تفرض الأحداث أجندتها الحاضرة بصورة مباشرة، على تفاصيل مشهد الحياة اليومي، هذا الفرض أو التأثير له تأثيرات جانبية كثيرة، لا تتوقف عند التأثيرات المادية (سيئها وحسنها) بل تذهب كثيرا إلى الجانب المعنوي/ الذاتي للإنسان فتحدث فيه تأثيرات مهمة، تعيد تشكيل مواقفه، وآرائه، وقناعاته، وهذا هو الجانب المهم في تأثيرات الأحداث، فالجوانب المادية؛ عادة؛ موقوتة بتأثيراتها اللحظوية.

حتى عهد قريب - ولنقل حتى أواخر القرن العشرين المنصرم - كان هناك رأي عام موجه، والذي فرض عليه هذا التوجيه هو ما يعرف بـ «حراسة البوابة الإعلامية» حيث شكلت هذه البوابة حاجزا غير منكور في شأن محدودية تدفق المعلومات على المتلقي، حيث ما كان يصل إلى المتلقي «الجمهور العام» من معلومات؛ هي تلك التي تسمح بها البوابة الإعلامية فقط، وما يتسرب من معلومات غير ذلك؛ فذلك مرهون وصوله إلى الخاصة من هذا الجمهور العريض، وهذه الفئة «الخاصة» ليس يسيرا أن تتسرب من خلالها المعلومات، لأسباب كثيرة؛ يأتي في مقدمتها حرصها على مصالحها الخاصة؛ أولا وقبل كل شي؛ وما تسمح به الخاصة من معلومات بعد ذلك هو الفتات الأخير، الذي لن يغير من الأمر شيئا، وإن يترك دهشة لدى المتلقي على الرغم من محدوديته، وبساطته، وعدم أهميته بعد ذلك.

السؤال هنا؛ هل محدودية تداول المعلومات أضرت بالوعي العام للجمهور، أم أكسبته شيئا من الحصانة في شأن الهوية، وفي شأن الانتماء، وفي شأن المحافظة على التجذر العرقي؟ لماذا ينظر اليوم؛ إلى سهولة تداول المعلومات وانتشارها السريع - بفضل وسائل التواصل الاجتماعي - على أن سلبياتها أكثر من إيجابياتها؛ وخاصة في شأن حصانة المجتمعات؟ أم أن تكريس هذه الفكرة هي آخر وسيلة من وسائل الاستعمار الذي بدأ يشعر بسحب البساط من بين يديه؟ وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يقلق؛ الطبقات السياسية؛ من شيوع تدفق المعلومات على الجمهور العام؟ أوَ ليس التنوير أحد الأهداف المهمة التي يسعى إلى تحقيقها أي نظام سياسي للارتقاء بجمهوره العريض؛ لليقين الموجود أن تنوير الأمم يعد واحدا من أهم قوى الردع؟ مع التأكيد؛ ووفق معطيات الحاضر؛ أن جمهور اليوم غيره، جمهور الأمس، من حيث حرص كليهما على تنوير نفسه، ويضاف إلى ذلك تطور وسائل التواصل الاجتماعي التي كسرت حاجز احتكار المعلومات، وجسرت الهوة بين أهمية المعلومات وحرص حارسها على إخفائها وبين وصولها إلى الجمهور العريض.

يأتي (طوفان الأقصى) اليوم، وهو الفاضح للأنظمة الموهومة بحصانة نفسها؛ كأكبر محطم لقيود احتكار المعلومة، وأكبر ممول ومسوق للمعلومة، وأكبر معظم للقناعات لدى الجمهور العريض من مشرق الأرض ومغربها، وكأكبر مؤصل لقناعات الرأي العام العالمي، وليس فقط الإقليمي، فمجموعة القيود التي تحطمت أمامه ما كان لها أن تتحطم بهذه السرعة، وبهذا الوقت القياسي - أقل من عام - بينما لو كان في حالات الأحداث العادية لاستمرّ ذلك زمنا طويلا، ولربما لن يحدث أي شيء، وظلت الأمم على جهالتها في استيعاب الكثير من التفاصيل التي كشف عنها هذا الطوفان المبارك، والذي نسأل الله تعالى أن يكتسح كل الشوائب العالقة والمتجذرة التي ألهت الشعوب عن أهدافها، والتي غربت الحقائق عن مآلاتها، والتي عمقت الأدران في صدور أصحاب النفوس الحية؛ صحيح أن الشعب الفلسطيني من دفع ثمن هذا التنوير، ولكنه أنقذ أمما بأكملها، وأجلى كل الصور التي تراكمت عليها الأغبرة طوال العقود من السنين الماضية، وما تشكل الرأي العام الجديد الذي نقرأ مجريات تفاصيله كل يوم ولحظة على أوجه الناس، وأقوالهم، وقناعاتهم، ومواقفهم، ليس فقط من القضية الفلسطينية التي تستل قداستها من قداسة المسجد الأقصى، ولكن من مجموعة القناعات والمراجعات التي يتبادلها الناس عبر مشارق الأرض ومغاربها، والتي نقرأ بعض أمثلتها عبر ما تبثه وسائل الإعلام، وعبر ما يتداول عبر منصات التواصل الاجتماعي.

ما يتصور الآن؛ أن على أصحاب القلوب والنفوس المريضة بفتنة «مسيح دجالي العصر» وما أكثرهم أن يعوا التفريط الذي وصل إليه الجمهور العام في شأن عدم الإيمان باحتكار المعلومات، وأن أكبر المعلومات أهمية لم تعد حكرا على أحد، حيث يراق دم حواجز المحافظة عليها على أرصفة الشوارع، وحتى النفوس التي رُوِّضَتْ لأن تحافظ على شيء من المعلومات لم تعد تلك النفوس التي كانت قبل نيف من السنين، لتوغل قناعات مختلفة، ليس لديها ذلك الهم العام بشمولية تفاصيله، كما يعتقد، وهذا انعكاس لتجاوز الرأي العام مضمون الخصوصية، والسبب في ذلك هو عدم انتظاره لما تجود عليه حراسة البوابة الإعلامية كما كان الأمر من قبل، حيث يستقي معلوماته مباشرة عبر أثير الأزمنة اليومية من الجهات الأربع، فيتخذ منها مواقف، ويتباين مع بعضها، ويقف على الحياد مع بعضها الآخر، فهو حر اليوم أكثر من ذي قبل في تشكيل قناعاته، ومواقفه، فلا توجيه منتظر، ولا تنظيم عبر نصوص من الدساتير والقوانين، وهي الخاضعة للمؤسسة الرسمية، صحيح؛ أن في ذلك خطورة على الأمن الاجتماعي، لحساسية هذا الأمن في المحافظة على الأفراد وخصوصياتهم، ولكن في المقابل، إن هذا واقع يتشكل بفعل الأدوات المتاحة أمامه، ولديه، وبالتالي؛ قد يتبنى وسائل أخرى غير تقليدية لحفظ أمنه الاجتماعي، دون النظر إلى المؤسسة التقليدية لكي تملي عليه نقاطا محددة في كيفية المحافظة على أمنه الاجتماعي.

ولنرى النزعة الفردية في مواقف الأفراد في كثير من الدول التي تنتصر لفعاليات طوفان الأقصى اليوم في كثير من بقاع العالم، حيث لا تنتظر هذه الفردية الحمولة الاجتماعية أو السياسية لأن تنضوي تحت لوائها، بل تتبنى صناعة المواقف من ذاتها، وتسيرها عبر الوسائل التي تراها مناسبة، وإلا فكيف نرى تلك الجموع الطلابية وغيرها من الجمهور العام، وهي تتصادم مع مواقف أنظمتها السياسية للانتصار للإنسانية؟ هذه الصورة في تفاعلياتها المختلفة ما كان لها أن تكون لو أن هناك بوابة إعلامية لا تزال تمارس احتكارها للمعلومة كما كان الأمر في السابق، وهل هذه الظاهرة صحية؟ أتصور لن تكون هناك إجابة محددة بـ «نعم/ لا» ببساطة متجردة من الخوض في التفاصيل، فمن يؤمن بفعل ما هو مقدم عليه، هو الذي يمكن أن يجيب، وقد تكون الإجابة صادمة، وصداميتها هو حقيقة ما يجري في شأن تشكيل الرأي العام اليوم، ولذلك لن تُفهم هذه الصورة المتحركة في هذا الاتجاه إلا من قبل من يقوم بذات الفعل في آنيته اللحظوية، وليس ذلك الذي يُنَظِّرُ وهو جالس على أريكته بين جدرانه الأربعة، ويتكئ على عمر تجاوز مراحل الزمن الحديثة، فقد أكل الدهر عليه وشرب، ولا يمكن أن ينتزع ذاته ليقدمها قربانا لعصر لا يدرك حقيقته وتفاصيله.

تأتي مقولة: «لكل زمن دولة ورجال» لتؤصل في الأذهان حقيقة التجاوز الزمني لذهنية الإنسان، وهذا التجاوز لا بد أن تقابله معطيات مباشرة على الواقع، وفي مقدمتها الأحداث الكبرى، فهي القادرة على تشكيل الآراء، والمواقف، والقناعات، وهذه الأحداث، ليس شرطا حدوثها وفق جدول زمني يضعه الإنسان نفسه ليعيد تشكيل كل المعنويات التي يختزنها، وإنما تفرض نفسها على واقع الناس، ويبدأ الناس في الامتثال لمفرزاتها ونتائجها، وعلى أثَرها تبدأ مرحلة جديدة من التشكل، وهو المفضي إلى بناء واقع جديد، له أن يستمر فترة زمنية، ومن ثم تتجدد الأحداث، لتأتي بواقع مغاير آخر، وهكذا تستمر الحياة وفق تراتبية زمنية غير منكورة، يسخرها الله سبحانه وتعالى لحكمة يعلمها، ولكي تستمر الحياة وفق منظور متجدد يلبي الحاجة الزمنية في كل عصر، ولذلك فمجموعة الاعتراضات التي نسمعها أو نرى ردات فعلها على تحفز الناس، وتحررهم من كثير من تجاذبات الواقع، هي حالة بفعل هذه التجدد، وبفعل هذا النمو في الرأي العام، وتبقى الأحداث هي الوسيلة للانعتاق مما كان عليه الواقع، وللوصول إلى ما يجب أن يكون عليه، وهذا ما ينفي حتمية البقاء لأي تشكل استطاع الإنسان أن يرسم زواياه الأربعة، وقبوله عما يكون عليه دون تغيير، إذن؛ فلتتشكل المواقف، والآراء، والقناعات، ولتتجدد الصورة الذهنية خدمة لجمهور عريض لا بد أن يكون متجددا برُآه وطموحات أبنائه.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الجمهور العام الرأی العام فی شأن ما کان

إقرأ أيضاً:

“الشورى” يناقش مستجدات الأحداث الوطنية والفلسطينية

وقفت هيئة رئاسة مجلس الشورى في اجتماعها الدوري اليوم، برئاسة رئيس المجلس محمد حسين العيدروس، أمام المواضيع المتصلة بنشاط المجلس للعام 1445هـ، ومستجدات الأحداث الوطنية والفلسطينية.

وأشادت الهيئة بالعمليات النوعية للقوات المسلحة اليمنية ممثلة بالقوة الصاروخية وسلاح الجو المسير والقوات البحرية وتصاعد وتيرتها باستخدام الأسلحة النوعية والمتطورة من صاروخي “حاطم 2 وفلسطين والزوارق الحربية المسيرة” التي تم الكشف عنها مؤخراً.

وبارك الاجتماع استهداف القوات المسلحة بأربع عمليات نوعية لسفن تابعة لثلاثي الشر “أمريكا وبريطانيا وإسرائيل” بعدد من الصواريخ المجنحة في البحر العربي والمحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط لعدم امتثالها لتحذيرات القوات البحرية اليمنية.

ونوه الاجتماع بموجهات رئيس المجلس السياسي الأعلى المشير الركن مهدي المشاط منح مهلة لكل من تورط مع أجهزة استخبارات العدوان الأمريكي الصهيوني ممن يبادر بالتعاون طوعاً مع جهاز الأمن والمخابرات قبل أن تطالهم يد العدالة.

واستنكرت الهيئة الإجراءات اللا مسؤولة للسلطات السعودية بحق الحجاج اليمنيين ومنعهم من العودة إلى محطة التفويج بمطار صنعاء بعد إنتهاء شعائر الحج وتحويل وجهتهم إلى مطار عدن، محملة النظام السعودي مسؤولية سلامة الحجاج اليمنيين العالقين وضمان عودتهم إلى مطار صنعاء الدولي دون أي تكاليف أو أعباء إضافية.

وتطرق الاجتماع إلى مستجدات الأحداث في فلسطين وما يرتكبه كيان الاحتلال الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني من مجازر بشعة وحرب إبادة وانتهاك لحقوق الأسرى والمعتقلين.

وأدانت بشدة السلوك الفاشي لعصابات الاحتلال بحق الأسرى والمختطفين الفلسطينيين .. معتبرة تلك الممارسات انتهاكاً سافراً للقوانين الدولية والإنسانية وجريمة حرب مكتملة الأركان ومخالفة واضحة لاتفاقية جنيف بشأن الأسرى.

واستعرض الاجتماع تقرير اللجنة المجتمعية لنشاط أعضاء المجلس خلال شهر ذو الحجة المقدم من نائب رئيس اللجنة المجتمعية المهندس لطف الجرموزي عن الزيارات الميدانية للمرابطين في الجبهات والجرحى في المستشفيات والمشاركة في الاحتفالات بيوم الولاية.

واستمعت الهيئة إلى عرض أمين عام المجلس علي عبد المغني حول تقرير زيارة وفد مجلس الشورى إلى محافظة صعدة للمشاركة في الاحتفالات بذكرى يوم الولاية والتعرف على الصعوبات والمعوقات التي تواجه المحافظة.

وحثت الهيئة على إعداد المقترحات المشفوعة بالتوصيات المناسبة لمعالجة الصعوبات والتحديات التي تواجه المحافظة لرفعها إلى المجلس السياسي الأعلى، مثمنة النشاط الميداني والزيارات العيدية لأعضاء المجلس للجبهات والجرحى ومشاركتهم المستمرة في الفعاليات الرسمية والشعبية والدينية.

وناقشت الهيئة تقرير لجنة حقوق الإنسان والحريات العامة بالمجلس عن الأشخاص ذوي الإعاقة، واستمعت إلى عرض رئيس اللجنة حسيبة شنيف وعضو اللجنة عبدالملك القايفي حول محاور وأهداف التقرير وما خلص إليه من استنتاجات وتوصيات.

وأكدت الهيئة أهمية تضمين التقرير الإحصائيات اللازمة المتعلقة بتزايد حالات الإعاقة بسبب استهداف العدوان المباشر للأعيان المدنية والأحياء السكنية وصالات العزاء والأفراح.

وأقرت هيئة رئاسة مجلس الشورى، تقرير لجنة حقوق الإنسان والحريات العامة وأحالته إلى اللجنة الرئيسية مع استيعاب الملاحظات الواردة عليه.

واطلع الاجتماع على مستوى تنفيذ نشاط المجلس ولجانه الدائمة واللجنة المجتمعية والوحدة الفنية والأمانة العامة للعام الجاري .. وأقر الإجراءات اللازمة لإعداد التقرير السنوي عن مستوى تنفيذ النشاط.

كما أقر الاجتماع الموجهات العامة لمشروع خطة نشاط المجلس وتكويناته المختلفة وكذا مشروع خطة المجلس الواردة ضمن الرؤية الوطنية للعام 1446هـ والإجراءات اللازمة لإعدادها.

سبأ

مقالات مشابهة

  • ما المطلوب من الحكومة الجديدة في ملف التعامل مع الرأي العام؟
  • أحمد موسى عن التشكيل الوزاري: حكومة جديدة لتحقيق مطالب الرأي العام
  • “الشورى” يناقش مستجدات الأحداث الوطنية والفلسطينية
  • الاستخبارات التركية تحذر المحرضين على العنف ضد السوريين
  • الجبورى: تقاس قدرات الدول وإمكاناتها بمدى تحكمها في تكنولوجيا المعلومات والإستفادة من البيانات الضخمة
  • البودكاست والرأي العام
  • أريستوفيتش: "رؤوس الأوكرانيين ستنفجر" بسبب ثرثرة زيلينسكي عن المفاوضات
  • مكي المغربي: الرأي العام سيقول هؤلاء جائوا لتلميع صورة مقابر الدكتور فلان
  • نقابة المحامين: هذا ما حدث عقب اجتماع الهيئة العامة ونحيل الملف للنائب العام