رغم استفراد الولايات المتحدة بالهيمنة العالمية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي السابق (1991)، ظهرت على القوة الأمريكية أعراض الترهل والانحدار في كثير من المناحي، لكنَّها ما زالت تمسك بعناصر تلك الهيمنة التي أتاحتها أوضاع ما بعد انتقالها من موقع أحد قطبي نظام الثنائية القطبية إلى موقع الهيمنة في النظام أحادي القطبية الذي تفضّله على الالتزام بنظام دولي (ليبرالي افتراضي) يقوم على قواعد القانون الدولي، وحقوق الإنسان، وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، واحترام حق الشعوب في تقرير المصير.
والحقيقة أن الكيان الصهيوني يبدو، بدوره، مدركاً تماماً متغيرات أخرى واضحة، أهمها انحدار الغرب عموماً. وقد أكدت ممارسات الغرب وخلافاته ذلك، فقد عادت فرنسا، بعد حديث إيمانويل ماكرون عن سكتة الناتو الدماغية وعن نهاية الهيمنة الغربية في العالم، تجدّد دعوتها لأوروبا إلى الاستقلال وبناء دفاعها الذاتي.
وأصبح النهوض الآسيوي، والصيني بخاصة، يشغل مجالاً متسعاً في خريطة الاقتصاد والتقانة والتجارة والنفوذ في العالم، بل فاجأتنا دول أوروبية عديدة بمواقف داعمة لقرارات محكمة العدل الدولية حول الإبادة الجماعية الإسرائيلية، ودعم قرار الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية استصدار أوامر باعتقال رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو ووزير حربه يوآف غلانت، في سياق التحقيق في ارتكابهما جرائم حرب في قطاع غزة، وما يمثله ذلك من خروج عن الإجماع الغربي المفروض أمريكياً، إذ بدأت دول غربية عديدة تعيد تقييم مواقفها وسياساتها الخارجية بمعزل عن التوجهات الأمريكية.
وقد ظهر للعالم، وخصوصاً دول آسيا وأفريقيا، أن الغرب بقيادة أمريكا أخطأ كثيراً في تقديره قوة روسيا واحتمالات زيادة الدعم الصيني لها واتساع نفوذهما في أفريقيا والشرق الأوسط.
وفي الوقت نفسه، أظهرت أحداث الأعوام القليلة الماضية أن أفريقيا قارة حبلى بالثورات والاضطرابات، فانهارت مكانة فرنسا، كقوة استعمارية في أفريقيا، وحاولت أمريكا ملء فراغ الغياب الفرنسي المفاجئ من دون جدوى، وكانت المفاجأة الكبرى قرار جنوب أفريقيا رفع دعوى في محكمة العدل الدولية ضد “إسرائيل” بتهمة ارتكاب الإبادة الجماعية ضد شعب فلسطين في قطاع غزة، وانضم إلى هذه الدعوة عدد من دول العالم.
المرجعية الاستيطانية
بعد اندلاع حرب طوفان الأقصى، ورغم الدعم الأمريكي الأعمى لإسرائيل، واجهت إدارة بايدن استعصاء من طرف بنيامين نتنياهو في إدارة الحرب ومفاوضات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى على نحو يُقوّض أسس علاقة تبعية الكيان الصهيوني لمعسكر الاستيطان العالمي بقيادة الولايات المتحدة، وكأن نتنياهو وائتلافه اليميني المشيحاني الحاكم لم يعد يقبل بالمرجعية الاستيطانية الأمريكية المهيمنة وفرضيات قيادتها الضمنية والصريحة، ويوظف المنظومة الاستيطانية العالمية ومواردها ودعمها لخدمة أهداف بقائه الشخصي خارج تلك المرجعية، وما يستتبع ذلك من تناقض واضطراب وفشل في تحقيق أي هدف من أهداف حرب الإبادة على غزة، ما يعرّض الكيان الصهيوني لمخاطر انحطاط واضطراب بالغة، ألقت بظلال القلق الوجودي على المشهدية الإسرائيلية.
ولم تتوقف عند اليأس الوجودي من مستقبل هذا الكيان الصهيوني، كما يعبر عنه يومياً خبراء الكيان وسياسيوه وجنرالاته السابقون والحاليون، ناهيك باتخاذ نتنياهو وحكومته سياسات وخيارات تحرج بايدن أمام ناخبيه الذين صوّتوا له ورجحوه في انتخابات 2020، وتهدد فرصة إعادة انتخابه رئيساً، في مقابل تفوق الرئيس السابق دونالد ترامب، كما تُظهر بوضوح استطلاعات الرأي العام الأمريكي مؤخراً، وناهيك بعبث نتنياهو بالأوضاع الأمريكية الداخلية، وسعيه لترجيح المرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب وحزبه على حساب بايدن والحزب الديمقراطي، وسعيه طيلة عقدين إلى نقل ثقل أصوات اليهود الأمريكيين الذين يصوتون تقليدياً للحزب الديمقراطي إلى اليمين والحزب الجمهوري!
كتب المعلق الإسرائيلي ناحوم برنيع مؤخراً: “لقد درجنا على أن نفكّر في أنه في المواجهة بين القوة العظمى ودولة تابعة صغيرة، فإنَّ الحجم يقرر دوماً شكل العلاقة، لكن تبين أنه في العلاقات بين حكومات إسرائيل والإدارات الديمقراطية ليس الحجم هو ما يقرر بل الوقاحة”! وكأنه يشير من طرف خفي إلى أنَّ غطرسة وغرور الكيان الصهيوني بلغت حد توهم إمكانية قيادة المنظومة الاستيطانية العالمية بدلاً من أمريكا.
في ضوء ذلك، يتبدّى للعالم مدى تآكل قدرة أمريكا، ليس على قيادة العالم فحسب، بل حتى على قيادة معسكرها وإدارة تحالفاتها وأصولها الاستراتيجية وعلاقاتها الدولية أيضاً. ويأتي تمرد نتنياهو على القيادة الأمريكية، ليؤكد مرة بعد أخرى هذا الترهل والتآكل والتراجع، ما يضعف قبضة أمريكا على حلفائها المقربين، ناهيك بقدرتها على ردع خصومها الألداء.
وإزاء ذلك، تُميز تحركات إدارة بايدن وردود فعلها بين نتنياهو والكيان الصهيوني، فتمارس على نتنياهو ضغوطاً، داخلية غالباً لا تمس بأمن الكيان، وتدعم بغير جدوى أحزاباً تعارضه، من دون تهديد أو إضرار بمصالح الكيان وأسس وجوده، واحتلاله وتفوقه عسكرياً، وتنمره إقليمياً ودولياً والأهم من دون أي فاعلية أو قدرة على مواجهة تمرد نتنياهو وإعادة الأمور إلى نصابها ضمن الهيمنة الأمريكية.
الأشياء تتداعى!
وفي الوقت نفسه، لا تبدي واشنطن أي رغبة حقيقية في وقف الإبادة الجارية على مدار الساعة في قطاع غزة، وجرائم الاحتلال ومستوطنيه المتواصلة في الضفة الغربية، بل رأت في استمرار الإبادة فرصة لمكافأة الكيان الصهيوني بتطبيع كامل مع السعودية وإدماجه على رأس منظومة أمنية إقليمية، بل وسيطرته عليها، وتصفية قضية فلسطين وإنكار وجود وحقوق شعبها، شأن كل المشروعات الاستيطانية التي أنكرت وجود أهل البلاد الأصليين وأبادتهم.
لكن لا بأس بإرسال شاحنات دقيق ينتظرها ضحايا التجويع بفارغ الصبر، فيستهدفهم جيش الاحتلال بقنابل وصواريخ أمريكية الصنع والتمويل، أي بالموت والدمار والإبادة، والتي تمثل أهم القيم المشتركة بين الكيانات الاستيطانية، وخصوصاً أمريكا و”إسرائيل”.
ولم تتساءل أمريكا يوماً عن مبرر أو فائدة أو توصيف استهداف المدنيين بنحو 3000 مجزرة، ونحو 140 ألف شهيد ومفقود وجريح، وتدمير كل المستشفيات، وقتل طواقمها واعتقال الآلاف وتعذيبهم حتى الموت وتدمير المنازل والمدارس والمرافق وآبار المياه، وقصف مراكز وخيام النزوح وإحراقها بقاطنيها خلال 9 أشهر، ثم إنها تنفي أمريكا نفياً قاطعاً أن هذه الممارسات تمثل أعمال إبادة جماعية.
في ضوء الغزو والاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، تدخّلت الولايات المتحدة عسكرياً في سوريا واعتدت على العراق واليمن، ربما لا يزال العالم يكرر الخطأ نفسه عند قراءة وضع الاتحاد السوفياتي خلال السبعينيات الماضية (مع توسع تدخله عسكرياً في فيتنام والشرق الأوسط وأفريقيا وأفغانستان)، أي إساءة تفسير توسع النشاط العسكري الأمريكي كمؤشر على قوة أمريكا المتزايدة، في حين أن التدخل والحروب وتصاعد النفَس الصراعي ووتيرة استخدام العنف وتراجع القدرة الدبلوماسية على حل النزاعات، واستمرار قيام الولايات المتحدة بدور مشعل الحرائق ودور الإطفائي أيضاً، هو في الواقع قناع التراجع والأفول.
إنه الاستيطان ومنظومة الاستيطان العالمية التي تطحن العالم وتذيق الإنسانية ويلات لم تتوقف منذ القرن السادس عشر، ولن يعرف العالم سلاماً أو عدلاً أو استقراراً ما لم تتفكك هذه المنظومة ومقوماتها وفرضياتها وآليات عملها وتختفي من وجه هذه الأرض. وقد ثبت استحالة التعايش معها، أو تحقيق أي تحرر ونهوض إنساني في ظل هيمتنها.
عام 1958، صدر للشاعر والروائي والناقد النيجيري تشينوا أتشيبي (1930 – 2013) روايته الأشهر “الأشياء تتداعى “Things Fall Apart، والتي تصف تفكك المنظومة الاستعمارية البريطانية في غرب أفريقيا وأسس بقائها، ما أفضى في نهاية المطاف إلى استقلال نيجيريا وأقطار غرب أفريقيا.
والناظر في أحوال هيمنة منظومة الاستيطان العالمية، وخصوصاً مشروعها الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، يدرك أن التاريخ لا يعود إلى الوراء، وأن هذه المنظومة في سبيلها إلى “التداعي” والتفكك، كما تداعت وتفككت منظومات استعمارية واستيطانية سابقة فشلت في القضاء على الشعوب الأصلية، كما وقع لاستيطان الحروب الصليبية والاستعمار الفرنسي في الجزائر والنظام العنصري في روديسيا وجنوب أفريقيا. قاعدة لا استثناء لها.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
الكيان الصهيوني يطلب تمديد إخلاء المستوطنات الحدودية شمالاً وجنوبا
الثورة نت/..
أفادت وسائل إعلام العدو الصهيوني اليوم الثلاثاء، بأنّ الكيان الصهيوني طالب تمديد إخلاء مستوطنات الشمال والجنوب، القريبة من الحدود إلى نهاية شهر فبراير المقبل.
وأشار الإعلام الصهيوني إلى أنّ مفعول قرار الحكومة إخلاء المستوطنات في الشمال والجنوب سينتهي بتاريخ 1-1-2025 .
ولفت إلى أنّ “الرأي المهني من قبل الجيش الصهيوني بخصوص ما ورد هو التالي: في ما يخص جبهة الشمال، المطلوب تمديد إخلاء البلدات بأشهر إضافية على الأقل حتى نهاية شهر فبراير في العام 2025، وتنفيذ دراسة إضافية في منتصف شهر فبراير .
أما في جبهة الجنوب، وفي ما يتعلق بالمستوطنات التالية: “بئيري ، كفر عزة، ناحل عوز، كيسوفيم، عين هشلوشا، نيريم، نير عوز، نير يتسحاق، سوفه، حوليت، كيرم شالوم، فلا يمكن العودة إليها في هذه المرحلة لأسباب أمنية “.
وفي وقتٍ سابق، نشرت “القناة 12” الصهيونية تحقيقاً لأكاديمية “تل حاي”، يُفيد بأنّ 50 في المائة من مستوطني شمال فلسطين المحتلة يتناولون المهدّئات، و33 في المائة لا يريدون العودة إلى مستوطناتهم، و36 في المائة من النازحين يلتقون بمعالج نفسي .