معاناة السودان وأهله لا تنتهي منذ سقوط حكومة جعفر نميري في 1985. فمنذ انفصال جنوبه عن شماله، كان هناك توقع بأن يكون التقسيم نهاية لحقبة من التوتر وأنّ ما تبقّى منه سوف يتعلم الدرس القاسي ويبتعد عن الخلافات التي قد تؤدي إلى تقسيم آخر. تصاعد هذا الأمل بعد أن تراجعت حدّة التوتر في إقليم دارفور، وشارك بعض أفراد ذلك الإقليم في الحكومة المركزية.
وها هو السودان اليوم يدفع ثمن ذلك الصراع بين الجنرال عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو المعروف باسم حميدتي وبأشكال شتى. فالحرب بينهما امتدت إلى أقاليم عديدة منذ أن اندلعت في العاصمة، نجم عن ذلك أزمتان كبريان: مجاعة شرسة ونزوح غير مسبوق. ومن المؤكد أن هناك أيادي خارجية تعبث بالسودان الآن كما عبثت سابقا، هناك سباق مع الزمن لمنع هذا البلد العربي الأفريقي من ممارسة دور يتناسب مع حجمه وإمكاناته وثرواته. فقوات الدعم السريع التي يقودها حميدتي مدعومة من أطراف خارجية بالمال والسلاح وهي التي بدأت النزاع داخل العاصمة ومنها امتدت إلى المناطق الأخرى. في هذا الخضم بدأ أهل السودان يدفعون فواتير تلك الحروب وحرموا من التمتع بحياة آمنة واستقرار سياسي وازدهار اقتصادي مدعوم بالثروة النفطية التي اكتشفت متأخرة. وفقا لما هو متوفر من معلومات فإن هناك ما يقرب من مليون شخص يعانون من المجاعة، وأكثر منهم مهددون بها. وتقول الإحصاءات أن نصف سكان البلاد أصبحوا بحاجة للعون الإنساني. فكيف يمكن لهذا البلد الذي بإمكانه أن يوفر الطعام لكل الدول العربية مجتمعة فيما لو اتخذ قرار عربي بذلك، أن تشح موارده الغذائية حتى توصل شعبه إلى درجة المجاعة. أليس هو البلد الذي يحظى بمياه من نهرين كبيرين، النيل الأبيض والنيل الأزرق، اللذين يلتقيان عند العاصمة لينجم عنهما نهر النيل الذي يصل إلى مصر قبل أن يصب في البحر المتوسط؟ أليس هو البلد الغني بالغابات الاستوائية ذات الموارد الزراعية والثروة الحيوانية؟ أليس هو الذي يصدّر المواشي للسعودية وبلدان الخليج والأردن تعود عليه بمليارات الدولارات؟
في الأسبوع الماضي كشف تقرير صادر عن «التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي» عن أن نحو 755 ألفا في السودان يواجهون وضعا كارثيا هو أحد أسوأ مستويات الجوع الشديد. بينما يعاني نصف السكان نقصا في الغذاء قد يسفر عن سوء تغذية حاد ووفاة أو يتطلب استراتيجيات تعامل طارئة. هذه المنظمة مظلّة لتعاون مشترك بين عدة جهات تشمل وكالات في الأمم المتحدة وحكومات وجماعات إغاثة وتصدر عنها تقييمات معترف بها دوليا بشأن أزمات الغذاء. ودفعت أزمة الجوع، التي قال برنامج الأغذية العالمي مؤخرا إنها الأسوأ في العالم، بعض السودانيين إلى أكل أوراق الشجر والتراب. وشمل تقرير لرويترز الأسبوع الماضي تحليلا لصور التقطت بالأقمار الصناعية أظهرت أن وتيرة اتساع مناطق المقابر ترتفع بسرعة مع انتشار المجاعة والمرض. هذا الوضع الغذائي المضطرب بالإضافة لاستمرار النزاع المسلح الذي يدفع المدنيون ثمنه بأرواحهم دفع الملايين للنزوح من مواطنهم بحثا عن الأمن والغذاء. وهناك الآن نازح واحد من بين كل ثمانية نازحين (داخل بلدانهم) في العالم، أي ما يتجاوز 12 بالمائة من مجموع النازحين في العالم. وتقول الأرقام أن أكثر من 12 مليون من السكان اضطروا للنزوح. وما يزال الصراع المسلح يدفع الملايين من السودانيين إلى الفرار إلى المناطق الريفية ما يعمق الأزمة ويزيد حدة النقص في الأمن الغذائي. ومن المناطق المهددة بالمجاعة جزيرة توتي على نهر النيل وحي مايو الذي تسكنه الطبقة العاملة في الخرطوم، ومدني، وهي مركز تجاري وعاصمة ولاية الجزيرة، ومدينة الفاشر المحاصرة في ولاية شمال دارفور. كما تشمل مخيمات النازحين واللاجئين حول نيالا عاصمة جنوب دارفور، وفي غرب دارفور وجنوب كردفان. الحرب التي انطلقت شرارتها في العاصمة الخرطوم يوم 15 أبريل/نيسان 2023، لم تلبث أن تمددت إلى 4 من ولايات دارفور الخمس، ثم إلى ولايات كردفان والجزيرة المتاخمة وسنار، كما لم تسلم حدود ولاية القضارف الواقعة شرق السودان والمتاخمة لولاية الجزيرة من معارك متفرقة بين الجيش وقوات الدعم السريع. تقول مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إن الدول المجاورة للسودان تعيش أيضا واحدة من أضخم الأزمات الإنسانية وأزمات اللجوء وأكثرها تعقيدا على مستوى العالم. تقارير الأمم المتحدة من جانبها تؤكد أن نحو 25 مليون شخص في السودان بحاجة ماسة إلى المساعدة الإنسانية العاجلة، من بين هؤلاء نحو 14 مليون طفل يعانون من نقص حاد في الأمن الغذائي وأن نحو 37 في المائة من السكان في البلاد، أي حوالي 17.7 مليون شخص، يعانون من الجوع الحاد.
فما أسباب تفجر الأزمة؟ ولماذا عجز حكماء البلاد عن احتوائها؟ وكيف سمحوا لها بأن تأتي على الأخضر واليابس؟ هذه التساؤلات لا تحظى بإجابات شافية، لأن أحدا لا يدرك آليات الصراع ومسبّبيه بعد ان استُبدل العقل والمنطق والحوار بالسلاح. ويزيد من صعوبة الوضع جنوح أطراف النزاع للتصعيد من جهة والتشدد في المواقف من جهة ثانية وتكثيف العنف ثالثا. وبرغم الانزعاج العالمي إزاء هذه الممارسات لم تُطرح مبادرات دولية جادّة لاحتواء الوضع برغم سعة التغطية الإعلامية لما يحدث من مجاعة وتوتر سياسي وأمني ومواجهات دموية واسعة. وقد أكد مسؤول الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، أن ممارسات الأطراف في الحرب السودانية تشمل التطهير العرقي والقصف العشوائي والعنف الجنسي والاتجار بالبشر والاحتجاز التعسفي والتجنيد القسري والنهب. وأغلب هذه الممارسات تصنّف ضمن «الجرائم ضد الإنسانية» ولكن الفرقاء يعلمون أن المجتمع الدولي ليس جادا في تطبيق القوانين الدولية التي تحكم الحرب. في الأسبوع الماضي اتخذ الاتحاد الأوروبي خطوة ذات دلالات محدودة، بفرض عقوبات على ست شخصيات سودانية تمتلك قدرات سياسية وعسكرية ومالية، والسؤال هنا: ما مدى تأثير ذلك الإعلان على مسار الحرب؟ المتفائلون يرون أنها ستردع قادة الطرفين عن التمادي في استخدام القوة، وقد تدفعهم للبحث الجاد عن مسارات لإنهاء الأزمة. بينما يرى آخرون أن النزاع اتخذ أبعادا خطيرة لا تسمح بتراجع أطرافه عن مواقفهم وسياساتهم. وبذلك يتوقع هؤلاء استمرار الأزمة فترة اطول. فإن حدث ذلك فمن المرجّح بروز المجاعة التي تحذر منها وكالات الإغاثة على نطاق أوسع، وسوف يكون حل الأزمة أنذاك عصيًّا.
السودان بلد كبير مترامي الأطراف ومتعدد الأعراق، ويستطيع التعايش مع أوضاعه الحالية وما ينجم عنها من انتهاكات إنسانية وتداعيات سياسية بشرط أن تكون هناك إرادة حقيقية للحل لدى السياسيين وأن يغلّبوا مصلحة الوطن على المصالح الشخصية والفئوية. فما يعانيه المواطنون يمثل عارًا على «أمراء الحرب» الذين يحمّلون المواطنين تبعات صراعاتهم الناجمة عن التسابق على الحكم.
أما اقتصاد السودان فقد تفاقمت مشاكله بعد سنة من الحرب بالنظر إلى التضخم، وتدهور القوة الشرائية للسودانيين، وهروب رؤوس الأموال الوطنية والأجنبية، وفقدت العملة السودانية أكثر من نصف قيمتها الشرائية، وتراجع الاحتياطي الدولي النقدي للبلاد، ومؤشرات أخرى. وعلى الصعيد العسكري غاب الحسم وتوسعت المواجهات ومعها الضحايا والاضطراب الأمني والغذائي والمجاعة. فبعد عام من القتال العبثي الذي أدى لمقتل أكثر من 15 ألفا، أصبح واضحا استحالة الحسم العسكري وتوسع نطاق المواجهات بين الجيش وقوات الدعم السريع، وتضاعف عدد النازحين واللاجئين وساءت الأوضاع الإنسانية والاقتصادية.
مطلوب ممن يهمهم أمر السودان كبلد عربي أو مسلم أو أفريقي المبادرة لإنهاء الحرب المدمّرة لإنقاذ ما تبقى من البلد، وقطع الطريق على نزعات العنف والانفصال. إنها مسؤولية إنسانية ملحّة تتطلب الاهتمام العاجل قبل فوات الأوان، وقبل أن تصل الأوضاع إلى الهاوية التي يسقط فيها السودان وشعبه.
(القدس العربي)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه السودان الدعم السريع الحرب السودان حرب الدعم السريع سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
موسم التشرذم السياسي في السودان
موسم التشرذم السياسي في السودان
فيصل محمد صالح
تعاني الأحزاب والتيارات السياسية في السودان من حالة تشرذم عامة منذ زمن طويل، لكن وصلت هذه الحالة الآن إلى حدها الأقصى، حتى لم يبقَ حزب على حاله، وتمزقت بعض الأحزاب والكتل إلى مجموعات صغيرة يصعب تجميعها، ثم ساهمت الحرب الدائرة منذ ما يقرب من عامين في زيادة حدة التمزق وتوسيع مداه، وذلك بسبب اختلاف المواقف التي، في كثير من الأحيان، لا تتم على أساس القراءات والتحليلات السياسية المختلفة، ولكن على أسس جهوية وعرقية واجتماعية.
آخر هذه الانشقاقات التي خرجت للعلن كان في حزب الأمة القومي الذي قررت بعض أجهزته عزل رئيس الحزب المكلف فضل الله برمة ناصر، في حين قام الرئيس من جانبه بحل الأجهزة التي أعلنت عزله، وانقسم الحزب إلى ثلاث مجموعات تتصارع حول الشرعية. مسببات الانشقاق عديدة، كان أحدها الصراع داخل أسرة زعيم الحزب الراحل الإمام الصادق المهدي حول خلافته، ثم انتقل الصراع لمرحلة جديدة بسبب الحرب؛ إذ تباينت المواقف بين قيادات الحزب، ثم تفجر الصراع بعد توقيع رئيس الحزب على التحالف مع «قوات الدعم السريع» والقوى السياسية والحركات المسلحة التي اجتمعت في نيروبي وكوّنت «تحالف تأسيس»، والذي أعلن نيته تكوين حكومة لتنازع حكومة الفريق البرهان حول الشرعية.
هذه الحال تنطبق تقريباً على معظم الأحزاب السياسية السودانية، بلا استثناء، مع اختلاف درجة التشرذم ونوعه؛ فقد وجدت الحرب الحزب الاتحادي الديمقراطي، وهو أحد الحزبين الكبيرين في البلاد، في حالة يُرثى لها؛ فقد تمزق إلى أشلاء حتى لم يعد ممكناً حصر الأحزاب التي تحمل اسم الحزب مع إضافة صغيرة للتمييز. ووصل الشقاق إلى بيت زعيم طائفة الختمية وزعيم الحزب السيد محمد عثمان الميرغني، فتقاسم الشقيقان جعفر والحسن ما تبقى من الحزب، وذهب أحد أبناء البيت الختمي الكبير، إبراهيم الميرغني، ليوقع على ميثاق نيروبي وينضم إلى «تحالف تأسيس».
ويعاني الحزب الشيوعي السوداني، والذي كان في مقام أكبر أحزاب اليسار في المنطقة، من أزمة صامتة بين تيارين داخله، يبحث أحدهما عن تحالف واسع للحزب مع القوى السياسية التي تقف ضد الحروب وتأمل عودة الحكم المدني، وتيار آخر متشدد يقوده السكرتير العام محمد مختار الخطيب، ينطلق من موقف تخوين كل القوى السياسية التي كانت حليفة له ويرفض التحالف معها. وقد ظهرت كتابات ناقدة من بعض عضوية الحزب لتيار السكرتير العام، لكن التزم الطرف الآخر الصمت ورفض الدخول في مناقشة عامة، حسب تقاليد الحزب.
وانقسمت الحركة الإسلامية من قبل إلى حزبين؛ المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي، ثم انقسم كل حزب منهما إلى قسمين. وتعاني أحزاب اليسار الأخرى من التشتت ذاته؛ فقد انقسم حزب البعث إلى ثلاثة أحزاب، وانقسم الناصريون لحزبين، وضعفت أو اختفت تنظيمات يسارية أخرى كانت ناشطة في فترة الثورة.
تتشابه الأمراض التي تفتك بالأحزاب السياسية السودانية القديمة، والتي وصلت إلى مرحلة الشيخوخة، ولم تستطع أن تجدد دماءها وبرامجها. ويكفي أن الأحزاب الأربعة الكبرى، بما فيها الحركة الإسلامية والحزب الشيوعي، تربع على زعامتها رؤساء امتدت فترتهم بين الأربعين والخمسين عاماً.
عجزت الأحزاب عن استقطاب الشباب لعدم قدرتها على تحديث خطابها، كما أن معظمها ليس لديه برنامج معروف يستقطب به العضوية؛ لأنها تعتمد على الانتماءات الجهوية والطائفية والعرقية، أو على شعارات آيديولوجية قديمة لم يتم تحديثها ومواءمتها مع الواقع السوداني. وتكتسب بعض الأحزاب عضويتها بالوراثة؛ فالانتماء للحزب الذي يُفترض أنه تكوين حديث قائم على البرنامج، يتم في واقع الأمر بناء على انتماء الأسرة أو القبيلة. وتفتقد معظم الأحزاب الديمقراطية الداخلية؛ فهي إما أنها لا تعقد مؤتمراتها بانتظام لانتخاب القيادات ومناقشة البرامج الحزبية، أو تعقد مؤتمرات شكلية لإضفاء الطابع الديمقراطي، في حين يتم توزيع المناصب وحسم التحالفات خارج المؤتمر.
من المؤكد أن فترة ما بعد الحرب، متى ما توقفت، ستشهد هزة كبيرة في الواقع السياسي السوداني، وإعادة ترسيم للمشهد بطريقة تشهد تصدع الولاءات القديمة، واختفاء أحزاب كبيرة، وظهور أخرى، وبالذات الأحزاب والحركات المناطقية والجهوية التي تكاثرت في فترة الحرب. إنه طوفان قادم لن يبقى فيه حياً إلا من استعد بالتحديث والتجديد، وتطوير البرامج، والقدرة على التعامل مع الواقع الجديد والمعقد.
* نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط
الوسومأحزاب اليسار الحركة الإسلامية الحزب الاتحادي الأصل الحزب الشيوعي السوداني السودان القوى السياسية المؤتمر الشعبي المؤتمر الوطني حزب الأمة القومي حزب البعث فيصل محمد صالح