لا تبدو صورة فرنسا اليوم واضحة، بل تعبر عن حالة بلد تتناسل الأسئلة بشأن حاضره، ومعالم مستقبله، والحقيقة أن الصورة الرمادية، المخيفة والمقلقة لفرنسا، شرعت في التكون منذ السنوات الأولى من ولاية ماكرون الأولى، حين اخترقت موجة عارمة من التصدع والاحتجاج نسيج المجتمع، قادتها حركة أصحاب "السترات الصفراء"، ومن انتصر لمطالبهم من المواطنين، واستمرت، وإن بإيقاع أقل مع انتشار وباء كورونا، وما خلف من آثار اجتماعية ونفسية واقتصادية ومالية.
تُجمع الكثير من الأدبيات والتحليلات على تراجع الخطاب السياسي في فرنسا، وتقهقر صورة النخب السياسية المتنافسة، وانتهاء زمن الشخصيات السياسية المؤثرة في تطور البلاد، لعل آخرها الرئيس جاك شيراك، الذي انتخب لولايتين متعاقبتين. وموازاة لهذا المنحى التقهقري في تطور الحياة السياسية الفرنسية، ثمة تصاعد متزايد لليمين المتطرف، مجسدا في حزب "التجمع الوطني"، الذي قاده الرئيس المؤسس "جان ماري لوبين" منذ العام 1972 وحتى 2011، قبل أن تتسلمه ابنته "مارين" ما بين 2011 و2021، وليتولى قيادته " جوردان بارديلا" (Jordan Bardella) منذ أيلول/ سبتمبر 2021.
تُجمع الكثير من الأدبيات والتحليلات على تراجع الخطاب السياسي في فرنسا، وتقهقر صورة النخب السياسية المتنافسة، وانتهاء زمن الشخصيات السياسية المؤثرة في تطور البلاد، لعل آخرها الرئيس جاك شيراك، الذي انتخب لولايتين متعاقبتين. وموازاة لهذا المنحى التقهقري في تطور الحياة السياسية الفرنسية، ثمة تصاعد متزايد لليمين المتطرف،
فخلال هذه المسيرة الطويلة للتجمع (52 سنة)، ظل اليمين المتطرف وأنصاره يطورون استراتيجيات عملهم، ويسعون إلى توسيع قاعدتهم الاجتماعية، ويزحفون على المكاسب الانتخابية والمنافع السياسية، وقد ألزموا الطبقة السياسية الفرنسية في أكثر من استحقاق انتخابي رئاسي على التكاتف والتعاضد من أجل الوقوف أمام زحفه المتزايد، كان آخر فصولها الاقتراع الرئاسي عام 2022، حين نافست مارين لوبين الرئيس ماكرون في الجولة الثانية، وفازت بقرابة 42 في المائة من أصوات الفرنسيين.
أذهلت نتائج الانتخابات الأوروبية الأخيرة (6-9 حزيران/ يونيو 2024)، أوروبا والعالم، وصدمت الفرنسيين، حين فاز اليمين المتطرف بـ31.5 في المائة من الأصوات، متقدما على كل الأحزاب السياسية الفرنسية المنافسة له، وبسبب عمق الصدمة الناجمة عن هذا الفوز، بادر الرئيس ماكرون إلى إعمال حقه الدستوري في حل البرلمان، والدعوة إلى تنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، يومي 30 حزيران/ يونيو و7 تموز/ يوليو 2024.
ربما كان اعتقاد الرئيس أن حل البرلمان سيدفع بالفرنسيين إلى التكتل من جديد والظفر بنتائج تمكنهم من إيقاف زحف اليمين المتطرف، على شاكلة ما وقع في الاقتراع الرئاسي لعام 2022، والحال أن اللحظتين السياسيتين مختلفتان في الطبيعة والسياق. لذلك، كان ردود فعل الطبقة السياسية، حتى من داخل الأغلبية الرئاسية، منتقدة لقرار الرئيس بحل البرلمان، واللجوء إلى تنظيم انتخابات تشريعية قبل الأوان، بل إن آراء وازنة من قبل سياسيين فرنسيين اعتبروا الرئيس مسؤولا عن حالة الشك وعدم اليقين التي تعيشها فرنسا اليوم، والتي لا تظهر بما يكفي من الوضوح إلى ما ستؤول إليه الحياة السياسية الفرنسية في أعقاب الإعلان عن نتائج الاقتراع التشريعي بدورتيه.
ومما أثار الشعور بالقلق وعدم اليقين لدي فئات واسعة من الفرنسيين، وزاد من تخوفهم من فوز اليمين المتطرف، أي حزب التجمع الوطني، انقسام الأحزاب التي لها مصلحة في إيقاع هزيمة بهذا الأخير، والمقصود هنا تحديدا أحزاب اليسار بكل أطيافها وحزب الأغلبية الرئاسية الحاكمة. فالكل ينتقد تصاعد قوة اليمين المتطرف، والكل لا يمتلك الإرادة الصادقة لبناء تحالف واسع لإيقاف زحف حزب التجمع الوطني، مما أثار الشعور بالقلق وعدم اليقين لدي فئات واسعة من الفرنسيين، وزاد من تخوفهم من فوز اليمين المتطرف، أي حزب التجمع الوطني، انقسام الأحزاب التي لها مصلحة في إيقاع هزيمة بهذا الأخير، والمقصود هنا تحديدا أحزاب اليسار بكل أطيافها وحزب الأغلبية الرئاسية الحاكمة. فالكل ينتقد تصاعد قوة اليمين المتطرف، والكل لا يمتلك الإرادة الصادقة لبناء تحالف واسع لإيقاف زحف حزب التجمع الوطنيوالخوف كل الخوف أن يُفضي هذا الانقسام وضعف إرادة البناء المشترك إلى تعزيز صفوف اليمين المتطرف، وتمكينه من الفوز بالأغلبية المطلقة في البرلمان المقبل، المكون من 925 عضوا، 348 في مجلس الشيوخ و577 في الجمعية الوطنية، والحال أن الأغلبية المطلقة المطلوبة في هذه الأخيرة هي 290 عضوا في الجمعية الوطنية.
فلو افترضنا انتصار اليمين المتطرف، أي حزب التجمع الوطني، وفوزه بالأغلبية المطلقة، فستجد فرنسا نفسها أمام وضعية شديدة التعقيد والخطورة، لأن الحزب الفائز سيكون الوزير الأول من داخله بحسب أحكام الدستور، وإلى جانب رئيس دولة لم تنته ولايته بعد، وبرلمان بمثابة رداء الأغلبية لحماية الوزير الأول والحكومة، ويمتلك أعضاؤه قدرة المبادرة التشريعية، كما هو حال وزرائه، وفي الآن معا هناك رئيس دولة يضمن له دستور الجمهورية الخامسة (4 تشرين الأول/ أكتوبر 1958)، الكثير من الصلاحيات تجاه الحكومة والبرلمان معا.. فكيف ستدار فرنسا إذن في حال تحقق هذا المشهد أو السيناريو؟
لم يرد في خلد ولا تفكير واضعي دستور الجمهورية الخامسة حدوث مثل هذه الوضعيات، ولا في كيفية إدارتها، لكنها حصلت أكثر من مرة في عهد كل من فرانسوا ميتران، وجاك شيراك، فاجتهد الفقه الدستوري والقانوني في إبداع فكر "التعايش" (cohabitation)، من أجل ضمان تدبير شؤون البلاد. وهي حالة مألوفة في نظم دستورية وسياسية كثيرة، منها النظام الفيدرالي الأمريكي. ومع ذلك، لن يكون التعايش في فرنسا هذه المرة سهلا ولا ميسرا، لأن اليمين المتطرف يروم إحداث تغيير جذري في أسس العيش المشترك المألوف في فرنسا، لا سيما في أربع قضايا مفصلية، هي: الهوية والانتماء إلى الأرض (droit au sol)، والهجرة والمهاجرون، والإسلام والمسلمون، والحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا وموقف فرنسا منها.. إنها القضايا التي ستقصم ظهر فرنسا وربما تفتحها على المجهول.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه فرنسا ماكرون اليمين المتطرف الانتخابات الأحزاب فرنسا انتخابات أحزاب اليمين المتطرف ماكرون مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة السیاسیة الفرنسیة حزب التجمع الوطنی الیمین المتطرف فی فرنسا فی تطور
إقرأ أيضاً:
بوتين يهدد بـالإجراء المتطرف.. ما هي العقيدة النووية الروسية؟
صعد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من تهديداته النووية، معلنا الثلاثاء توسيع نطاق القوة النووية لتشمل دولا لا تمتلك قدرات نووية، في ما يعد تغييرا على عقيدة موسكو النووية.
وجاء التهديد الروسي عقب قرار الرئيس الأميركي جو بايدن السماح لأوكرانيا باستخدام صواريخ أميركية لاستهداف مواقع داخل روسيا.
فما هي العقيدة النووية الروسية؟ وكيف تغيرت خلال السنوات القلية الماضية خلال الحرب مع أوكرانيا؟
تهديدات متكررةكان بوتين قد أصدر مرسوما الثلاثاء يجيز استخدام أسلحة نووية ضد دولة لا تملك هذا النوع من السلاح إذا كانت مدعومة من قوى نووية.
وأفاد المرسوم بأن "من الشروط التي تبرر استخدام أسلحة نووية إطلاق صواريخ بالستية ضد روسيا".
وتزامنت هذه الخطوة مع مرور ألف يوم على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، وبعدما أعطت الولايات المتحدة موافقة لكييف لاستخدام صواريخ طويلة المدى لضرب أهداف عسكرية داخل روسيا.
ومنذ الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، هدد بوتين ومسؤولون آخرون في الكرملين الغرب مرارا بترسانة روسيا النووية.، وفي اليوم الأول من الحرب، قال بوتين "كل من يحاول إعاقتنا، ناهيك عن تهديد بلدنا وشعبه، يجب أن يعرف أن الرد الروسي سيكون فوريا وسيؤدي إلى عواقب لم يشهدها في التاريخ من قبل".
وعاد الكرملين ليقول، في سبتمبر، إن روسيا أعدت تعديلات على عقيدتها النووية.
والعقيدة معروفة رسميا باسم "المبادئ الأساسية لسياسة الدولة بشأن الردع النووي"، والتي وقع عليها بوتين في عام 2020، وهي تحدد متى يمكن لروسيا أن تلجأ لترسانتها من هذا النوع.
وتصف العقيدة الأسلحة النووية بأنها "وسيلة للردع"، مشيرة إلى أن استخدامها "إجراء متطرف واضطراري". وتقول إن روسيا "تبذل كل الجهود اللازمة للحد من التهديد النووي ومنع تفاقم الخلافات بين الدول، التي قد تؤدي إلى نشوب صراعات عسكرية، بما في ذلك الصراعات النووية".
وتنص على أن "الردع النووي يهدف إلى توفير الفهم للخصم المحتمل لحتمية الانتقام في حالة العدوان على الاتحاد الروسي و/أو حلفائه".
وتنص العقيدة على استخدام روسيا أسلحة نووية "في حالة وقوع هجوم نووي من قبل عدو أو هجوم بأسلحة تقليدية يهدد وجود الدولة".
روسيا وتعديل العقيدة النووية.. ما وراء الإعلان "الأكثر حسما"؟ ما هي "العقيدة النووية الروسية؟، وماذا يعني تعديلها؟"، تساؤلات صاحبت إعلان موسكو نيتها إدخال تعديلات على تلك العقيدة في ظل الحرب بأوكرانيا، ونجاح القوات الأوكرانية في السيطرة على مناطق من الأراضي الروسية.وتقول العقيدة إن الأسلحة النووية يمكن استخدامها في المواقف المحددة التالية:
- إذا وردت معلومات موثوقة عن إطلاق صواريخ باليستية تستهدف أراضي روسيا أو حلفائها.
- إذا تم استخدام الأسلحة النووية أو غيرها من أسلحة الدمار الشامل ضد روسيا أو حلفائها.
- إذا هدد هجوم عدو بأسلحة تقليدية وجود روسيا.
- إذا كانت هناك هجمات على منشآت حكومية أو عسكرية روسية بالغة الأهمية من شأنها أن تقوض قدرة البلاد على شن ضربات نووية انتقامية.
دواعي الرد النوويعندما سئل في يونيو الماضي هذا السؤال، أشار بوتين إلى ما يسمى بـ"العقيدة النووية الروسية. انظروا إلى ما هو مكتوب هناك". وقال في منتدى سانت بطرسبرغ "إذا هددت تصرفات أي شخص سيادتنا وسلامة أراضينا، فإننا نعتبر أنه من الممكن استخدام كل الوسائل المتاحة لنا".
وفي تصريحات سابقة لموقع الحرة، قال الخبير الاستراتيجي الروسي، أندريه مورتازين، إن العقيدة النووية الروسية تنص على استخدام السلاح النووي في حالتين.
والحالة الأولى هي تعرض روسيا لـ"هجوم نووي"، ما يستدعي "الرد الجوابي"، والحالة الثانية تعرض كيان الدولة الروسية لـ"خطر وجودي". ولا يوجد "تفسير محدد" لمعنى تعرض الدولة لـ"خطر وجودي"، ولا يتم تحديد ماهية تلك التهديدات الوجودية، حسب الخبير.
وأشار الخبير العسكري والاستراتيجي، العميد ركن أحمد رحال، إلى 4 أسباب قد تدفع روسيا لاستخدام السلاح النووي وفق العقيدة الروسية. وتتعلق تلك الحالات بتهديد كيان الدولة حتى لو باستخدام "أسلحة تقليدية"، وإذا تم توجيه ضربات باستخدام "صواريخ باليستية"، أو التعرض لضربات نووية "مباشرة"، أو التعرض لمخاطر "السلاح الكيماوي والبيولوجي"، وفق حديثه لموقع "الحرة".
وهناك تسع دول فقط حول العالم تمتلك أسلحة نووية وهي "روسيا، الولايات المتحدة، فرنسا، الصين، بريطانيا، الهند، باكستان، وكوريا الشمالية"، فضلا عن إسرائيل التي "لم تؤكد ولم تنف أبدا" حيازتها السلاح النووي.
وتمتلك روسيا أكبر مخزون من الأسلحة النووية في العالم بما لديها من نحو 6000 رأس حربي.