عـبدالله عـلي صبري
أطل السيد عبدالملك الحوثي خلال أيام العشر من ذي الحجة في محاضرات للتوعية بالمسئولية المتعلقة بإدارة الشأن العام، لكن من موقعه كقائد للثورة الشعبية، ما يجعل أهمية هذه المحاضرات تتعدى الحالة الوعظية والإرشادية، وتنبئ عن سياسات المرحلة المقبلة والتي سبق أن دشنها السيد حفظه الله بخطاب التغيير الجذري، الذي تأخرت خطواته التنفيذية، بسبب الحرب الكبرى التي تخوضها اليمن شعبا وجيشا وقيادة إسنادا وانتصارا للقضية الفلسطينية منذ ما يزيد عن ثمانية أشهر.
وحتى يستقيم النصح والرشد، وتبلغ الحجة لخاصة المسئولين وعامة المجتمع، فقد استعان السيد القائد بالتراث الديني الأهم للمسلمين بعد القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ممثلا في سيرة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وموروثه الفكري والسياسي، الذي لا يزال في الغالب منه صالحا لواقعنا وعصرنا، بل ومطابقا لكثير من إشكالات العلاقة بين الحاكم والمحكوم في مجتمع إسلامي يفترض أن كل أفراده يبتغون رضاء الله سبحانه وتعالى والعمل وفقا لتوجيهاته وتشريعاته.
كما تتضاعف أهمية هذه المحاضرات، في كون المتصدي لها يعيش أوضاعا مشابهة لتك التي عاشها الإمام علي عليه السلام وقد تولى إمارة المسلمين في زمن الفتنة الكبرى، وعانى وتأذى من شيعته – بخذلانهم له – أكثر مما لقي من خصومه وأعدائه من البغاة الخارجين عليه. فاليمن اليوم وفي ظل قيادة السيد عبدالملك الحوثي وثورة 21 سبتمبر الشعبية، ومشروع المسيرة القرآنية يتعرض لجملة من التحديات الداخلية والخارجية، لعل أهمها تقديم النموذج الأصلح للحكم وإدارة الشأن العام على نحو عملي ومعاش في الواقع اليومي بعيدا عن التنظير الزائف الذي عرفته اليمن في العهود السابقة، فإذا لم يكن أبناء هذه المسيرة قبل غيرهم هم العون والسند الحقيقي للقائد، وإذا لم يكن المسئولون المحسوبون على المشروع القرآني هم الأكفأ والأصلح والأكثر نزاهة وخدمة وقرباً من الشعب، فلا خير فيهم، ولا أمل يرتجى منهم.
وإذا كانت الغالبية من الناس يتطلعون إلى تغيير الكثير من المسئولين، واستبدالهم بمن هم أفضل منهم، فقد أراد السيد من محاضراته أن يكون واضحا وصادقا مع الجميع بشأن جذر المشكلة، التي لا يمكن معالجتها بمجرد تغيير الأشخاص على أهمية وضرورة هذه الخطوة، فأراد من المجتمع نفسه أن يكون جزءا ومساعدا على التغيير المنشود من خلال فهم الواقع والاستعداد لتغيير الثقافة العامة بشأن المناصب السياسية والإدارية في جهاز الدولة، تمهيدا لتغيير سلوك المسئولين، وتعزيزا لكل فرص النجاح والإنجاز. وما لم يفقه المجتمع دوره الأساسي في هذه العملية المعقدة، فإن جانبا كبيرا من الآمال العريضة في المستقبل لن ترى النور على المدى المنظور.
(1)
عن عبد الله بن عباسٍ قال: دخلت على أمير المؤمنين علياً – عَلَيْهِ السَّلَام- بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال عَلَيْهِ السَّلَام: وَاللهِ لَهِيَ أَحْبُّ إِليَّ مِنْ إِمْرَتِكُم، إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقًّا، أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً..
استهل السيد القائد محاضراته باختيار هذا النص الذي يتضمن تبخيسا للمنصب مهما علا شأنه من أجل الزهد فيه. فأن تكون أميراً للعالم الإسلامي بما فيه من بلدان وأقطار، ثم نجد أن هذا لا يساوي بكله عند أمير المؤمنين عليًّا عَلَيْهِ السَّلَام، ذلك النعل البسيط، الذي لا قيمة له، فهذا هو المدخل المناسب للفت أنظار المجتمع وخاصة اللاهثين من الناس وراء السلطة والنفوذ والثروة، حيث نجد أن السائد لدى العموم أنهم ينظرون إلى موقع المسؤولية، وإلى المناصب بشكلٍ عام- بحسب طموحاتهم- إلى أنها ذات أهمية كبيرة جداً، وذات قيمة عالية، يبذلون من أجلها الغالي والنفيس.
وهم في سبيل تحقيق أهدافهم ولأجل الوصول إلى مبتغاهم يستخدمون وسائل كثيرة وبطرق مشروعة وغير مشروعة للوصول إلى السلطة، بل إن البعض قد لا يتورع عن ارتكاب الجرائم والمظالم من أجل هذه الغاية، التي تقوم على أساس التقدير والأهمية الكبيرة للمناصب في نظر الناس، على عكس العارفين المؤمنين وقدوتهم الإمام علي عليه السلام.
يعدد السيد القائد دوافع الناس الباحثين عن المناصب ومواقع السلطة والنفوذ فيجملها في عدة نقاط منها:-
تحقيق الذات، وهي نقطة مهمة للشخص ذاته حيث تتولد لديه ثقة كبيرة في النفس التي لا يشعر بها إلا من خلال طريقة تعامل الآخرين معه، وللأسف فالناس يتعاملون بتقدير كبير مع هذا الشخص الذي بات في مواقع نافذ ومؤثر. وهكذا يرى المرء نفسه وقد ” أصبح شخصاً مهماً، وأصبح كبيراً، وله أهمية، وله موقع أكبر على الآخرين”.
والأصل أن تكون القيم الإسلامية هي السائدة في التعامل بين أفراد المجتمع ولا يشترط أن يكون الإنسان رئيساً، أو وزيراً، أو ملكاً، أو أن يكون مديراً، أو وزيراً، أو يحمل مسؤولية معيَّنة، أو في موقع معيَّن ومنصب معيَّن، حتى يحظى بالاحترام.
إنها رسالة تربوية عميقة، إذ يوجه السيد المجتمع اليمني المسلم إلى تعزيز الاحترام المتبادل في علاقة الناس ببعضهم، وأن لا يكون هذا الاحترام مرده إلى الموقع الذي يتسنمه هذا الشخص أو ذاك.
أن يكون نافذا ومن ذوي النفوذ في الدولة، وهذا هو الدافع الثاني بحسب السيد القائد، فالبعض من الناس يرى في المنصب أنه موقع للنفوذ، يستطيع من خلاله أن يحقق بعض الأهداف، سواء كانت شخصية، أو فئوية، أو حزبية. والبعض يرى في المنصب ” وسيلةً تساعده على التسلط، وعلى تصفية حسابات معينة “.
التكسب المادي والإثراء غير المشروع، فالبعض يضع الأمور المادية نصب عينيه، فيجعل المال هدفا في حد ذاته، حتى وإن استخدم وسائل غير مشروعة في سبيل مراكمة المال والثروة وانتهاز فرصة الوصول إلى هذا المنصب أو ذاك، وهذا ما يؤدي إلى خيانة الأمانة والفساد المالي وابتزاز الآخرين.
التسلط وهواية الأمر والنهي، وهو دافع يقوم على لذة الاستبداد وشهوة التسلط، فالبعض يتطلع إلى المنصب حتى يكون آمرا ناهيا بالحق وبالباطل، وهذه بالنسبة له ” فوق كل لذة ورغبة، وفوق كل طموح “.
أجندة خفية وباطلة، حيث يعمل البعض على تسخير المنصب بما يوفره من نفوذ وإمكانات، وذلك لخدمة باطل يفرضه على الناس ويحميه، ليكون سائداً في واقع الحياة.
(2)
سيكولوجية عشاق المناصب:
لا يتوقف السيد عند الحالة الطبيعية الملازمة لغالبية المجتمع، وهم يتطلعون إلى السلطة والنفوذ، ولكنه يضيء أيضا على حالة من يسميهم بـ ” عشاق المناصب ” وماهية النفسيات التي تطبع سلوكياتهم. وهؤلاء هم ” الأكثر ظلماً، وفساداً، الأكثر طغياناً وشراً في واقع الناس”.
هذه النوعية من الناس لا شك أن السيد القائد قد اصطدم بهم في واقع التعامل وأثناء تقييم الأداء لكثير من القائمين على الأعمال والمناصب في أجهزة ومؤسسات الدولة، وحتى لا يظن أمثال هؤلاء أن القيادة غافلة عنهم، فإن محاضرات السيد قدمت وتقدم المعالجة التربوية أولا، من خلال الإشارة إلى خطورة وثمن العشق للمنصب، حيث إن الإنسان المشمول بهذا التوصيف ” يضحي بدينه، ويضحي بكرامته وبشعبه وبأمته، ويضحي بإنسانيته ويخسر كل شيء “.
ومن الأمراض النفسية التي يعيشها “عشاق المناصب” أن يكون أحدهم شديد التعلق بالمنصب ” لا يريد أن يبرح منه، ولا أن يفارقه، ولا أن ينتقل عنه، ولو إلى أي عملٍ آخر”. وهذا ما يعني أن الموقع أو المنصب قد أصبح ملكية شخصية يستميت المرء في التشبث به والدفاع عنه. والحل الإداري أمام مثل هذه الحالات يكمن في التغيير أو التدوير الوظيفي على الأقل، بالإضافة إلى تغيير الثقافة المتعلقة بمفهوم المسؤولية دينيا وأخلاقيا، ومحورها ” أن يتخلص الإنسان من التصور أنه لا قيمة له، ولا أهمية له إلَّا إذا كان في منصب معيَّن “. وبالإضافة إلى ما سبق، فإن عشاق المناصب يتحولون إلى مصدر إشكال للمجتمع وللقيادة، لأن الممارسات الظالمة والمخالفة تغدو ” سلوكاً يستمر عليه، لا يجدي معه النصح، ولا التذكير”. والبعض الآخر يعتور أداؤه العملي الكثير من القصور، وذلك لعدة أسباب:
النقص المعرفي وضعف الخبرة الإدارية.
مشكلات ذاتية ونفسية.
الطموحات الغير واقعية، والغير ممكنة.
روحية الاستهتار، واللامبالاة، واللاشعور بالمسؤولية أمام الله.
وهنا ينصح السيد أن من كان هذا حاله، من الخطأ أن يحصل على الحماية أو العون من أحد، فهذه عصبية مقيتة في غير محلها، وقد تكون عصبية مناطقية، أو عشائرية، أو أسرية، أو حزبية، ” بينما لو شعر أنَّ الكل ليسوا معه فيما هو عليه من مخالفات، ومن أخطاء وممارسات سيئة ظالمة، وأنَّ الكل سيقفون مع القيادة في أيِّ إجراء ضده، فهذا سيكون عاملاً مساهماً في زجره وردعه “.
(3)
” اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلطَان، وَلَا التِمَاسَ شِيءٍ مِنْ فُضُولِ الحُطَامِ، وَلَكِنْ لِنَرِدَ المَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ، وَنُظْهِرَ الإِصَلَاحَ فِي بِلَادِكَ، فَيَأمَنَ المَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ، وَتُقَامَ المُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ..” الإمام علي عليه السلام
هذا هو المقطع الثاني من خطبة الإمام علي عليه السلام، الذي تناوله السيد القائد بالشرح والتحليل، وهو متصل بالنص السابق في مضمونه ومعناه، فمن يرى في نعليه قيمة أكبر من السلطة، فإنه لا يمكن أن يفكر في شيء من حطام الدنيا إذا وصل إلى أكبر المناصب، ولن يكون همه إلا الإصلاح وإقامة الحق ونصرة المظلوم.
وكما يقول السيد القائد فإن أولياء الله وأهل الحق عندما يتحركون، فليس للسلطة عندهم أي قيمة وأي اعتبار لوحدها، بدون أن تكون وسيلةً للهدف المقدَّس، الذي هو: إقامة الحق، والدفع للباطل. وعلى عكس سمات وسيكولوجية عشاق المناصب، فإن الحالة الصحية إسلاميا وإنسانيا في التعامل مع السلطة يقوم على ثلاثة ركائز:
الأولى: الإخلاص لله، أي أن يتجه المسؤول في عمله بإخلاصٍ لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يعي قيمة هذا الإخلاص، في أن يكون عمله مقبولاً عند الله، وأن يكون لموقفه مع الحق قيمة إيمانية وأخلاقية، بحيث يرضى عنه الله ويحظى بما وعد الله به أولياءه المؤمنين.
الثاني: إحقاق الحق، فالحق هو الأساس الذي ينبغي العمل على إقامته، ليكون سائداً في موقع إدارة شؤون الأمة، الحق في المجال السياسي، الحق في المجال الاقتصادي، الحق في الجانب الاجتماعي، والحق في كل المجالات.
الثالث: دفع الباطل، الذي يتفرع عنه كل المنكرات، وكل المفاسد والمظالم، إذا كانت مواقع إدارة شؤون الناس والمناصب بحسب مستوياتها منصة لخدمة الباطل، بالاستناد إلى إمكانات الدولة، وسلطة الدولة، ونفوذ الدولة، ” حينئذٍ يتضاءل حضور الحق في حياة الناس، في مقام العمل به، والالتزام به، وتضيع حقوقهم المشروعة”.
على أن هذه الأهداف الكبيرة والمهمة تحتاج إلى همم أكبر تساعد على تحقيقها في الواقع العملي وإن في الحد الأدنى، ولهذا لا بد أن تتوفر في القائمين على المسئولية صفات حميدة، بعضها قد يكون فطريا والبعض الآخر قد يكون مكتسبا، والأهم أن يحرص كل مسئول على تنمية كل هذه الصفات والقدرات، كي تكون له خير معين على تأدية مهامه التي لا يبتغي من ورائها إلا مرضاة الله سبحانه وتعالى. ومن هذه الصفات التي وردت في محاضرات السيد القائد:
أن يكون أميناً مؤتمناً، وموثوقاً على أعراض الناس وحياتهم، وعلى ممتلكاتهم وحقوقهم، وهذا هو المعيار الأخلاقي الذي يطمئن إليه الناس.
الكرم، لأنالبخيل عادةً ما يحرص على جمع الأموال وإيرادات الدولة والاستحواذ عليها، والبخل عن إخراجها في خدمة الأمة والمصلحة العامة.
نزيها، لأن الكرم لا يعني الإسراف والتبذير، بل على المسؤول أن يكون نزيها فلا يستغل المال العام لصالح المنفعة الشخصية، أو لشراء الولاءات، وأن يكون حريصا على أن تصرف الأموال في نصابها الصحيح دون إفراط أو تفريط. ويرتبط بالنزاهة الكف عن تعاطي الفساد والرشوة ومصادرة حقوق الآخرين.
العلم والمعرفة، فلا مناص عن العلم والـتأهيل وتنمية الخبرات والقدرات من أجل الأداء الصحيح والسليم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ” وكلما كانت المسؤولية أكبر كانت الحاجة المعرفية أكبر”.
حليما رحب الصدر، بحيث يتعامل المسؤول مع الناس على أساس من الاحترام وحسن الخلق، دون جفاء أو غلظة، كما يقول عز وجل ” فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ” صدق الله العظيم.
(4)
(( لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً، وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً، إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأَنْفُسِكُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ، أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَايْمُ اللهِ لَأُنْصِفَنَّ المَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ، وَلَأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ، حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً )) الإمام علي عليه السلام
استرسل السيد القائد في وقفته مع هذا المقطع من خطبة الإمام علي عليه السلام، متحدثا عن شرعية ومشروعية الحاكم، كأساس لقيام الناس بواجباتهم الدينية تجاه ولي الأمر، وهي في حالة الإمام علي جلية على نحو لا يمكن الادعاء معها أنه قد وصل إلى هذه المكانة “بطريقة انتهازية ” بل عن ” قناعة وجدارة ” .. ولعل هذه الحالة تنطبق اليوم على حال شرعية ومشروعية السيد القائد عبدالملك الحوثي يحفظه الله.
أريدكم لله وتريدونني لأنفسكم: هذه الفجوة التي تحدث بين القيادة والمجتمع، مردها إلى الاختلاف في التوجه وفي الفهم، فـ ” القادة الأبرار، المؤمنون، المتقون، هم الذين لا يريدون الناس لأنفسهم”، في مقابل أن البعض لا يريد من القيادة إلا ما يخدم مصالحهم الشخصية فحسب، ” فإذا لم يرى في القائد أنه يلبي له رغباته، أو يحقق له طموحاته الشخصية، أو يُنَفِّذ له آراءه الشخصية، أو يترك له المجال في أمور لا ينبغي أن يسكت له فيها: إمَّا فيها مظالم، أو أخطاء، أو مخالفات… أو غير ذلك؛ حينها تبدأ هذه الفجوة “.
وهنا يتوسع السيد القائد في الشرح توضيحا وتحذيرا لكل من هم في موقع المسئولية، أو من يلهثون وراء المناصب، معاتبا من يتذمر نتيجة أمور تتعلق بواقعه الشخصي، كأن يكون لديه طموحات معيَّنة، مادية أو معنوية، أو يرفض مبدأ المساءلة ويريد أن تكون يده مطلقة التصرف دون محاسبة. فإذا لم يحدث شيء مما يتوقعه تصبح ردة فعله في إطار متدرج يبدأ بالتذمر والسخط، وصولا إلى عدم التفاعل في أداء المسؤوليات، وقد يصل إلى العناد والشقاق.
أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ: فمن واجب الجميع ممن هم في مواقع المسؤولية، أو حتى بقية الأمة، أن يكونواً عوناً للحاكم على البر والتقوى، لما فيه الخير للأمة، وعزَّتها، وصلاحها، وفلاحها، وكرامتها. لكن هذا الأمر يفوت على عشاق السلطة الذين لا يهمهم إلا ” تثبيت سلطتهم وترسيخ سيطرتهم وهيمنتهم، وهمهم أن يكون الناس متجهين إليهم (..) يعظمونهم، يقدسونهم، يطبلون لهم، ويخضعون لهم ويطيعونهم في الباطل، فهم لا يشدون الناس إلى الله، الذي له الولاء ومنتهى الطاعة “. وهذه رسالة مزدوجة للمسئولين الذين يعجبهم الإطراء وينشدونه من الناس، وهي كذلك، لمن يبالغون في المدح والتعظيم من شأن المسئولين والتزلف إليهم بالثناء نثرا أو شعرا أو غير ذلك.
وما أشبه الليلة بالبارحة، فلعل السيد القائد يتوجه إلينا كمواطنين وكمسؤولين، طالبا منا أن نكون عونا له على أنفسنا أولا، حتى يقوم بما عليه من واجبات ولاية الأمر، وإلا فإن النتيجة ستكون مأساوية، على غرار ما حدث في التاريخ مع الإمام علي عليه السلام حين فرطت الأمة ولم تتعاون معه وتجاهلت خطورة الانحراف عن سيرته.
” لقد كان أمير المؤمنين عليٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نعمةً كبرى على المسلمين، لو حظي بالتعاون اللازم- آنذاك- لغيَّر وجه التاريخ، وصحح مسار الأمة، ولكان وجه العالم مختلفاً عمَّا هو عليه اليوم “.
” وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأَنْفُسِكُمْ “، هذه خلاصة المشكلة في الماضي وفي الحاضر، ولهذا فإن الحالة الصحية والصحيحة للجميع بلا استثناء: أن تكون الوجهة للجميع إلى الله، وأن نسعى من أجل رضاه، وطاعته، “عندما تتوحد الإرادة، ويتوحد الهدف والغاية، يستقيم الواقع”.
(5)
البديل المر
((وَايْمُ اللهِ لَأُنْصِفَنَّ المَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ)) الإمام علي عليه السلام
هكذا يقوله الإمام علي عليه السلام حازما ومتوعدا الظالمين بالإنصاف، ومبشرا المظلومين بالعدالة التي كانت ولا تزال أهم المسؤوليات في دولة الإسلام. وهذا ما ينبغي عليه الحاكم المسلم في كل زمان ومكان. ولأن السيد القائد عازم على السير في هذا الخط قبل وبعد التغيير الجذري، فإنه يوجه نصيحته الأخيرة للبعض من المسؤولين الذين يتعمدون افتعال المشكلات، ويستمرؤون عدم إنصاف الناس فيزجرهم بقوله: ليس من الشجاعة ولا من الشهامة والمروءة، ولا يشرِّف الإنسان العناد في موقع الإصرار على الظلم، فالعناد في حالة الإصرار على باطل قد يصل بالإنسان إلى جهنم، والعياذ بالله.
كما يحذر الجميع من التعصب للظالم على حساب المظلوم، ” فالعصبية مع الظالم هي عصبية جاهلية، سواءً وقفت معه جماعته، أو حزبه، أو قبيلته”، والمطلوب
إذا كانوا حريصين عليه أن يدفعوا به إلى الإنصاف من نفسه، وليساعدوه في الحق، حتى لا يبقى مستمرا في الظلم والباطل.
ولَأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ، حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً: هذا هو البديل المر الذي يشير إليه السيد القائد في كلام جلي واضح لا يحتاج إلى تعليق:
” أحياناً تصبح هذه الصرامة أمام هذا النوع من الناس، ممن هو متعنت، لا يقبل بمنطق التذكير، بمنطق الأخوّة، بمنطق النصح، ولا تنفع معه، ولا تجدي أي مساعي لتدفعه إلى الإنصاف، فتكون الصرامة الضرورية معه، والتي هي مفيدة للمجتمع، لأنها تمثل ردعاً لغيره، يراه الآخرون من نوعيته، فيدركون أنه لا مجال لأن يبقى الوضع منفلتاً “.
وتبشيرا بعهد جديد يضع السيد القائد النقاط على الحروف، ويستنفر الجميع حتى يكونوا عونا له في أية خطوات قد يقدم عليها حاضرا أو مستقبلا:
” والمفترض أن يتعقَّد الناس من الظالم، ومن المسيء، ومن ذوي التصرفات الظالمة والخاطئة، أن تكون العقدة منهم، وليس على من يسعى إلى أن يتَّجه بالجميع الاتجاه الصحيح، الذي يتحقق فيه العدل والخير، والذي فيه المصلحة للجميع، للناس جميعاً، مثل هذه الأمور يجب أن تكون ثقافة عامة، ثم أن تكون توجهاً لدى الجميع، ليكونوا عوناً، وإذا تحقق هذا التعاون- كما قلنا وكررنا- تكون له نتائج عظيمة في الاستقرار الاجتماعي، في الازدهار، وفي تحقيق النتائج المهمة للأمة “.
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: الإمام علی علیه السلام السید القائد من الناس أن یکون من خلال أن تکون فی موقع الحق فی هذا هو یرى فی من أجل
إقرأ أيضاً:
حقيقة قصة النبي ﷺ مع الرجل اليهودي
قالت دار الإفتاء المصرية إن قصة اليهودي الذي كان يقوم بوضع المخلفات أمام بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعندما مرض ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لزيارته، هي قصة مشتهرة بين الناس، ولكنها لم ترد في كتب السنة أو السيرة، وإنما يوردها الناس لضرب المثل للتسامح والعفو عند المقدرة، موضحة أنه لا بأس بما كان من ذلك بشرط ألَّا ينسب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الإمام الصنعاني في "توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار" (2/ 82، ط. دار الكتب العلمية): [الأحاديث الواهية (فجوزوا) أي أئمة الحديث (التساهل فيه وروايته من غير بيان لضعفه إذا كان) واردًا (في غير الأحكام) وذلك كالفضائل والقصص والوعظ وسائر فنون الترغيب والترهيب] اهـ.
وأضافت الإفتاء أن ما يؤكد عدم صحة هذه القصة أنَّ وجود اليهود في جزيرة العرب كان في اليمن والشام والمدينة وما جاورهم، أما في مكة فلم يكن لهم وجود ملحوظ؛ فقد ورد في السنة ما يدل على وجود جار يهودي له صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذلك ما رواه الإمام مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ "الْآثَارِ" فقال: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم فَقَالَ لَنَا: قُومُوا بِنَا نَعُودُ جَارَنَا الْيَهُودِيَّ، قَالَ: فَأَتَيْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَيْفَ أَنْتَ يَا فُلَانُ؟ ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ الشَّهَادَتَيْنِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ فِي الثَّالِثَةِ: يَا بُنَيَّ اشْهَدْ، فَشَهِدَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْحَمْدُ لله الَّذِي أَعْتَقَ بِي نَسَمَةً مِنْ النَّارِ».
وما رواه عَبْدُ الرَّزَّاقِ في "مصنفه" قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ جَارٌ يَهُودِيٌّ لَا بَأْسَ بِخُلُقِهِ، فَمَرِضَ، فَعَادَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ، فَقَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؟» فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ، فَسَكَتَ أَبُوهُ، وَسَكَتَ الْفَتَى، ثُمَّ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ أَبُوهُ فِي الثَّالِثَةِ: قُلْ مَا قَالَ لَكَ، فَفَعَلَ، فَمَاتَ، فَأَرَادَتِ الْيَهُودُ أَنْ تَلِيَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم: «نَحْنُ أَوْلَى بِهِ مِنْكُمْ»، فَغَسَّلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وَكَفَّنَهُ، وَحَنَّطَهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: [وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو] اهـ.
وما رواه الإمام البخاري في "صحيحه" عن أنس بن مالك رضي الله عنه قَالَ: كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ». فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ. فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «الْحَمْدُ لله الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ».
وفي هذا الحديث لم يكن اليهودي جارًا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هو غلام يخدمه وقيل: اسمه عبد القدوس؛ قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (3/ 221): [كان غلام يهودي يخدم لم أقف في شيء من الطرق الموصولة على تسميته إلا أن ابن بشكوال ذكر أن صاحب العتبية حكى عن زياد شيطون أن اسم هذا الغلام عبد القدوس، قال: وهو غريب ما وجدته عند غيره] اهـ.
وأكدت الإفتاء أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرب المثل الأعلى في معاني الرحمة ونقاء المعدن وسمو الروح ونبل الطبع بعيادته لجاره اليهودي عندما مرض، إلا أنَّ هذا اليهودي لم يكن يؤذيه صلى الله عليه وآله وسلم بالمخلفات كما هو مشتهر بين الناس، وإنما يوردها الناس لضرب المثل للتسامح والعفو عند المقدرة، ولا بأس بذلك بشرط ألَّا يُنْسَبَ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.