khalaph@hotmail.com

algassas@hotmail.com

osmanhamed@hotmail.com

استجابةٌ أولى تستبطِنُ نداءَ الكتابة، فلِلبَيَانِ صهيلُه ونجواه

محمَّد خلف

أوَّل مارس 1989

لم نقرأ شعرَه، لكنَّنا رغم ذلك ممتلئونَ بشِعرِيَّتِه. هكذا تُبرِزُ الإلفةُ فتنتَها أو هكذا تُعِلِنُ الكتابةُ فَرقَها. لم تذهب مكتباتُنا مذهبَ عِشقٍ في اتِّجاهِ صوتِها العموديِّ أو هكذا كلَّمني الشَّرقُ، بيد أنَّ للصُّدفةِ منطِقَها الحضاريَّ الغلَّاب، فكان للمكانِ هيئتُه الَّتي استضافت ظاهرةُ الشِّعرِ العربيِّ المعاصرِ في المغرب وحداثةُ السُّؤال.

هيأ الشَّرقُ للشِّعرِ خياماً وبيوتاً ومعتقلات، فكان للبيتِ هيئةُ الأسرِ والقبرِ معاً. أيُّ شعرٍ يُقاسِمُه العقلُ كسرةَ الخبزِ ودفءَ الفراش؛ فللأسرِ اتِّساعُه اللَّامرئيُّ، ولحياةِ الأسرِ عُمقُها النَّوعيُّ كذلك. ولكن أليسَ للأسيرِ أن يخرُجَ يوماً على سلطةِ الأسر. إنَّنا نشهدُ الوعيَ العربيَّ يتقدَّمُ عبر مسارِه التَّحرُّريِّ، حَيِيَّاً، من خليجِ الكلامِ إلى محيطِ الكتابة. فلنستأنِفَ النَّظرَ في وُجهَةِ تحرُّرِه، ولنتبيَّنَ منطِقَ تقدُّمِه، ولنبدأ محاورتَه، عبر بنيسَ، بكلِّ المحبَّةِ، في بيانِ الكتابة.
يرسمُ البيانُ منذُ البدءِ فضاءَ قلقِه الأنطولوجيِّ؛ إن لم نقُل، ترفيعاً لفهمِنا المعاصرِ، منطقَه الجدلي. الكتابةُ ضدَّ كلِّ سلطة: الجاهزُ، المغلقُ، المستبِدُّ. لكن، لهزيمةِ تلك السُّلطةِ لا بُدَّ من إضفاءِ مشروعيَّةٍ ما لسلطةٍ مضادَّة؛ وبحسب بنيسَ: سلطةُ تشريعِ البداية؛ سلطةُ تأسيسِ المنطلق، تلك السُّلطة الَّتي لا تقومُ الكتابةُ بدونِها. الكتابةُ ضدَّ كلِّ سلطة، لكنَّها في ذاتِ الوقتِ لا تقومُ بدونِ تعزيزِ الدَّعاماتِ الأوَّليَّة لتلك السُّلطة. هل نحنُ بهذا التَّصريفِ نضَعُ الكتابةَ أمام استحالتِها؟ منطقُ التَّماثُلِ وحدُه هو الَّذي يضعُنا أمام تلك الاستحالة. إن لم تكنِ الكتابةُ بدءَ تشريعٍ لتكوينٍ جديد، فهي -إذاً- محضُ تجريبٍ مبهَم، جبرا من الكلمات الجوفاء، منطقٌ يتأسَّسُ خارج اللُّغةِ والجسدِ والتَّاريخ. هل يبدأ الهدمُ دون تأسيسٍ ومواجهة؟ أن تصنعَ مِعولاً (تأسيساً) ثم تُحسِنُ استخدامَه (مواجهةً)، هو أن تشرعَ في تهشيمِ المستبدِّ، في خلخلةِ سلطةِ الذَّاكرة، وفي انتهاكِ حُرمةِ السَّائد.
يُحاوِلُ البيانُ سَفَرَاً جماعيَّاً باتِّجاهِ الرَّاهن. كيف يظَلُّ هذا الرَّاهنُ المقصيُّ منكفئاً على وَحشَةِ منفاه، كيف يُخفي تعدُّديَّةَ مسالِكِه، كيف يطمئنُّ، في السِّترِ، إلى وحدةِ تناقضاتِه؟ بأيِّ حرفٍ خارقٍ نُدَشِّنُ اجتماعَنا إليه، بأيِّ تدخُّلٍ سافرٍ نُقارِبُ وقتَه المستعصي؟ يستقصي بنيسُ عن فشلِ الشِّعرِ المغربيِّ المكتوب باللُّغةِ الفصحى ويلتمِسُ في علاقةِ الهيمنة الَّتي ترهَنُ الشِّعريَّ للحديثِ السِّياسيِّ مبرِّراً للتَّراجعِ ومسوِّغاً للانقطاعِ لدى أغلبِ شعراءِ مرحلةِ ما قبل السَّبعيناتِ في المغربِ العربي. ضدَّ هذا الانقطاعِ الَّذي يُبطِلُ شرائطَ التَّحوُّلِ الشِّعريِّ، يهجسُ البيانُ برؤيةٍ مغايرةٍ للعالم، رؤيةٍ تتملَّكُها الطَّليعةُ الشِّعريَّة العربيَّة، وتهزِجُ بها في طقسٍ جماعي. الكتابة، بهذا المعنى، محفلٌ شعبيٌّ لإعادةِ النَّظرِ في الجماليِّ، الاجتماعيِّ، التَّاريخيِّ، السِّياسيِّ؛ أفقٌ ممتدٌّ؛ ثورةٌ محتملةٌ ضمن الثَّورةِ الاجتماعيَّةِ المحتملة. تلك الرَّجفةُ الخفيفةُ في الأعماقِ تفتحُ للشِّعرِ كُوَّةً جديدة، مساراً مغايراً، أفقاً يتناسَجُ النَّصُّ فيه وفقَ منوالٍ يُؤالِفُ بين التأسيسِ والمواجهة، وقتاً يتراوحُ بين التَّأمُّلِ والممارسة، حضرةً تُقامُ على القشرةِ كمدخلٍ أوحدَ إلى لُبِّ السُّؤال.
المغامرةُ هي القاعدةُ الأولى لنصِّ التَّأسيسِ والمواجهة: لا بدايةَ ولا نهاية، فالكتابةٌ نفيٌ لكلِّ سلطة. ما يبدأُ لِينتهيَ مآلُه العفن؛ ينتهي النَّصُّ، لِينموَّ في اتِّجاهِ التَّحوُّلِ، بحثاً عن شَفَقٍ غامضٍ وانفتاحٍ جديد؛ ينتهي النَّصُّ، لِينموَّ في اتِّجاهِ المطلق، نفياً لزمنِ الموتِ واجترارِ العدم. الكتابةُ خلقٌ ونموٌّ ناهضٌ على الاحتمال؛ فعلٌ مضادٌّ لكلِّ نموذجٍ مسبق؛ وَجْدٌ يبحثُ عن منطقِ تكوينِه. ما يبدأُ لِينتهيَ مُنافٍ للإبداع؛ إنَّه المطمئنُّ إلى الأصل. ضدَّ هذا الوهم، تستنطِقُ الكتابةُ ما ذُهِلَ عنه في المُبهَمِ، في الغريبِ، في الهامشِ المنسيِّ من طرفِ المعيش.
ينهضُ النَّقدُ كأساسٍ للإبداع، وبما له من وشائجَ بالتَّحوُّلِ، قاعدةً ثانية للكتابة. النَّقدُ فعلٌ وترياقٌ مضادٌّ لسلطةِ الذَّاكرة. هو ما سَكَتَت عنه مدارسُنا؛ ما نرتجِفُ حين نسمعه، أو نُعنَفُ حين نُمارِسُه. نختلف في ترتيبِ الأولويَّات؛ نميلُ إلى توجيهِ سلاحِ النَّقدِ نحو البنياتِ السُّفلى. هل نحنُ، على وُدٍّ، مختلفون؟ بيروتُ، كما قُلتُم، بؤرةُ الحداثةِ ومختبرُها. احتدمَ الصِّراعُ الاجتماعيُّ فيها، فأنتجَ حرباً وحقلاً آيديولوجيَّاً ملتهِباً، تصاعدَ منه خطابٌ يُضاهي ما تبنَّيتُم من نقدٍ إستراتيجي؛ والرِّباط متاخمةٌ لمنشأِ الحداثة، تمرُّ الخطاباتُ إليها عبر غلالةٍ شفَّافة، فتنهَدُّ فيها سماءٌ، وتنهضُ في الأرضِ أسئلةٌ مُحرِقةٌ ونقدٌ مزدوج. ونحنُ أبناءُ العواصمِ الأخرى تستظِلُّنا سماءٌ نُراعي حقَّها؛ نختارُ الأرضَ كخيارٍ منهجيٍّ، ولكنَّنا -مع ذلك- نهفو للمتعالي في القممِ الرَّفيعةِ من تعاليه، فهذا الاضطرابُ لا يأتينا إلَّا من جهةِ تظاهُراتِه.
تتراصفُ عندنا التَّشكيلاتُ السَّابقةُ للرَّأسماليَّة مع النُّموِّ الطُّفيليِّ الجديد، فلا ينهضُ بينهما حوار. ضدَّ هذا الوضعِ الشَّائه، نتوجَّهُ بالنَّقد؛ ضدَّ هذا الرَّاهنِ العلنيِّ، نلتمسُ الخلاص. لا يُنتَجُ نقدٌ جذريٌّ إلَّا في أوضاعٍ جذريَّة؛ ولأنَّ المتعالياتِ، كما قلتُم، يدَقُّ خفاؤها بين شعاب النَّصِّ والجسدِ والمجتمع، فإنَّنا -وإن لم نرَ في نقدِ الجزءِ المحدَّدِ ما يكفي لتحديدِ بقيَّةِ الأجزاء- ننظرُ إلى البنيةِ بمنظارِ غشتالتيٍّ، فنرى فيها ومن خللِ أجوائها السُّفلى إطاراً شاملاً تنمازُ فيه الأجزاءُ بعلاقاتِها.
لا كتابةَ خارجَ التَّجربةِ والممارسة. تلك هي القاعدةُ الثَّالثة للكتابة، فالتَّجربةُ والممارسةُ نموٌّ داخل الزَّمن؛ فعلٌ أوَّلُ لكلِّ تجاوُز. الكتابةُ زحزحةٌ للمألوفِ، خلجلةٌ للذَّاكرة. الكتابةُ رسفٌ وتقييدٌ ضروريٌّ للحلم؛ ولا معنى للحلم إن لم يكُن مِعبَرَاً للتَّجربة؛ إن لم يكُن مُندَغِماً في اللُّغةِ والذَّاتِ والمجتمع. وتكونُ الكتابةُ بالتصاقِها بالملموسِ، تجذيراً للمعرفةِ وتثويراً لها.
ولا معنَى للنَّقدِ والتَّجربةِ والممارسة، إن هي لم تكُن متَّجهةً نحو التَّحرُّر. تلك هي القاعدةُ الرَّابعة. الكتابةُ تجربةٌ وممارسةٌ مكرَّسةٌ لتحويلِ الواقعِ وتغييرِه. والنَّقدُ العلميُّ في تبديدِه لأوهامِ الآيديولوجيا يختطُّ منهاجاً لتحريرِ النَّاسِ كافَّةً. ففي تفكيكِ المفاهيمِ والتَّصوُّراتِ السَّائدةِ تدشينٌ لقدرةِ الفعلِ؛ كما في إزاحةِ الأوهامِ بالوقائعِ والمعطياتِ تأسيسٌ لزمنِ القرارِ الإنساني. ولا يكونُ هنالك تحرُّرٌ دون إنتاجِ حساسيَّةٍ مغايرة؛ نصٌّ تنسرِبُ الكتابةُ فيه من هيئةِ الشِّعرِ إلى حضرتِه، فتنهزِمُ الذَّاكرة، وتتحرَّرُ المُخيِّلة، ويعودُ الإنسانُ المُبعَدُ الملغيُّ من هامشِ القمعِ إلى ساحةِ القدرةِ عنصراً فاعلاً في نشيدِ التَّحوُّلِ، وخندقاً مضادَّاً لكلِّ نظامٍ سلطوي؛ فالتَّحرُّرُ في النَّصِّ دحرٌ للنُّصوصِ السَّائدة، وتأسيسٌ لمقالٍ مغاير.
تنفتحُ القواعدُ الأربع على ثلاثةِ مجالاتٍ للكتابة: اللُّغة والذَّات والمجتمع؛ وفي انفتاحِ الكتابةِ على مجالاتِها هيكلٌ أساسٌ لبنيةِ التأسيسِ والمواجهة. بدأ الشِّعرُ عندنا معموراً بالكلام؛ واللُّغةُ العربيَّةُ في بنيةِ أنساقِها المتعارَفِ عليها مرتبطةٌ أمداً برؤيةٍ مطمئنَّة. والمبدعون وحدهم هُمُ الَّذين خلعوا عنها نمطيَّتَها المتوهَّمة، فكان الإشراقُ الصُّوفيُّ -عِشقاً وشِعراً- توكيداً لحضرةِ الذَّاتِ المترنِّحةِ في هيئةِ الكتابة. فالدَّلالةُ الشِّعريَّةُ أساسٌ لكلِّ شعرٍ، واللُّغةُ هي ما يُشكِّلُ النَّصَّ زماناً، ومكاناً، ونحواً، وبلاغة. زمانُ الشِّعرِ مصنوعٌ من نَفَسِ الدَّواخل؛ فله ما يصدُرُ عنها من فيوضٍ وانحسارات. وليس ما تعامدَ من الشِّعرِ سوى احتمالٌ بين احتمالاتٍ تتقصَّدُها الكتابةُ في حرِّيَّةِ انتقالِها التاريخي. لا يخرجُ الإيقاعُ من منعطفِ الوعي وحده؛ فللَّاوعيُ قوانينُه الَّتي تصوغُ الإيقاعَ، فتُلزِمُه، مرَّةً، بخُطَّةِ سيرٍ محدَّدة، وتُطلِقُه، آناً، فينسكِبُ على قنانٍ واهية وجداولَ منسيَّة.
خضع الكلامُ الشِّعريُّ عند العرب لمنواليَّة البداية والنِّهاية، فكانتِ البنيةُ الإيقاعيَّةُ فيه نَفَسَاً واحداً متكرِّراً، توحَّدت فيه الوقفاتُ الإيقاعيَّة والنَّحويَّة والبلاغيَّة. والزَّمانُ في الكتابةِ فعلٌ مضادٌّ لحتميَّةِ البدايةِ والنِّهاية؛ كسرٌ لنمطيَّةِ القالب؛ ممارسةٌ شرعيَّة في إعادة تركيبِ النَّصِّ وفقَ اتِّجاهاتِ النَّفَس. وزمانُ الكتابةِ، بهذا المعنى، خلعٌ للجسد عن خطِّه الميتافيزيقيِّ المعلوم، وتهيئةٌ لقفزةٍ أخرى في الظَّلام، حيثُ يرهجُ الوقتُ بخصبِ الاحتمالات. ظلَّ الكلامُ مرهوناً لاستبداديَّةِ الإيقاعِ، والكتابةُ ملغيَّةٌ، والتَّركيبُ الخطِّيُّ لم يستعلِنْ عن نفسِه، بعدُ، بُعداً بلاغيَّاً جديداً يفتحُ النَّصُّ على البصرِ بعد أن قَبَعَ زماناً في حدودِ السَّمع.
المكانُ، في الكتابةِ، وشيجةٌ بين الخطِّ والصَّفحةِ البيضاء. لم يجتلِ الشُّعراءُ أهمِّيَّةِ المكانِ ولم يستكنهوا حمولاتِه الدَّلاليَّة إلَّا بظهورِ مجتمعِ الكتابة، حيثُ أمكنَ لأوَّلِ مرَّةٍ التَّحقُّقُ المكانيُّ للُّغةِ في الخطِّ، وكان قبل ذلك شعراً مسترسلاً في الزَّمانِ من حيثُ هو وحيٌ وفيضٌ من كلام. انتقلَ المكانُ، في الكتابةِ، عبر الزَّمنِ، من حالٍ إلى حال. فمن تشطيرِ الرُّقعةِ إلى توشيجِها، انفتحَ النَّصُّ، عبر جدليَّةِ الملءِ والإفراغ، على حقلٍ مُفعَمٍ بالإشاراتِ الموحية، فصارتِ الكتابةُ دعوةً إلى إعادةِ تشكيلِ المكانِ من خلالِ الخطِّ الكتابي. فالخطُّ نسقٌ مباطنٌ للكلام، يحتشِدُ علناً باللُّعة، ويخرجُ تكنيكيَّاً على مألوفِها، فينهضُ فيه جديدُها بلاغةً مغايرة؛ شهوةً تطِلُّ من نومِها؛ جسداً يسترسِلُ في تحصيل رغائبه.
يتمرَّدُ الخطُّ على نمطيَّةِ الحرفِ المطبعيِّ وتكراريَّتِه، ويُبدِّدُ كلَّ مصداقيَّةٍ متوهَّمةٍ للنَّصِّ كحاملٍ محايدٍ للمعنى. بهذا العصيان، بتلك الغواية، تدخلُ الكتابةُ حضرتَها؛ ومن الوجودِ المترنِّحِ للمعنى، تستمِدُّ القراءاتُ المتباينة شرعيَّتَها، ويبسِطُ النَّصُّ سلطتَه في لحظتَيِ التَّأسيسِ والمواجهة. تحترمُ الكتابةُ الخصوصيَّة، وتنبُذُ الانغلاق؛ تعترفُ بالمركز، وترفض خضوعَ الطَّرفِ لاستبداديَّتِه، ولا تستسلِمُ لمحوِ الفرق. وينتجُ الخطُّ، فيما ينكفيءُ على خصوصيَّتِه ويُسائلُها، جسداً مُشرِفاً على حافَّةِ الذُّهول.
يتركَّبُ النَّصُّ من أبنيةٍ نظميَّةٍ وصرفيَّةٍ تتحاورُ أدِلَّتُها في تواشجٍ ترابطيٍّ وتوارُدي. وإذا كان اليوميُّ خارجاً، بسيمائه النَّاصعة، من القوانينِ العامَّةِ للغةِ التَّواصُل، فإنَّ الشِّعريَّ يخرجُ قصديَّاً على تلك القوانين وينسِفُها، لِيبنيَ فوق رُكامِها لغتَه السِّرِّيَّة. ولا يكونُ الخروجُ إبداعاً إذا انحرفت مسيرتُه من تماسُكِ النَّصِّ إلى فوضاه. يأتي الخروجُ مُقنِعاً بكسرِ الحلقةِ الضَّعيفةِ في السَّائد، بخلخلةِ علائقِ التَّرابطِ والتَّوارُدِ داخل النُّصوصِ المغلقة، بتدشينِ رؤيةٍ مغايرة.
تستقدِمُ الكتابةُ عالمَها بتدميرِ سلطويَّةِ اللُّغةِ واستبداديَّتِها، وتستعينُ بالنَّفَسِ والإيقاعِ على تهشيمِ البنيةِ النَّحويَّةِ القائمة؛ تُعيدُ الكتابةُ توزيعَ الأزمنة؛ تُلجِمُ تدفُّقَ الفعلِ أو تُعلِّقه؛ تُجَدِّدُ طُرُقاتِ اللُّغة؛ تُغيِّرُ إشاراتِ مرورِها؛ وتستنفِرُ القارئ على إعادةِ بَنيَنَتِها، فتكونُ القراءةُ خَلقاً وتحضيراً للقاء. يستكمِلُ الشِّعرُ في لانحويَّتِه بنيتَه المغايرة؛ وبتمرُّدِه على الرُّؤى السَّائدة وبانحرافِه عن شرائطِ التَّواصُلِ العاديِّ، يأخذُ الشِّعرُ بناصيةِ اللُّغة، ويمتلكُ الكلام، ويُهيؤُ الجسدَ المُنهَكَ لحساسيَّةٍ جديدة وفوَرانٍ دائم. الكتابةُ بحثٌ عن أسلوب؛ ممارسةٌ قصديَّةٌ تعتصرُ المعاني من تقاسيمِ الأدِلَّة؛ تقتنصُ الحقائقَ ولا تستسلِمُ لوثوقيَّتِها المُضلِّلة. ولا أسبقيَّةَ للمعنى، لا روابطَ أزليَّةً بين الأشياءِ والأسماء، ولا حقائقَ ممكنةً خارجِ السِّياقِ الَّذي يضبطُ علاقاتِها.
تأتي بلاغةُ الكتابة من تآلُفِ بنياتِ الزَّمانِ والمكانِ والنَّحو؛ وبتواشُجِها الشَّائكِ، يصِلُ النَّصُّ إلى نشوةِ تحوُّلاتِه. ولا تقِفُ الكتابةُ عند مداخلِ المألوفِ إلَّا لِتحاوُرَ صمتَه وتكسِرَ عزلتَه؛ تُسائلُ السَّائدَ، تنتهِكُ قداستَه؛ تزرعُ الكتابةُ ألغاماً في تخومِ الذَّاكرةِ وتُصدِّعُها، فينهضُ النِّسيانُ مرتكزاً أساساً لبلاغةٍ مغايرة. تُمارِسُ الكتابةُ لعبة الإغماضِ، لِتُراوِغَ النَّصَّ الواضحَ الَّذي يُكرِّسُ، في تسيُّدِه، غريزةَ الاستهلاكِ والاستسلامِ للسُّلطاتِ القامعة.
يدخلُ الجديدُ في عزلتِه، عادةً، لأنَّ الشَّرائطَ الاجتماعيَّةَ والتَّاريخيَّةَ والثَّقافيَّةَ السَّائدة تُطفيءُ جُذوةَ التَّساؤلِ وتُخمِدُ النُّزوعاتِ المائلةَ إلى التَّحرُّر. والكتابةُ في خروجِها هذا لا تخضعُ للتَّبدُّلاتِ العفويَّةِ السَّاذَجة الَّتي تُكرِّسُ الوضعَ القائم؛ ولكنَّها، في نفسِ الوقتِ، تضَعُ تبدُّلَ القوانين البلاغيَّة كشرطٍ أوَّلَ لكلِّ تحرُّرٍ ممكنٍ من الذَّاكرةِ الجماليَّةِ السائدة. ففي الذَّاتِ تحتشدُ اللُّغةُ وتتلوَّنُ وفقاً للتَّبدُّلاتِ الَّتي تطرأُ على درجةِ الوعيِ وحالةِ الحساسيَّة. كما للذَّاتِ تدخُّلاتُها الحاسمة في تشكيلِ فضاءِ النَّصِّ وإعادةِ بَنيَنَتِه؛ وفي نفيِها، تأكيدٌ لذيليَّةِ الإبداعِ وتكريسٌ لخضوعِه الكسير لسلطةِ السِّياسيِّ وحقيقتِه المطلقة.
الكتابةُ تحريرٌ للذَّاتِ من ثوابتِ القيمِ وكوابحِ الأخلاق. وفي تشوُّقِها لتلك الحالة، تتوسَّلُ الكتابةُ عقلَها وجنونَها، منطِقَها وفوضاها؛ فالكتابةُ نبشٌ وجريانٌ جديدٌ لنهرِ الطُّفولة؛ استنشاقٌ للمتعة؛ تفريخٌ للحلم؛ إحياءٌ لسُنَّةِ الرَّفضِ والنَّقدِ في الأرضِ بعد طولِ سُبات. تعقِدُ الكتابةُ حِلفاً عميقاً مع كيتس وشيلي وويردذويرث وكولريدج ولورد بايرون والأخوين روسيتي، ولا تنسى في أوجِ ابتهاجِها الرُّومانسيِّ بالذَّاتِ أن تُدوزِنَ أوتارَها وتُعلِنُ الفرق. فالذَّاتُ، في الكتابةِ، تاريخيَّةٌ؛ حضورٌ يُناوِسُ بين الجذوةِ والامِّحاق؛ جسدٌ مزدانٌ بهشاشةِ يقينِه ونسبيَّتِه. والذَّاتُ المبرمَجةُ على صِيَغِ الأمرِ والنَّهيِ وقوالبِ الكلامِ الجاهزِ عاجِزةٌ بِحُكمِ تركيبِها عن بلوغِ المعرفة. نحو تلك الذَّاتِ الأسيرة، تتَّجه الكتابة؛ تُساعِفُها؛ تُفكِّكُ شعائرَها؛ تُسائلُ منسيها؛ وتُهيؤُ لانخراطِها الدَّائبِ في علاقاتِ الآنِ والممارسة.
تفِضُّ الكتابةُ مغاليقَ النَّصِّ وتفتَحُه على تاريخِ اللُّغةِ والذَّاتِ والمجتمع. تُخاصِمُ الكتابةُ تلك الرُّؤية الَّتي تحبِسُ اللُّغةَ، وتشِلُّ الجسدَ، ولا ترى إلى وجودِ المجتمعِ في وحدةِ تناقضاتِه وتصدُّعاتِه - تلك الرُّؤية الَّتي تُباعِدُ -شكليَّاً- بين الثُّنائيَّاتِ الضِّدِّيَّة، وتُماثِلُ -ميتافيزيقيَّاً- بينها وتُؤطِّرُها في مجالٍ معرفيٍّ واحد تتماهى فيه الأقطابُ وتتطابقُ حمولاتُه الدَّلاليَّةُ البعيدة. ضد تلك الرُّؤية، تأتلِفُ الكتابةُ وتحتفي بفورانِها الدَّائم؛ لأنَّ الكتابةَ -بحسب بنيسَ- عشقٌ شهوانيٌّ مفتوحٌ للحياة؛ فعلٌ تحرُّريٌّ مُتَّصِل؛ نزوعٌ وقَّادٌ لعالمٍ مغايرٍ في النَّصِّ وبالنَّصِّ؛ عالمٍ لا تمتَثِلُ فيه اللُغةُ للثَّوابتِ، ولا تتمَثَّلُ فيه الذَّاتُ هيئةَ قاهرِها، ولا يخضَعُ فيه المجتمعُ لتراتُبٍ طبقيٍّ قسري.
تتقدَّمُ الكتابةُ بوعيٍ نقديٍّ نقيض، وتستقدِمُ مجتمعاً نقيضاً محتملاً؛ جسداً ضاجَّاً بعنفوانِه وتبدُّلاتِه اللَّانهائية؛ انشباكاً ممكناً تتخلَّى الكتابةُ فيه عن حيادِها الرَّماديِّ، وتُعلِنُ انحيازَها للكتلةِ التَّاريخيَّةِ المعنيَّةِ بأمرِ التَّغيير. ويستكمِلُ الوعيُ النَّقديُّ للكتابةِ مشروعَه الثَّقافيَّ بمساءلتِه لصنميَّةِ التَّقنيةِ الغربيَّة، وبتدشينِه لمدخلٍ ذهنيٍّ جديدٍ لآركيولوجيا الجسد. ويختتِمُ البيانُ قولَه بالتَّركيزِ على جدليَّةِ التَّأسيسِ والمواجهة، وتعدُّديَّةِ أنماطِ الخروجِ على منظومةِ السُّقوطِ والانتظار وما رسَّخه الإرثُ التَّاريخيُّ من مواضعاتٍ تُخرِسُ القولَ وتفرِضُ الانزواء. ويُجدِّدُ البيانُ الدَّعوةَ لإعادة كتابتِه ومراجعتِه بوعيٍ له قيمةُ الكشفِ ومتعةُ المساهمةِ في التَّحرُّرِ الاجتماعي. وإذا كان الكاتبُ هو حاملُ القولِ وليس قائلَه، فله أن يشقى بحَملِه الجميل، وله أن يسعَدَ بمخاضِ الكتابةِ فيما يستقبِلُ العالمَ مولودٌ جديد.

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فی الکتابة تلک الر

إقرأ أيضاً:

أخطاء شائعة تمنع استجابة الدعاء .. تعرف عليها واجتنبها

كثيرٌ من الناس يتساءلون عن أسباب عدم استجابة الدعاء رغم تكرارهم وإلحاحهم فيه، مما قد يؤدي إلى شعورهم بالإحباط واليأس.

 ومع ذلك، أكد العلماء منذ القدم وحتى يومنا هذا أن هناك عوامل قد تعيق استجابة الدعاء أو تؤدي إلى نتائج عكسية.

وفي هذا السياق، أوضح الشيخ محمد أبو بكر، أحد علماء وزارة الأوقاف، في مقطع فيديو نشره عبر صفحته الرسمية على فيسبوك، أن هناك خطأين شائعين يقع فيهما البعض ويتسببان في تأخير أو عدم استجابة الدعاء.

أول هذه الأخطاء، بحسب الشيخ أبو بكر، هو الدعاء على النفس أو الأبناء أو المال دون إدراك خطورة هذا الأمر.

حكم زواج المسلمة من غير المسلم.. علي جمعة يحسم الجدل بـ«الأدلة» هل يجوز الصلاة بمفردي في المسجد قبل إقامة الصلاة.. رد أمناء الفتوى

 وأشار إلى أن بعض الأشخاص يدعون على أولادهم أو ممتلكاتهم عندما يكونون في حالة غضب، مبررين ذلك بأن قلوبهم تنفي الدعاء في الوقت ذاته، وهو ما وصفه الشيخ بأنه "مجرد أوهام". 

واستشهد بما حدث للإمام الزمخشري، الذي فقد قدمه بسبب دعوة غضب أطلقتها والدته عليه في صغره عندما أهمل تحذيراتها أثناء اللعب.

الخطأ الثاني، وفقًا للشيخ، يتمثل في الكلمات التي تُقال دون وعي أثناء الدعاء في لحظات الحزن أو المرض، مثل قول الأب عند مرض ابنه: "يا رب أنا وهو لأ". 

وأكد أن هذا النوع من الدعاء قد يجلب المصائب لصاحبه دون أن يشعر.

من جهة أخرى، تحدث الشيخ أحمد ممدوح، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، عن أوقات استجابة الدعاء، مشيرًا إلى أن من بين الأوقات المباركة: الثلث الأخير من الليل، وقت السحر قبل الفجر، بعد عصر يوم الجمعة، يوم عرفة، وعند إفطار الصائم. 

وأوضح أن تأخر استجابة الدعاء لا ينبغي أن يدفع الإنسان للتسرع أو الشعور باليأس، لأن الله يستجيب في الوقت الذي يراه مناسبًا، وليس حسب توقيتنا نحن.

مقالات مشابهة

  • نشرت الفاحشة والفجور| نداء برلماني عاجل بسبب هذه الفيديوهات
  • لو تليفونك منهم ادخل على الرابط فورًا| نداء عاجل لملاك أيفون في مصر
  • دعاء ساعة الاستجابة يوم الجمعة
  • ورشة عمل في "بنات عين شمس" عن الكتابة العلمية المتقدمة
  • التقدم والاشتراكية يطلق نداء لصد "ممارسات مُــضِرَّة بالفضاء الديمقراطي"
  • الكتابة في زمن الحرب: التنمية المستدامة لقرية ما بعد الحرب
  • الفرصة الأخيرة .. نداء برلماني عاجل لـ سارقي الكهرباء بعد تغليظ العقوبة
  • أخطاء شائعة تمنع استجابة الدعاء .. تعرف عليها واجتنبها
  • نداء استغاثة من مستشفى كمال عدوان بجباليا لإنقاذ المرضى والجرحى بقطاع غزة
  • استشهاد العشرات في ضربات إسرائيلية على غزة..ومستشفى في شمال القطاع يطلق نداء استغاثة