منذ إن تولى جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- مقاليد الحكم في البلاد، تجلى بكل وضوح اهتمام، وتركيز جلالته -أعزه الله- على معالجة ملف التوظيف وقضية الباحثين عن عمل، وتوفير الحياة الكريمة للمواطنين والارتقاء بمنظومة الحماية الاجتماعية في كافة أرجاء الجغرافية العمانية. وأشار في خطابه السامي في 11 من يناير 2022 إلى «استبشارنا بما أنجز في ملف التوظيف رغم صعوبة المرحلة» فيما تطرق جلالته -حفظه الله- خلال الانعقاد السنوي للدورة الثامنة لمجلس عمان في 18 من نوفمبر 2023 «بربط مناهج التعليم بمتطلبات النمو الاقتصادي»، بل والتقى جلالة السلطان -أعزه الله- في 28 من فبراير 2024 بممثلين عن القطاع الخاص والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، شدد خلالها على «التأكيد على أهمية بناء شراكة فاعلة بين القطاعين الحكومي والخاص حتى يتمكن القطاع الخاص من القيام بدوره المنشود في إقامة المشاريع والاستثمارات التي تسهم في التنويع الاقتصادي ونمو الناتج المحلي الإجمالي وتوفير فرص عمل للمواطنين».

من هذا السياق الرفيع في مرامه ومقاصده، تأتي قضية الباحثين عن عمل في بعدها الوطني والاقتصادي والأمني، حيث بذلت بدون شك جهود جبارة في إحلال العمانيين في العديد من القطاعات بعضها حقق نجاحات ملفتة، فيما تعثرت قطاعات أخرى بعض الشيء، وتستوجب معالجة أسباب ذلك بواقعية وشفافية. الجدير بالذكر في هذا السياق، أن الأجهزة العسكرية والأمنية تعد مفخرةً بحق في إنجازاتها المشرفة في مسألة توطين وتعمين الوظائف رغم التعقيد الهائل لبعضها وبالذات في قوات السلطان المسلحة وشرطة عمان السلطانية، ولا تزال هذه المؤسسات تستقطب المخرجات العمانية بكل كفاءة ومهنية.

إننا في عمان 2024، لربما نحتاج الآن إلى رؤية «ثورية» تغير من قواعد اللعبة في ملف التوظيف وليس إلى اجتهادات نمطية، بل ونحتاج إلى تخريجات وطنية تنقل السجال، وتداول الأسئلة حول قضية الباحثين عن عمل من هذه السياقات الضيقة بين مختلف الوحدات الحكومية، ومجلس الشورى والقطاع الخاص وغيرها. وأؤكد أن ما بذل لا يمكن الاستهانة به في ظل التحديات المالية والاقتصادية للدولة، ولكن أعتقد أننا بحاجة لمقاربات جديدة تضع هذه القضية ضمن بعدها الوطني الملائم.

وانطلاقًا من حساسية هذا الملف المرتبط ارتباطًا وثيقًا بالاقتصاد العماني وقدرته على توليد مزيد من فرص العمل، فإنني أقترح عقد «قمة حكومية» شاملة على أعلى المستويات تستقطب كافة أصحاب المصلحة من مجلس الوزراء والأجهزة العسكرية والأمنية والقطاع الخاص ورجال الأعمال ومختلف الفعاليات الأكاديمية والتعليمية في البلاد ودعوة الكفاءات العمانية المتحققة في مجالاتها التي تعمل خارج البلاد، بهدف تدارس وتداول سؤال التوظيف وتحدياته وعقباته واختلالات سوق العمل في ظل التباسات شائكة حول الحد الأدنى من الأجور ومدى جدواه، وقضايا مثل تقييم نضج تجربة دمج وزارة القوى العاملة ووزارة الخدمة المدنية وانعكاس ذلك على سوق العمل نفسه، وكذلك السجال حول الانفتاح الاقتصادي واستقطاب الاستثمار الأجنبي ومساهمته في استحداث فرص عمل حقيقية من عدمه، وكل ما يتعلق بالاستثمار في رأس المال البشري العماني. ومن الملفت أننا لغاية الآن ما زلنا نتداول أسئلة تبدو شبه بديهية مثل: الأعداد الحقيقية للباحثين عن عمل، وتعريف الوظائف المتوسطة والعليا وما إلى ذلك فضلا عن أن تصريحات بعض المسؤولين في هذا الصدد، لعلها غير موفقة رغم حسن النية.

إضافة لما سبق، فإن تحميل وزارة العمل ملف التوظيف وحدها ربما أمر تجانبه الواقعية فجوهر الأمر يتمحور حول الاقتصاد أولًا وأخيرًا كما أسلفت في مقال سابق، ولذلك أتصور أننا لن نخرج من هذه الدائرة الضيقة من التعاطي مع ملف التوظيف بهذا المنطق وهذه الثقافة وأدعو إلى أن تمثل قضية التوظيف إحدى أهم الأولويات لأبنائنا وبناتنا إلى دعوة شخصيات وأعلام اقتصادية من خارج البلاد ومن جامعات عريقة مثل: هارفارد وستانفورد وأكسفورد وكيمبريدج ومن الجامعات السنغافورية وغيرها لإثراء الحوار والنقاش حول سؤال التوظيف والاقتصاد وسوق العمل واستثمار رأس المال البشري العماني، وكيفية إحداث نقلة في توجهات وممارسات وممكنات القطاع الخاص في هذا الجانب ضمن الدعوات لتكامله مع مستهدفات «رؤية عمان 2040» وما الذي ينقصنا الآن من ممارسات واتجاهات واستراتيجيات ومبادرات ولعله من المفيد الاستنارة والاستئناس بمساهمات بيوت خبرة عالمية مثل: (McKinsey & Company) و(Boston Consulting Group) و (BAIN & COMPANY) وما في حكمها من مؤسسات ضخمة لها خبرة دولية واسعة في تقديم المشورة الاستراتيجية في كافة الحقول الحيوية التي تركز عليها الدول الفاعلة.

إن عقد مثل هذه «القمة الحكومية» بمثل هذا التحضير والاستعداد من شأنه أن يعيد الزخم لقضية التوظيف والباحثين عن عمل وارتباطات ذلك بوجود اقتصاد فاعل مولد للوظائف، ويضعها في إطارها الوطني المناسب من الاهتمام والأولوية والإثراء المعرفي والاستراتيجي.

ورغم الإقرار بأن ما يقوله الماليون والمحاسبون، لا سيما وأن أرقامهم لا تخطئ، وفيها الحد بين الجد واللعب إلا أنه وبذات الأهمية فإن صيرورة الشعوب ومآلاتها وحياتها الكريمة وتطلعاتها نحو مستقبل مشرق لا تمر دومًا تحت أقواس الأرقام ووطأة الموازنات و«البالانس شيت»، فما يقوله هؤلاء الخبراء من أطروحات ليست حقائق مطلقة ولأنها كذلك فيما يخص الاقتصاد العماني فيجب تحديها واستفزازها بجهود جبارة وإنجازات حقيقية عبر التوسع في برامج التنويع الاقتصادي ومكونات الاقتصاد العماني سعيًا لإحداث نقلة «ثورية» في معدلات النمو وخلق فرص العمل.

لقد حققت الحكومة العمانية بفضل التوجيهات والمتابعة السامية إنجازًا ضخمًا في ضبط الأداء المالي للدولة وهناك تطلع لبذل انتصارات كبرى على جبهة الاقتصاد، علمًا أن الجهود المبذولة حاليًا لجهة استقطاب الاستثمار الأجنبي وتشجيع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة (رغم التحديات التي تواجه استمراريتها) والإحلال، كلها جهود جبارة لا يمكن الاستهانة بها ولكن ما لم تندفع أشرعة الاقتصاد العماني نحو استحداث وخلق فرص عمل للمواطنين توفر العيش الكريم، وتعزز الاستقرار المجتمعي، فإنه يعيد الأسئلة إلى منابعها بصورة أكثر إلحاحًا ويحار المرء كيف تنجح دول في الحصول على ملايين الفرص الوظيفية في بلادنا ونتعثر نحن في خلق فرص عمل تستوعب موجات الخريجيين السنوية، التي نتباهى بها من أعرق الجامعات المحلية والدولية، وتصدم فيما بعد وتضيق بها السبل أمام محدودية الوظائف الحكومية وفي القطاع الخاص الذي يعتمد في كثير من حراكه على الإنفاق والمشاريع الحكومية.

أعتقد أننا ينبغي أن نخرج من هذه الثقافة المعطلة والنمطية التي تجاوزها الوقت عبر اتخاذ الخطوة الأولى من خلال عقد «قمة حكومية» شاملة تتدارس وتناقش وتتخذ خطوات وإجراءات وبرامج قابلة للتطبيق والقياس وخارطة طريق تتكامل مع رؤية عمان 2040 ومستهدفاتها، وستكون رسالة طمأنينة وإيجابية لعشرات الآلاف من الخريجين والباحثين عن عمل وأسرهم التي تكبدت الكثير، وبدعم من الدولة لتدريس أبنائهم وبناتهم في مختلف الجامعات والمؤسسات التعليمية والتأكيد على أننا في عمان 2024 ماضون سويا في التحليق بهذا الوطن نحو مجده وسؤدده وبما يليق بعمان والعمانيين قيادةً وشعبًا.

يحيى العوفي كاتب ومترجم عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الاقتصاد العمانی القطاع الخاص ملف التوظیف فرص عمل عن عمل

إقرأ أيضاً:

الأمن الوطني يعزز قدراته التكنولوجية بطائرات درون وتقنية الذكاء الإصطناعي

زنقة 20 | متابعة

كشف الأمن الوطني عن خطته لتعزيز الأمن باستخدام أحدث التقنيات، حيث تم اقتناء 26 طائرة درون للمراقبة لتعزيز قدرات الرصد والمتابعة الأمنية.

كما تم تطوير تطبيق ذكي يعتمد على الذكاء الاصطناعي لبناء قاعدة بيانات وطنية متكاملة للصور التقريبية للمشتبه بهم، تتيح تحديد هوياتهم بسرعة ودقة عالية.

إلى جانب ذلك، تم تعميم منظومة حماية بصرية حضرية تضم 4300 كاميرا، موزعة بين الكاميرات المحمولة من طرف أفراد الشرطة وتلك المثبتة على المركبات الأمنية، وجميعها متصلة بقاعات القيادة والتنسيق.

مقالات مشابهة

  • الأمن الوطني يعزز قدراته التكنولوجية بطائرات درون وتقنية الذكاء الإصطناعي
  • تطوّر جديد في قضية دهس عنصر قوى الأمن ببيروت.. اليكم التفاصيل
  • اعتقالات في صفوف عناصر أمن في الرباط وتمارة وسلا في قضية تاجر مخدرات
  • الأمن الوطني يُحبط تهريب مخدرات ويقود حملة متابعة واسعة داخل السجون
  • «الأزهري» يشيد بدور وزارة العمل في ملف التوظيف الحكومي وميكنة الخدمات
  • انطلاق النسخة الثامنة من معرض التوظيف السنوي جوبزيلا
  • ابتدائية طنجة توزع 71 سنة على المتهمين في قضية " مجموعة الخير " وسط إغماءات وسط عائلات المتهمين
  • العمل الحر.. يعزِّز الاقتصاد الوطني ويحفّز نمو سوق العمل
  • وزير العمل يبحث مع رئيس «التنظيم والإدارة» ملفات التوظيف الحكومي
  • الطائرات المسيّرة الصينية.. الحلول الفعالة التي تهدد الأمن القومي الأمريكي