الثورة / إسكندر المريسي

في بلد غني بالمآثر والآثار التي تحمل سمات وعناوين حضارات موغلة في القدم، من الطبيعي أن نكتشف كل يوم معلماً جديداً يفتح من خلاله نافذة ضوء تكشف لنا تفاصيل الحضارة التي شيدها الأجداد في هذه الأرض.
اليوم نسلط الضوء على جوهرة حقيقية ماتزال شامخة حتى اليوم في مديرية السبرة بمحافظة إب ، وبالتحديد في قرية “حسل” وسط عزلة مطاية، ويعد من أقدم الجوامع في العالم، ومن أوائل الجوامع في اليمن بعد الجامع الكبير بصنعاء وجامع الجند، غير أنه لم يسلط عليه الضوء خلال القرون الماضية ربما لصغر مساحته.


فحتى اليوم ما يزال جامع ” حٍسْلْ ” يحمل رائحة ونفس عصر النبوة وجلال صحابة النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حيث يعود بناؤه إلى السنة السادسة عشرة للهجرة النبوية، كما توضحه المخطوطات التي عُثر عليها في جدران الجامع وتم الاحتفاظ بها حتى الآن.
وينسب جامع “حٍسْلْ” ، بكسر الحاء وسكون السين واللام، إلى الصحابي الجليل الذي سميت القرية باسمه، ولكن المصادر لم تحدد أيهما صاحب الجامع هل هو الصاحبي “حسل بن خارجة” أم “حسل العامري”، خاصة وهناك قرية أخرى في منطقة الصلول وصاب العالي محافظة ذمار تحمل نفس الاسم.
وهنا من المهم الإشارة إلى تاريخ القرية قبل الإسلام، حيث كان يطلق عليها مدينة “مكارد” نسبة إلى الملك الحميري “مكارد” الذي أقام مملكته في تلك المنطقة التي ما تزال تحتفظ بالكثير من الآثار وأسماء الأماكن والجبال التي تدل على تلك المملكة.
وبحسب النقوش والآثار التي ما تزال المنطقة زاخرة بها، كان يشار إلى تلك القرية بـ “مدينة مكارد برأس وادي النار” ويرى المؤرخون أن وصف الوادي بهذا الاسم جاء نتيجة لانفتاحه على الشرق والغرب، ما يجعله يشهد دورة حياة الشمس اليومية كاملة منذ لحظة ولادتها صباح كل يوم وحتى احتضارها في لحظات الغروب الأخيرة.
بناء على النمط النبوي الشريف
رغم احتفاظ الجامع بالنمط الإسلامي القديم إلاّ أن بناءه في أرض شهدت حضارة كبيرة أضافت عليه مكونات وتفاصيل مكنته من الصمود لقرون من الزمن، كاستخدام الحجر الأحمر والأسود في بناء جدرانه ووضع مادة القضاض على الجدران من الداخل والخارج لتزيده تماسكا وصلابة.
وتقع مساحة الجامع الداخلية على ٩٫٢٠ متر × ١١٫٧٠ متر، عرضاً وطولاً، تنتصب داخله ٨ أسطوانات حجرية (دعامات) شامخة منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، لم تنل منها التغيرات المناخية ولا عوامل التعرية ولا امتداد الزمن.. صامدة وأمينة تؤدي مهمتها في حمل سقف الجامع المكون من أخشاب متنوعة.
أما السقف فيتكون من مربعات خشبية كبيرة، تصل بين دعامات الجامع الحجرية، فيما يحتوي المربع الواحد على خشب أقل سماكة وخشب صغير يربط فيما بينها وألوح خشبية تغطي تلك المربعات وجميعها تكون السقف الذي يحمل القضاض المكون منه سطح الجامع.
حكمة وفرادة في التفاصيل الداخلية
يمتلك جامع “حٍسْلْ” بابين أحدهما جنوبي وهو الباب الكبير، والآخر شرقي وهو الباب الصغير، ويقع في ثلث الجدار إلى جهة اليسار، وما يميز هذا الباب هو وجود نافذة صغيرة بجانبه كان الأهالي يعرفون من خلالها تعاقب فصول السنة ومواسم الزراعة والحصاد عبر أشعة الشمس التي تدخل من النافذة وتتحرك بين برجين وما بينهما يسمى المقر، وهنا تتجسد حكمة اليمني التي جاءت خلاصة لحضارات متعاقبة شهدتها اليمن.
وأما الباب الجنوبي فقد كان يتميز بعقد داخلي ومردم حجري، وعلى يساره نافذتان محكمتان بألواح خشبية نُقش على مردم أحداهما تاريخ ترميم الجامع.
وتحتوي جدران الجامع عدداً من النوافذ الخشبية القديمة وخزنات للمصاحف ووضع السراج، ويتوسط الجامع محراب يتكون من عقدين وليس فيه مقدمة بارزة إلى خارج الجدار، وعلى يمينه كان المنبر المكون من ٣ درجات من الحجر والطين المطلي بمادة النورة.
وهنا يعتقد الأهالي بأنه ليس المنبر القديم لأن الأجزاء القديمة من الجامع كانت مدعمة بمادة القضاض وليس النورة، كما أن الأجزاء الداخلية التي أعيد ترميمها عام ١٣٢٨ه‍ تم استخدام الطين والنورة، ما يعزز احتمالية خضوعه للتجديد بعد انهدام سقف الجامع وبعض الجدران التي خضعت للترميم.
المسجد من الخارج
لا تختلف تفاصيل الجامع من الخارج عنه في الداخل من حيث كثرة التفاصيل واللمسات الإبداعية، بالإضافة إلى المرافق التي تحيط بالجامع من جميع الجهات.
فهناك عند الجهة الجنوبية ما يسمى بـ “السحاية ” والتي تستقبل مياه الأمطار القادمة من سطح الجامع ثم يصب منها إلى البركة الصغيرة.. وبالقرب منها في الجهة الجنوبية الغربية من ساحة الجامع كان هناك مبنى مكوناً من دورين مخصصاً لتعليم الأطفال يُسمى المعلامة.
لكن مع الأسف طالت يد الإهمال مبنى المعلامة حتى تهدمت بشكل كلي، وتم الاستفادة من أحجارها في عملية ترميم الجامع، بعد أن مرت بمرحلة إعادة بناء على شكل غرفة واحدة فقط كانت مخصصة لاستقبال عابري السبيل القادمين من خارج القرية بدلاً عن استقبال الأطفال لتعليمهم القراءة والكتابة والقرآن والنحو.
كما كان يحتوي الجامع على المساحات المقضضة والشواهد التي تشبه شواهد القبور والميازيب الحجرية، وأيضا سلم حجري عبارة عن أحجار بارزة على جدار الجامع، بالإضافة إلى درج من جهة القبلة يصعد إليها المؤذن ليؤذن للصلاة ويسمى “الزابور”، وقديما كان الجامع أربعة رواقات يتوسطها شماسي يدخل من خلاله الضوء ويمتد منه أرضية الشماسي ممر صغير لتصريف مياه الأمطار، لكنه تم ردم الشماسي وتغطيته لاستغلال المساحة بعد زيادة عدد رواد الجامع.
بركتان وساقية وسرداب
انعكاس البُعد الحضاري اليمني على البناء الإسلامي كان واضحا من خلال نمط البناء والمرافق المصاحبة للمساجد مثل برك الماء والسواقي والسراديب المبنية بإتقان، وذلك كله لخدمة المساجد وروادها.
وباعتبار جامع ” حٍسْلْ” واحداً من أقدم الجوامع في اليمن، وبُني في منطقة متميزة بالتراكم الحضاري نتيجة الممالك التي نشأت فيها، فقد حرص أحفاد ملوك حمير من أبناء ” حٍسْلْ” بأن يوفروا لجامعهم جميع المرافق التي تسهل على الناس إقامة صلواتهم كما أمرهم دينهم الإسلامي.
ولذا فقد بنى أحفاد الملك “مكارد” بركتين على نظام الصهاريج لاستقبال المياه وحفظها، بحيث تصب البركة الصغيرة في البركة الكبيرة.
ولم يكتف الأهالي بمياه الامطار لتوفير مياه الوضوء، بل استغلوا خبرتهم وعصارة الحكمة اليمانية وبنوا سردابا وساقية ودعموها بمادة القضاض لجلب المياه من عين ماء تم حفرها في جبل مجاور وبالتحديد من مكان يسمى جعفر.
وحين تمتلئ البركة الصغيرة بالمياه ينتقل الماء عبر عين منقورة على حجر إلى البركة الكبيرة التي تقع أسفل البركة الصغيرة، وتحتوي البركة الكبيرة على سلم وفتحة أسفلها تستخدم لتصريف المياه، ثم يتم سدها بقطعة خشبية، وقد تم تصميم هذه الفتحة بطريقة فنية بحيث لا يستطيع أحد فتحها من الخارج لأنه تم نحتها بشكل ملتو.
وفي القرب من ركن البركة ما يسمى (بالمسفح) وهو المكان الذي يفيض منه الماء إلى حوض في الأسفل، كان يستخدم الحوض لسقي الابقار والجمال والخيول والبغال والحمير، وعندما يفيض الماء منه يمر عبر ساقية حتى يصل إلى قرية القرانة المربوطة بقرية “حسل” والتي كانت تحتوي على قبة وبركتين.
لكن مع الأسف لقد طالت يد الإهمال هاتين البركتين ولم يبق منهما سوى ثلث جدار واحدة من البرك، وبنى احد الأهالي منزلاً في ذلك المكان الذي يسمى القبة.
مطالبة بالتدخل الرسمي للحفاظ على الجامع
لقد حرص الأجداد على إحاطة جامع “حٍسْلْ” بسور حجري ومساحة مقضضة لتوفير أكبر قدر من الحماية للجامع خاصة من السيول والحيوانات، لكن هذه الأسوار والمساحات مهما كان قوتها لا تستطيع أن تصمد أمام تعاقب القرون خاصة في ظل إهمال المجتمع والمؤسسات المعنية بحماية آثارنا والحفاظ عليها.
وهنا يوجه شيخ قرية سجل الشيخ عادل حمود الشايف رسالة مطالبة للجهات المختصة مثل الهيئة العامة للآثار ووزارة الارشاد بتشكيل لجنة وتنفيذ نزول ميداني إلى جامع “حٍسْلْ” وعمل دراسة على وضع الجامع ورفع تقرير بالاحتياجات والتدخلات الضرورية للحفاظ عليه.
ويشدد الشيخ الشايف، وهو رئيس لجنة الشئون الاجتماعية بالمجلس المحلي بمديرية السبرة ورئيس اللجنة التنموية بالمديرية، على ضرورة الإسراع في اتخاذ الإجراءات اللازمة للحفاظ على هذا المعلم التاريخي الإسلامي الهام.
إن مثل هذا المعلم وما يحتويه من تفاصيل إبداعية من حيث التصميم والمرافق والتاريخ، لو أنه في بلد آخر، لأصبح مزاراً يستقبل الزوار من داخل البلد وخارجها، خاصة وقد بُني في صدر الإسلام وعلى أرض الملوك حيث النقوش والآثار والاسماء ماتزال شاهدة على ملوك وممالك صنعوا تاريخاً لم ولن ينسى حتى لحظة غروب أخر شمس عن مدينة “مكارد” برأس وادي النار.

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

سهام جبريل: ثورة 30 يونيو أتت لتعيد إصلاح أخطاء الإهمال والتهميش وتضع استراتيجية وطنية للتنمية الشاملة لكافة أقاليم مصر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

أكدت الدكتورة سهام جبريل، عضو المجلس القومي للمرأة، أن المحافظات الحدودية تمثل بأركانها الأربعة السياج الحافظ للأمن القومي وحماية حدوده الوطنية، حيث عانت هذه المحافظات لسنوات طويلة من الإهمال والتهميش وغياب سياسات التنمية عنها.

وقالت عضو المجلس القومي للمرأة، في تصريح خاص، لـ"البوابة نيوز"، إن ثورة 30 يونيو أتت لتعيد إصلاح أخطاء الإهمال والتهميش ووضع استراتيجية وطنية للتنمية الشاملة لكافة أقاليم مصر من خلال استراتيجية مصر 2030، والتي وضعت أسس واضحة لدعم ودفع عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية داخل المحافظات خاصة الحدودية، وتوفير كافة الاحتياجات اللازمة لتفعيل كافة قدرات المجتمع خاصة في المحافظات الحدودية التي تمثل 77.7% من إجمالي مساحة مصر و1.5% فقط من إجمالي عدد السكان، حيث  تمتلك المحافظات الحدودية متطلبات تنموية لحل مشكلات المجتمع المصري، وفتح آفاق جديدة للتنمية، واكتشاف القدرات المحتملة للمحافظات الحدودية وإلحاقها بركب عجلة التنمية وخاصة سيناء، والتي لم يتم استغلالها بكفاءة حتى الآن، وكيفية استغلالها في ظل الوضع الإقليمي الراهن، وتحديد معوقات التنمية، كتجربة لصياغة رؤية تنموية متوازنة في ضوء الموارد المتاحة داخل المناطق الصحراوية وتوفير كافة متطلبات التنمية، واستغلالها بكفاءة يمكن أن ترفع معدلات الإنتاجية والتشغيل، خاصة  أن عملية التنمية في المناطق الصحراوية بشكل عام وفي سيناء بشكل خاص تواجه العديد من المعوقات. (طبيعية، اقتصادية، اجتماعية، آمنة.. إلخ) حيث ترجم ذلك الاهتمام إلى وضع السياسات المناسبة للاستثمار وتوظيف إمكاناتها المحلية لمواجهة معوقات التنمية وإدارة استراتيجية تنموية خاصة بكل محافظة حدودية خاصة شمال وجنوب سيناء حيث شهدت السنوات العشر الأخيرة طفرة غير مسبوقة في كافة مجالات التنمية وتذليل معوقات التنمية من خلال توفير مشروعات تنموية في مجال الطرق والبنية الأساسية والمياه والزراعة والسياحة وعملية الربط بين سيناء وباقي المحافظات.

وتابعت: "فعلى سبيل المثال شهدت سيناء مجموعة من المشروعات الضخمة، حيث تم إنشاء محطة كهرباء بمنطقة المساعيد في مايو 2022، بتكلفة تُقدر بنحو 450 مليون جنيه، إذ تعمل هذه المحطة على تغذية مدينة العريش ومحطة الشلاق بالشيخ زويد، بالإضافة إلى مشاريع توصيل الكهرباء لمدينة رفح الجديدة ومشروع المآخذ وزماماتها برمانة وبئر العبد، ولمدينة المليونية بشرق بورسعيد الجديدة، ولعدد 30 منزلًا بدويًا بقرية الجوفة برُمانة".

وأردفت: "وقد شهدت البنية التحتية في مجال البناء والإسكان والمدن الجديدة طفرة غير مسبوقة حيث مدينة رفح الجديدة ومدينة بئر العبد والتجمعات التنموية الانتجاية فى وسط سيناء ،وكذلك تطوير البنى التحتية في مجال الطرق والموانئ البرية والبحرية، فشهد ميناء العريش البحري تطوير كبير فبعد أن كان مجرد ميناء للصيد المحلى شمله تطوير مما أهلة إلى أن يصبح ميناء للتصدير". 

واستكملت: “كما تحول مطار العريش إلى مطار يستقبل رحلات دولية، وكذلك مجال الزراعة وتطوير الآليات الزراعية وأساليب الري الحديث، كذلك شمل اعتماد الدولة بناء استراتيجية التنمية في مجال الصحة والتعليم وتطوير مجال التنمية الأساسية”. كما شهد مجال التعليم تطور غير مسبوق فى مجالات التعليم الأساسى والفنى والثانوى، كذلك التعليم العالي حيث أصبح على أرض سينا صروح علمية ومراكز بحثية مثل جامعة العريش وجامعة سيناء وجامعة الملك سلمان إلى جانب المراكز البحثية والمعاهد التعليمية المتخصصة.

واختتمت الدكتورة سهام جبريل: "في النهاية، يُمكن القول إن المشروعات القومية التي نفذتها الدولة المصرية بتوسع في المحافظات الحدودية والمشروعات المُستقبلية التي تشهدها ويتم تنفيذها أعلى مستوى محافظات مصر الحدودية قد أكد عليها الرئيس عبد الفتاح السيسي في لقاءاته الرسمية ولقاءاته وجولاته الميدانية  مع الأهالي في هذه المحافظات، التي تؤكد مدى حرص الإرادة السياسية على الإنجاز الحقيقي على أرض الواقع، وتترجم مدى  وعي دولة ما بعد 30 يونيو 2013 بالأهمية الاستراتيجية للمحافظات الحدودية، من منطلق أن تطويرها بما يُحقق منافع اقتصادية واجتماعية للمجتمع بأكمله، نظرًا لكونها محافظات حدودية تمثل سياج حماية أمن الوطن وترابه الوطني، إذ كانت تلك المحافظات تعاني من أزمات متنوعة في السنوات التي سبقت عام 2014.  

مقالات مشابهة

  • الهجرة النبوية.. الجامع الأزهر يعقد ملتقاه الأسبوعي السبت المقبل
  • بئر غرس.. وجهة تاريخية مميزة شرفتها السيرة النبوية
  • تايمز: في أفريقيا بأكملها قنبلة الاضطرابات توشك على الانفجار
  • علاقة الرجل بالمرأة الأجنبية في السنة النبوية
  • جامع حٍسْلْ .. منارة تاريخية توشك يدّ الإهمال على هدّمها
  • أدعية الرقية الشرعية.. كلمات من السنة النبوية للحماية والشفاء
  • جامع حٍسْلْ .. منارة تاريخية بحاجة للحماية من الاندثار
  • سهام جبريل: ثورة 30 يونيو أتت لتعيد إصلاح أخطاء الإهمال والتهميش وتضع استراتيجية وطنية للتنمية الشاملة لكافة أقاليم مصر
  • رأس السنة الهجرية 2024: احتفال بالهجرة النبوية ودروس مستفادة للأجيال