مُبادرة البريمي.. مُلهمة للمحافظات الأخرى
تاريخ النشر: 30th, June 2024 GMT
د. عبدالله باحجاج
تشهدُ قضية الباحثين عن عمل الآن زخمًا وطنيًا مُتجدِّدًا، ويفتح الآفاق للحلول الوطنية- الدائمة والمُؤقتة- أكثر من أي وقت مضى، بعد تقرير اللجنة المؤقتة للباحثين عن عمل التابعة لمجلس الشورى، وقبل هذا التقرير مبادرة المجلس البلدي لمحافظة البريمي؛ فالإحصائيات الواردة في تقرير الشورى عن فرص العمل في القطاع الخاص، ومطالبة اللجنة بتطبيق منفعتي الباحثين عن عمل وربات البيوت، تفتحُ كل بوابات التفاؤل.
كما إننا نعتبر مبادرة المجلس البلدي لمحافظة البريمي النموذج المثالي لدور اللامركزية في المساهمة في حل قضية الباحثين من المنظور المحلي بكل محافظة؛ مما يُحتِّم علينا تعزيز هذه التوجهات الوطنية، وإنضاج أفكارها ومساراتها. كما إن التقرير والمبادرة يُعززان رهاناتنا على اللامركزية في الحل من منظور تصفير العدد التراكمي للباحثين عن عمل المُقدر بأكثر من 100 ألف باحث عن عمل.
وعملية التصفير بمثابة هدف أعلى مُستهدف خلال فترة زمنية قصيرة باعتماد آليات وزارة العمل كالتدريب والتأهيل والإحلال والتعمين، حتى لا تتأثر الإنتاجية بهذه النقلة في الكوادر البشرية. بالتالي لم تعد قضية الباحثين عملًا مركزيًا حصريًا، وإنما أصبحت من صلاحيات سُلط متعددة مركزية ولامركزية بعد تبنِّي نظام المحافظات عام 2022؛ حيث إن المادة (6) من النظام تمنح كل محافظة صلاحية البحث وصناعة فرص العمل، وهذا ما يُقدم عليه المجلس البلدي بمحافظة البريمي؛ حيث إنه لا ينتظر صناعة الفرص فحسب، وإنما يبحث عنها في القطاعات الاقتصادية والتجارية القائمة في مجتمعه المحلي لأبناء المحافظة. وقد رصدنا هذا خلال اجتماعه السادس الذي استضاف فيه عددًا من المختصين من إحدى الشركات لمناقشة آلية التوظيف فيها.
لم يحظ هذا النهج ونتائجه بالاهتمام الإعلامي والصحفي المُستحق في حجمه وزمنه، واكتفي بخبر مقتضب، رغم أن طبيعة مرحلتنا الوطنية تُحتِّم مناقشة وتحليل مثل هذه الخطوات العملياتية لكي تصل رسائلها الى المجتمع. وهذا لم يحدث ربما بسبب الاعتماد على الإعلام الحكومي المركزي المُنشغِل بكامل التراب الوطني، وهنا تدعو الحاجة الوطنية إلى إعلام لا مركزي يدعم توجهات ونتائج اللامركزية، إذ إن كسب المجتمعات المحلية غاية سياسية مُلحّة كذلك، وفيها التدرج للشمولية، والبنية التحتية للإعلام المحلي جاهزة، وقد كُنّا منذ بضعة سنوات ضمن فريق عمل ضم مديري عموم في الإعلام برئاسة سعادة ناصر السيباني نائب رئيس الهيئة العامة للإذاعة التلفزيون (سابقًا) قبل تقاعده، وقمنا بزيارة الكثير من محافظات البلاد؛ بما فيها محافظة البريمي لتجهيزها لمثل هذه المهام المحلية الوطنية، وذلك بصفتنا خبير إعلامي في مكتبه.
ولا شك أن نقل تجربة المجلس البلدي للبريمي ومتابعة نتائجها المتحققة أولًا بأول؛ سواءً كأخبار أو تحقيقات أو متابعات، سيُعزِّز الثقة المجتمعية في المسير، وترفع المعنويات، وتكون هذه التجربة عابرة للمحافظات الأخرى. وهنا لا ننفي مثيلاتها في بقية المحافظات، لكنها لم تظهر فوق السطح؛ فتصوراتنا لتجربة البريمي أنها تصُب فعلًا في تطبيقات نظام اللامركزية؛ إذ يلتقي الأعضاء المُنتَخَبون والمعيَّنُون للمجلس البلدي برئاسة سعادة المحافظ مع رؤساء ومختصي الشركات المحلية؛ لبحث توفر فرص عمل والاتفاق على آلية التوظيف وفق مسارات وسياسات الدولة. ولنتصور مشهد تعميم هذه التجربة في كل محافظات البلاد، من خلال قيام كل محافظة أولًا بحصر عدد الباحثين فيها، ومن ثم إجراء لقاءات مع الشركات المتواجدة في حيزها الإداري، والاتفاق على توظيفهم أو على الأقل عدد منهم.
هذه خطوة نراها أولية قبل تطبيق منفعتي الباحثين وربات البيوت، وذلك لمعرفة العدد المتبقي من الباحثين عن عمل الذين ستشملهم المنفعتان. والرهان ينبغي أن ينحصر أولًا على توفير فرص العمل للباحثين تفعيلًا للامركزية، مع التذكير بأنَّ يكون هناك نصيب مُخصَّص للمحافظات التي تقل فيها الأنشطة الاقتصادية والتجارية، وهذه العملية ستعطي زخمًا وطنيًا وشعبيًا كبيرين ومستدامين أكبر لو اقترن الحدث بمنفعة الباحثين. صحيحٌ أن هذه المنفعة ستصنع هذا الزخم، لكن مداها سيكون قصيرًا لدواعٍ كثيرة؛ أبرزها كون المنفعة لا تمثل حلًا مُستدامًا، وإنما وسيلة مؤقتة.
وآلية تنفيذ مقترحنا في التصفير أو على الأقل تخفيض العدد يكون من خلال نظام المحافظات، واستحداث منصب وزير دولة مُكلَّف بملف التصفير. وعادة منصب وزير دولة تلجأ إليه الدول من أجل تعيين تكنوقراطيين بهدف معالجة ملفات وطنية مُهمة مؤقتة أو دائمة، ويكونون تابعين لمجلس الوزراء، ومُنسِّقين مع الوزارات المعنية والجهات المختصة؛ وذلك لضمان التنفيذ، والتنسيق بين المحافظات للحرص على سيادة المفهوم الوطني لتطبيق هذا المقترح. وعندما ذكرنا في مقدمة المقال أن رهاناتنا على التصفير قد تعززت بعد تقرير اللجنة المؤقتة للباحثين عن عمل بمجلس الشورى، فإن ذلك تدعمه الإحصائيات والأرقام الرسمية الواردة فيه؛ فنسبة التعمين في القطاع الخاص منخفضة جدًا مقارنة بالقطاع الحكومي، فقد انخفضت في عام 2023 الى 21.5% مقارنة مع عام 2021 عندما بلغت 25.3%؛ وذلك يرجع الى ارتفاع اعداد العمالة الوافدة بمقدار 7%، رغم حالة التعمين المُخطَّطة. وكشف التقرير أن عملية التوظيف في القطاع الخاص غير متوازنة وتسير ببطء، مقارنة مع عدد الباحثين عن عمل وعملية التوظيف بالقطاع الحكومي؛ إذ يقوم القطاع الخاص بتوظيف أكثر من 6 وافدين مقابل كل عُماني، كما إن ارتفاع العمالة الوافدة بمعظم الأنشطة دليل على وجود فرص وظيفية يُمكن إحلال العمانيين فيها. وحسب التقرير فإن الوظاف الجديدة في عام 2022 كانت من نصيب الوافدين، ما عدا 4% منها فقط!
ومهما يكن؛ فهي نسبة منخفضة، وتفتح مجالات التوظيف عن طريق سياسات وآليات وزارة العمل؛ كالتدريب والإحلال والتعمين، وهنا نُقدِّمُ سيناريو اللامركزية الذي يُمكن أن ننطلق منه لتحقيق هدف التصفير كغاية عُليا، من خلال: إنشاء لجنة الباحثين عن عمل في كل مجلس بلدي، تتولى مهمة القيام بحصر عدد الباحثين والشركات في كل محافظة، وحصر بيانات العاملين في كل شركة حسب المجموعات المهنية والقطاعية، لمعرفة نسب التعمين فيها من عدمها، في ضوء ما توصل إليه التقرير عن وجود علاقة عكسية بين أعداد العمالة الوطنية والعمالة الوافدة؛ أي أنه كلما زاد عدد العمالة الوافدة انخفض عدد العمالة الوطنية أو ارتفعت بنسب ضئيلة جدًا، والعكس صحيح. على أن يسبق إنشاء اللجنة مباركة حكومية لهذا التوجه، ومن ثم يعقد كل محافظ لقاءات مع رؤساء الشركات لإقناعهم بهذا التوجه الوطني، وقد فتحنا حوارات مع بعض كبار المسؤولين في الشركات، واعتبروا اقتراحنا مُمكِنًا إذا ما كان مُقترنًا بمباركة حكومية من مجلس الوزراء.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
بين دفتين لن تتكلم لغتي للأديب الناقد د. عبد الفتاح كيليطو
الأديب الناقد د.عبد الفتاح كيليطو، كالعادة في كتاباته لا تسطيع فهم منهجه ورموزه ومغازيه من الكتابة إلا لمامًا، وهو أمر ليس مملا بالنسبة لي، بل أدخل في تحدٍّ شخصي لفهم أغوار كتاباته ومراميه التي يرمي إليها ويقصدها، وهو من الأدباء القلائل الذين يمتازون بهذا الأسلوب في الكتابة.
تغرق معه عندما يغوص في عمق اللغة ومقارباتها مع اللغات الأخرى، حتى لتظن أنك لن تنجو من هذا الغرق، ثم فجأة يناولك مجدافا أو خشبة تنجيك من الغرق، إنه سحر الكاتب الذي يخادع به القراء، ويجعلهم أسارى سحره النفاذ، بل بسحره هذا يجعلهم هائمين تائهين، لا يقدرون على ترك الكتاب أو التنازل عنه للحظة، يحاولون فهم ما فيه بصبر وأناة.
وأضيف إلى ذلك أن كل كتاب من كتاباته التي قرأتها غير هذا الكتاب عالم آخر غير مكرر، فالرجل موسوعي بامتياز، له قدرة عجيبة في توظيف قراءاته المتعددة في الأدب العربي أو الآداب الأخرى، بحيث يجعل من قراءاته تلك نصوصا وإشعاعات ينطلق بها كالغيث المنهمر علما وفكرا وأدبا وحكمة، دون أن يتنازل عن هويته وفكره.
أما فكرة هذا الكتاب "لن تتكلم لغتي" فقائمة على لغتنا الأم "العربية" بوصفها أهم مكون ثقافي لهويتنا وفكرنا. إلا أننا في عالم متعدد العوالم ومتعدد الثقافات واللغات، ويطرح تساؤلات عن العلاقة بين الفرد ولغته الأم، وكيف يمكن للغة أن تؤثر في تشكيل فهمنا للعالم من حولنا، وكيف يمكن أن نخفف من حدة الصراع بين اللغة الأم واللغات الأخرى، سواء على مستوى الاستعمال اليومي أو على مستوى التأليف والكتابة. يستخدم كيليطو في هذا الكتاب أسلوباً سردياً مميزاً، حيث يمزج بين ما يحدث في الواقع والنقد الأدبي، وهو ما جعل الكتاب أشبه برحلة فكرية حوارية في عالم النقد الأدبي.
كيليطو في كتابه هذا "لن تتكلم لغتي" أي لغة يقصد، وهو يتقن مع لغته الأم لغتين أخرييْن تحدثا وكتابة "الفرنسية والإنجليزية"، إنه يعكس تجربته للقراء عبر تعاملاته مع الآخرين ممن لا يتحدثون لغته الأم "العربية" وما هي المعضلات والمشكلات والأزمات التي يواجهها ككاتب عربي خاصة أو ما يواجهه العربي المعاصر عامة، وهو ما يوجد صراعا داخليا على مستوى الهُّوية التي ينتمي إليها؛ فضلا عن الغربة والتعدد الثقافي والمعاناة التي يجدها العربي في مجتمع متعدد اللغة والثقافة والفكر.
من هنا يتبين لماذا لا يريد الكاتب أن يتكلم الأجانب لغته "لن تتكلم لغتي" مدافعا عنها ومنافحا عن مكانتها، فقال في كتابه هذا: "في يوم من الأيام تبين لي أنني لا أحب أن يتكلم الأجانب لغتي. كيف حصل هذا؟ كنت أعتقد أنني شخص متفتح، متسامح، يتمنى الخير للغرباء كما يتمناه لذويه، وفضلا عن ذلك كنت أحسب أن من واجبي أن أعمل في حدود إمكانياتي، على أن يكون للغتي (إشعاع) وأن يتزايد عدد الذين يتحدثون بها .. إلخ، لكن هذا الهدف النبيل توارى يوم أدركت أنني أكره أن يتكلم الأجانب لغتي، كانت هذه الكراهية في الواقع قائمة على الدوام، ولكنني لم أكن على وعي بها، فلم أكن أجرؤ على البوح بها لنفسي، وبالأولى لغيري، لكنني أطرحها الآن على القارئ، وعلى الثقافة العريبة؛ لنتساءل كيف تعاملت هذه الثقافة، ماضيا وحاضرا مع لغتها ومع اللغات الأخرى؟" انتهى.
"لن تتكلم لغتي" استعمل الكاتب أداة النفي "لن" الزمخشرية التي تفيد النفي القطعي، وهي صرخة مدوية، تعبر عن قلقه وخوفه على لغته وهويته وثقافته؛ لئلا تتآكل وتندثر في هذا العالم المتعدد من اللغات الأخرى والثقافات، فهو من ناحية يشعر أنه كان من واجبه العمل لإغناء الآخرين بلغته ويتسامح معهم وهو باب من أبواب التسامح والانفتاح على الآخر؛ لكنه اكتشف أخيرا أن استعمال الأجانب للغته يعرّضها إلى الخطر؛ إذ لا يتعاملون معها مثل ما يتعامل هو معها، ولا يقدرونها التقدير المعتبر الذي يقدرها هو، وهي بهذه الطريقة تضيع وتندثر.
أي تكلم بلساني وإلا فاغرب عن وجهي أو اصمت. وهو هنا يحكي عن حالات شائعة، لماذا لا تتكلمون مثلما أتكلم؟ لماذا لسانكم مختلف عن لساني؟ فالكاتب يشعر بالغضب والسخط عندما يجهل الآخر لغته، بل يزداد حنقًا وغمًّا لو تعمّد الآخر التحدث بلغة أخرى ليستهزئ به ويغيظه أو حين يتكلمان لغة مشتركة، ويتعمَّد الآخر استعمال كلمات أو ألفاظ فلسفية عميقة لا يفهمها الكاتب؛ مما يجعل الجلوس معه شيء لا يُطاق. هنا تطير به الذكرى إلى مقامات الحريري عندما يتقدم أبو زيد السَّرُوجي وابنُه إلى أحد القضاة ويخاطبانه بكلام غير مفهوم. فيقول لهما: "إمَّا أن تُبِينا، وإلا فَبِينا". إما أن تتكلما بوضوح أو فاغربا عن وجهي.