عن رؤوس أهل غزة، من مات منهم تحت الأنقاض ومن ينتظر دوره في الحرق أو بتر أحد أعضائه، أو الموت جوعا أو مرضا أو قهرا؟ أسئلة محرمة، ولكنها مشروعة، وقاسية وحقيقية، لا نريد أن نسمعها أو حتى أن نفكر فيها، وإن كان هناك من يبحث عنها ويجتهد في إذاعتها ونشرها، عشرة أشهر مضت من "انتصار" مكلف جدا، ودام جدا، وكارثي جدا، نتغنى بها ونتيه فخرا، ونقولها بملء الفم: غزة رفعت رؤوسنا، ولكن ماذا عن رؤوس أهل غزةماذا عن الأسرى الذين جمعهم الاحتلال من طرقات ومشافي وبيوت غزة، ويذيقهم ألوانا من التعذيب الهمجي، والتجويع، والإهانة التي تصل حد هتك العرض على رؤوس الأشهاد؟ هل يتمنى هؤلاء استمرار الحرب مثلا "حتى تحقيق النصر الكامل"؟!

وهنا تحديدا، أمام كلمة "النصر"، بوسعنا أن نقول بملء الفم أن غزة انتصرت انتصارا مبهرا، ولم تزل تنتصر، ولكنه نصر مخيف، نصر جر رغبة مجنونة بإيقاع العقاب على كل ما في غزة من حجر وشجر وبشر لأنها انتصرت! غزة -في عرف المعتدي ومن يحمي ظهره ويمده بالصمود والأغذية والسلاح- انتصرت فعلا، ولهذا تجب معاقبتها عقابا مرا والتنكيل بها حتى لا يفكر أحد بعدها ولو مجرد تفكير بأن ينتصر، فالانتصار محظور على العربي والمسلم والغزي والفلسطيني، وأي انتصار كذاك الذي اجترحته غزة هو جريمة يستحق مرتكبه عقابا جهنميا كالذي تعيشه غزة اليوم، ويجر كل تلك الأسئلة المحرمة!

هي أسئلة محرمة فعلا، ولكن السؤال الأكثر إلحاحا: ألا يستحق النصر كل تلك المعاناة والعذاب؟ من يمنحك نصرا على طبق من راحة ودعة؟ ألم يكرم الله غزة بأن اصطفاها من بين خلقه لتكون "المخلص" من عسف محتل مغرور ومتعجرف، مرغت أنفه بالتراب، وجعلته مسخرة منبوذا كالكلب الأجرب بين الأمم؟

كلها أسئلة، ومن المشروع طرحها، وخاصة حين يتعلق الأمر بمعركة لا تحدد مصير فلسطين وغزة فقط، بل ربما بمصائر كثيرين في هذا العالم.  

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة المقاومة الاحتلال النصر المعاناة غزة الاحتلال النصر المقاومة معاناة مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة لا نرید أن ماذا عن هناک من فی غزة

إقرأ أيضاً:

الدور المصري الذي لا غنى عنه

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

كعادتها، لا تحتاج مصر إلى أن ترفع صوتها أو تستعرض قوتها، فهي تمارس نفوذها بصمت، ولكن بفعالية لا تخطئها عين. الدور المصري في تسليم الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة حماس لم يكن مجرد "وساطة"، بل كان بمثابة العمود الفقري لعملية التبادل بين الجانبين. القاهرة لم تكن مجرد ممر آمن للرهائن المفرج عنهم، بل كانت الضامن الأساسي لتنفيذ الاتفاق، بما تمتلكه من ثقل سياسي وعلاقات متشابكة مع كل الأطراف المعنية.

بحسب المعلومات، فإن الاتفاق تضمن تسليم قوائم الرهائن الإسرائيليين عبر الوسطاء، وعلى رأسهم الجانب المصري، الذي تكفل بنقلهم إلى الأراضي المصرية، حيث تسلمهم الصليب الأحمر الدولي قبل عبورهم إلى إسرائيل عبر معبر العوجا. وهذا السيناريو ليس جديدًا، بل هو امتداد لدور مصري تاريخي في هذا الملف، فلطالما كانت القاهرة لاعبًا لا يمكن تجاوزه في أي مفاوضات تتعلق بقطاع غزة.

ما يلفت الانتباه أن العلم المصري كان حاضرًا في مراسم التسليم في خان يونس، وهو ليس مجرد تفصيل بروتوكولي، بل رسالة واضحة بأن مصر هي ركيزة الاستقرار في المنطقة، وصاحبة اليد الطولى في هندسة التوازنات الدقيقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

لكن رغم هذه الجهود، تظل الأوضاع متوترة على الأرض.. إسرائيل، كعادتها، تتعامل بمنطق القوة، مهددةً باستئناف العمليات العسكرية إذا لم تلتزم حماس بشروط التهدئة، فيما تشترط الأخيرة إدخال شاحنات المساعدات إلى شمال القطاع قبل الإفراج عن دفعات جديدة من الرهائن. وفي هذه المعادلة المعقدة، تتواصل جهود مصر وقطر لمنع انهيار الهدنة، وسط مراوغات إسرائيلية وابتزاز سياسي واضح.

القاهرة، التي تقود المشهد بهدوء، قدمت رؤية متكاملة للخروج من الأزمة، تبدأ بوقف إطلاق النار، مرورًا بتبادل الأسرى والرهائن، وانتهاءً بفتح ملف إعادة الإعمار. هذه المفاوضات الشاقة امتدت لأكثر من 15 شهرًا، وأسفرت في النهاية عن هذا الاتفاق.

وفيما تواصل إسرائيل محاولاتها للتمسك بمحور فيلادلفيا (صلاح الدين) حتى نهاية العام، تزداد المخاوف من أن تكون هذه مجرد خطوة ضمن مخطط أوسع للسيطرة على القطاع بالكامل. كل هذا يجري وسط تصعيد خطير في الضفة الغربية، حيث تسير إسرائيل على خطى ممنهجة لتعزيز احتلالها، غير عابئة بأي جهود دولية لإحلال السلام.

وسط هذا المشهد المعقد، يترقب الجميع القمة العربية الطارئة التى تُعقد اليوم بالقاهرة، فى انتظار الإعلان عن موقف عربي موحد وحاسم. أما الولايات المتحدة، فتمارس ازدواجية معتادة، حيث يتحدث ترامب عن أن قرار وقف إطلاق النار "شأن إسرائيلي"، وكأن الفلسطينيين ليسوا جزءًا من المعادلة!

ما هو واضح أن الأمور تتجه نحو مزيد من التعقيد، فالإسرائيليون لا يزالون يتعاملون بعقلية القوة الغاشمة، والفلسطينيون يدفعون الثمن، فيما يعمل العرب، وعلى رأسهم مصر، على أن يحافظوا على الحد الأدنى من الاستقرار وسط بحر هائج من الصراعات والمصالح المتضاربة. لكن إلى متى سيستمر هذا الوضع؟ هذا هو السؤال الذي لا يملك أحد الإجابة عليه حتى الآن فى ظل الدعم الأمريكى غير المحدود للعنجهية الإسرائيلية!

مقالات مشابهة

  • نيوزويك: الحوثيون يعتبرون وصم أميركا لهم بالإرهاب وسام شرف
  • بنفيكا مع برشلونة.. ماذا يقول التاريخ عن «المواجهة الكلاسيكية» في «أبطال أوروبا»؟
  • رئيس مجلس محافظة نينوى المقال يقول إن جلسة استجوابه باطلة قانونيا
  • أسئلة وأجوبة عن يوم المرأة العالمي
  • عمدة سبتة يقول إن الشاحنات المغربية التي مرت بالجمارك التجارية تحمل أختاما "تشير إلى أن مدينته "جزء من إسبانيا"!
  • دعاء اليوم الرابع من رمضان مستجاب.. ماذا كان يقول النبي؟
  • موعد بدء امتحانات الثانوية العامة 2025
  • موائد الأئمة الكبار.. «الإمام الأول» عندما يقول المصريون «يا خراشي» يطلبون عون شيخ الأزهر!
  • بالمصرى أسئلة بديهية بمناسبة الشهر الكريم
  • الدور المصري الذي لا غنى عنه