درس المناظرات على مسرح الديمقراطية الأمريكية
تاريخ النشر: 30th, June 2024 GMT
لن أدعي إطلاقا أنني معنية وشغوفة بمتابعة مناظرات الانتخابات الرئاسية الأمريكية هذا العام، إذ إنها لا تعنيني، وهذا يحيلني لتصريح المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف للصحفيين بعد سؤال حول متابعة الرئيس الروسي للمناظرة الأمريكية «لا أعتقد أنكم تتوقعون أن يضبط الرئيس الروسي المنبه، ويستيقظ في ساعات الصباح الباكر، ليشاهد المناظرة الأمريكية» وما هذا التصريح إلا لإثبات وتأكيد عدم تدخل روسيا في شؤون أمريكا الداخلية، وأن هذه المناظرة والانتخابات والرئاسة الأمريكية كلها شأن أمريكي لا علاقة لروسيا به، مع محاولة تصديق ذلك بصعوبة، لكن العالم العربي - شئنا أم أبينا- معنيٌّ بالشأن الأمريكي فكل شؤونه موضوعة على طاولة النقاش أمريكيا، حتى مع كل ما يشهده العالم اليوم من فوضى وتهافت قيمي، ونفاد ثقة الناس في كل ادعاءات الساسة الأمريكان وغير الأمريكان ووعودهم.
مع كل ذلك لا أنكر أن فضولا دفعني لمحاولة معرفة مضمون هذه المناظرة التي شهدها العالم والولايات المتحدة يوم الخميس الماضي، إن لم يكن لدافع معرفي فلدافع فنيّ يتعلق بمدى حرفية الطرفين في طرح الآراء، ودحض الحجج خصوصا مع الإعداد المسبق لهذه المناظرة كأول مواجهة شخصية بين مرشحَي الرئاسة الأمريكية، الرئيس الحالي جو بايدن، والرئيس السابق دونالد ترامب، والحقيقة أنني عدت بخفي حنين دون معرفة ولا حرفية. المناظرة التي نظمتها شبكة «سي إن إن»، مع بدء العد التنازلي لموعد الانتخابات الرئاسية، المقررة في الخامس من نوفمبر عام 2024 أسفرت عن صدمة الديمقراطيين والعالم في أداء بايدن خلال المناظرة التي استمرت 90 دقيقة، حتى وإن حاول بعضهم التخفيف من أثر هذه الصدمة كما فعل الرئيس الأمريكي الأسبق «باراك أوباما» في تغريدته التي نشرها على منصة إكس قائلا: «المناظرات السيئة تحدث، ثقوا بي، أنا أعلم ذلك، لكن هذه الانتخابات لا تزال بمثابة خيار بين شخص ناضل من أجل الناس العاديين طوال حياته، وشخص لا يهتم إلا بنفسه» وأضاف «الانتخابات ستكون بين من يقول الحقيقة؛ الذي يعرف الصواب من الخطأ وبين شخص يكذب لمصلحته الخاصة» ويبدو أن جدلية الصدق والكذب هذه ورقة متفق عليها بين أعضاء الحزب مما دفع الرئيس بايدن لتكرارها في مناظرته مع خصمه «الكاذب الشرير» دونالد ترامب، كما كررها أمام تجمع لأنصاره في ولاية كارولاينا الشمالية «لم أعد أسير بسهولة كما كنت أفعل سابقا، لم أعد أتكلم بطلاقة كما كنت أفعل سابقا، لم أعد أناظر بالجودة السابقة نفسها، لكنني أعلم كيفية قول الحقيقة» لكن هذا الاتكاء القيمي على ضرورة انتخاب بايدن لصدقه ونزاهته وإخلاصه سقط خلال وقت المناظرة القصير دون حاجة لانتظار التحليلات واستقصاء الرأي بعد ذلك حينما وقع الرئيس بايدن في حرج عظيم جراء «كذبته» المتعلقة بموضوع الحدود «على فكرة حرس الحدود دعموني وأيّدوا موقفي» في حديث عن حماية الحدود وفتحها أمام المهاجرين منددا بموقف خصمه في إغلاق الحدود، ليأتي الرد خلالها عبر حساب حرس الحدود مباشرة لينفي ذلك الادعاء:
«To be clear, we never have and never will endorse Biden.»
الولايات المتحدة الأمريكية التي نصّبت نفسها «شرطيا للعالم» و«حارسا لقيم الديمقراطية والإنسانية» شهدت مناظرة بين رئيسين أمريكيين كانت ملأى بوهْم التفوق والقدرة من الطرفين مع ادعاء المهارة والمعرفة والكفاءة، ولم تخل من توظيف كل الممكن وغير الممكن لكسر الآخر متضمنا التنمر على عوارض التقدم في العمر (رغم أن المرشحين تجاوزا معا الثمانين من العمر مع فارق ثلاثة أعوام بينهما بحسب بايدن خلال المناظرة) والتفاخر بالبرنامج اليومي للياقة البدنية والوزن والطول! ورغم توقع محاولة كل طرف إثبات رأيه بدحض حجة الخصم لكن الأمر ذهب أبعد من ذلك مع تناول الشخصية بعيدا عن الكفاءة كتركيز ترامب على قدرات خصمه العقلية، وتركيز بايدن على سلوكيات ترامب الشخصية متضمنة «خيانته لزوجته أثناء حملها» في محاولة لإثبات سقوط إنسانيته! متناسيا الإنسانية في دعمه لحرب غزة وقتل أطفالها بدم بارد.
ختاما: مهما تابعنا ونتابع من تفاصيل عالم السياسة المعاصرة فإننا لن نعجب إطلاقا من سيل المتناقضات والعجائب تأكيدا لمبدأ السياسات المعدة سلفا، وسيناريوهات ثنائية المال والسلطة، وأن منطق الخصومات السياسية لا يحتكم بالضرورة لمبدأ الكفاءة أو القدرة، بل البقاء لنفوذ الأقوى المتحكم في أوراق اللعبة، لذلك لن يكون مستغربا بعد هذه المناظرة الصادمة مفاجأة حملة بايدن التي جمعت 14 مليون دولار يومي الخميس والجمعة فقط، ونشرت أفضل ساعة لجمع التبرعات مباشرة بعد مناظرة ليلة الخميس، بينما قال منظمو حملة ترامب إن الحملة جمعت 8 ملايين دولار ليلة المناظرة، تعزيزا لفكرة مفادها أن لا منطق في عالم السياسة.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه المناظرة
إقرأ أيضاً:
نهاية الديمقراطية في الولايات المتحدة كانت متوقعة تماما
مثلي كمثل آخرين، منذ أواخر ليلة الثلاثاء، كان هاتفي يعج بالرسائل النصية التي تتساءل كيف من الممكن أن يحدث هذا (كما يعلم بعض أصدقائي وزملائي ومعارفي، كنت مقتنعا تماما بأن دونالد ترامب سيفوز في هذه الانتخابات بسهولة). وبدلا من الرد بالتفصيل على كل رسالة، أقدم لكم تفسيري هنا. على مدى 2300 عام، منذ جمهورية أفلاطون على الأقل، عرف الفلاسفة كيف يفوز زعماء الدهماء والطغاة الطامحون بالانتخابات الديمقراطية. العملية واضحة ومباشرة، وقد شاهدنا فصولها تتوالى أمام أعيننا للتو. في نظام ديمقراطي، يتمتع أي شخص بحرية الترشح لأي منصب عام، بما في ذلك الأشخاص غير اللائقين على الإطلاق لقيادة أو رئاسة مؤسسات الحكومة. إحدى العلامات الواضحة على عدم اللياقة الاستعداد للكذب بكل حماسة وجموح، وتحديدا من خلال تقديم الذات كمدافع ضد أعداء الشعب المتصورين، سواء الخارجيين أو الداخليين. رأى أفلاطون أن الناس العاديين يسهل التحكم فيهم باللعب على عواطفهم، وهُـم بالتالي عُـرضة لمثل هذا النوع من مخاطبة المشاعر ــ وهي الحجة التي تشكل الأساس الحقيقي للفلسفة السياسية الديمقراطية (كما زعمت في عمل سابق). أدرك الفلاسفة دوما أيضا أن هذا النوع من السياسات ليس بالضرورة مقدرا له أن ينجح. فكما زعم جان جاك روسو، تُـصـبِـح الديمقراطية في أشد حالاتها ضعفا عندما يصبح التفاوت في المجتمع راسخا وسافرا بدرجة مفرطة. تعمل الفوارق الاجتماعية والاقتصادية العميقة على خلق الظروف التي تسمح لزعماء الدهماء باستغلال استياء الناس وسخطهم، فتسقط الديمقراطية في نهاية المطاف على النحو الذي وصفه أفلاطون. وعلى هذا فقد خلص روسو إلى أن الديمقراطية تستلزم المساواة الواسعة الانتشار؛ فآنذاك فقط يصبح من غير الممكن استغلال استياء الناس بهذه السهولة. في عملي، حاولت أن أصف بالتفصيل الدقيق لماذا وكيف يتقبل الناس الذين يشعرون بأنهم مُـسـتَـخَف بهم أو مهانون (ماديا أو اجتماعيا) الأمراض ــ مثل العنصرية، ورهاب المثلية الجنسية، وكراهية النساء، والقومية العرقية، والتعصب الديني ــ التي يرفضونها في ظل ظروف يغلب عليها قدر أعظم من المساواة. هذه على وجه التحديد الظروف المادية اللازمة لديمقراطية موفورة الصحة ومستقرة والتي تفتقر إليها الولايات المتحدة اليوم. في الأغلب الأعم، أصبحت أميركا تُعرَّف على نحو فريد من خلال التفاوت الهائل في الثروة، وهي الظاهرة التي لا بد وأن تقوض التماسك الاجتماعي وتعمل على توليد الاستياء والسخط. استنادا إلى 2300 عام من الفلسفة السياسية الديمقراطية التي تشير إلى أن الديمقراطية من غير الممكن أن تدوم في ظل مثل هذه الظروف، فلا ينبغي لأحد أن يفاجأ بنتيجة انتخابات عام 2024. قد يتساءل المرء، ولكن لماذا لم يحدث هذا بالفعل في الولايات المتحدة؟ يتلخص السبب الرئيسي في وجود اتفاق ضمني بين الساسة على عدم الانخراط في مثل هذا الشكل غير العادي من أشكال السياسة العنيفة الـمُـحـدِثة للـفُرقة والانقسام. هل تذكرون انتخابات عام 2008. كان بوسع جون ماكين، المرشح الجمهوري، أن يلجأ إلى الصور النمطية العنصرية أو نظريات المؤامرة حول مولد باراك أوباما، لكنه رفض سلوك هذا المسار، وصحح في مناسبة شهيرة واحدة من أنصاره عندما اقترحت أن المرشح الديمقراطي كان «عربيا» مولودا في الخارج. خسر ماكين، لكنه يُذكَر باعتباره رجل دولة أمريكيا يتمتع بنزاهة لا تشوبها شائبة. بطبيعة الحال، يلجأ الساسة الأمريكيون على نحو منتظم ولكن بقدر أعظم من الدهاء إلى مخاطبة مشاعر العنصرية ورهاب المثلية الجنسية للفوز بالانتخابات؛ فهي في نهاية المطاف استراتيجية ناجحة. لكن الاتفاق الضمني على الامتناع عن ممارسة مثل هذه السياسة صراحة ــ ما تسميه الـمُـنَـظِّـرة السياسية تالي مندلبرج معيار المساواة ــ استبعد اللجوء إلى مخاطبة الميول العنصرية بشكل أكثر صراحة مما ينبغي. بدلا من هذا، كان من اللازم أن يحدث ذلك من خلال رسائل مستترة، والاستدعاء بالإشارة، والصور النمطية (مثل الحديث عن «الكسل والجريمة في المناطق الداخلية من المدينة»). ولكن في ظل ظروف من التفاوت العميق، يصبح هذا الضرب المشفر من السياسة في نهاية المطاف أقل فعالية من النوع الصريح. ما فعله ترامب منذ عام 2016 هو أنه نَـبَـذَ ذلك الاتفاق الضمني القديم، ووصف المهاجرين بأنهم حشرات طفيلية ومعارضيه السياسيين بأنهم «الأعداء في الداخل». وكما عرف الفلاسفة دائما، فإن مثل هذه السياسة الصريحة التي ترفع شعار «نحن ضدهم»، قد تكون شديدة الفعالية. وعلى هذا فإن الفلسفة السياسية الديمقراطية كانت محقة في تحليلها لظاهرة ترامب. ومن المؤسف أنها تقدم أيضا نبوءة واضحة بما سيأتي لاحقا. وفقا لأفلاطون، فإن الشخص الذي يخوض حملته على هذا النحو سيحكم كطاغية. من كل ما قاله ترامب وفعله أثناء هذه الحملة وفي ولايته الأولى، بوسعنا أن نتوقع صِـدق نبوءة أفلاطون مرة أخرى. إن هيمنة الحزب الجمهوري على جميع سلطات الحكومة من شأنها أن تجعل الولايات المتحدة دولة الحزب الواحد. ربما يقدم المستقبل فرصا عَـرَضية لآخرين للتنافس على السلطة، ولكن أيا كانت المنافسات السياسية التي تنتظرنا، فمن غير المرجح في الأغلب الأعم أن تكون مؤهلة كانتخابات حرة نزيهة. ـ جيسون ستانلي أستاذ الفلسفة في جامعة ييل، ومؤلف كتاب «محو التاريخ: كيف يعيد الفاشيون كتابة الماضي للسيطرة على المستقبل». ـ ـ خدمة بروجيكت سنديكيت |