الإمبريالية المتوحشة.. أمريكا أنموذجاً..!
تاريخ النشر: 30th, June 2024 GMT
تبدو الإمبريالية في ذروة توحشها، بعد أن تجاوزة مرحلة الليبرالية والنيوليبرالية، واسقطت بالتالي كل القيم والمفاهيم الليبرالية وداست عليها إعمالا لقانون التوحش الذي انتهجته أمريكا منذ اللحظة الأولى لانهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي واختفاء حلف وارسو، لتنتهي بعدها التداعيات الدرامية ومرحلة التوازن القطبي والحرب الباردة.
كان انهيار الاتحاد السوفييتي قد أيقظ بعض المفكرين الغربيين من فلاسفة الليبرالية الذين أدركوا أن انهيار الاتحاد السوفييتي والنظام الاشتراكي يتطلب إحداث ثورة فكرية تجديدية للقيم الليبرالية وتجنب الانزلاق نحو قوانين التطور والتحولات العلمية وثورة المعلومات دون تطوير قيم الثقافة الليبرالية وتحديث أفكارها بما يتسق والتحولات الحضارية الجديدة، وكان أبرز من دق جرس الانذار في هذا الاتجاه هو المفكر الأمريكي نعوم تشونسكي- الذي توفي قبل أيام، لتفقد الإنسانية برحيله أعظم وانبل المفكرين الغربيين الرافضين لكل قيم التوحش الإمبريالي الذي تبنته أمريكا – وآخرون من المفكرين الليبرالين في أمريكا والغرب، غير أن ثمة ترويكا ثقافية وفكرية في أوروبا وخاصة في ألمانيا الذين سايروا أمريكا بفكرة انتصارها وتفوقها على النظام الاشتراكي الذي انهار بعد أن عجز عن مجاراة الليبرالية ودفع الرئيس الأمريكي جورج بوش ( الأب) أن يلقي خطابا تاريخيا في البيت الأبيض وحوله يلتف زعماء أوروبا أبرزهم السيدة مارجريت تاتشر أو -المرأة الحديدية – وأكد في خطابه (أن القيم الليبرالية انتصرت على النظام الاشتراكي وأثبتت أنها طريق الخلاص للبشرية، لما تحمل من قيم أخلاقية وإنسانية وإيمان بحرية الفرد وحقوق الإنسان، وفرص لتفجير الطاقات الفردية وتحقيق الرفاهية للبشرية)، معلنا (أن أمريكا أصبحت عاصمة وقبلة العالم الحر ويشرفها قيادة هذا العالم نحو أحلامه ورفاهيته وديمقراطيته وان الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان أهداف نبيلة يجب على العالم أن يؤمن بها)، مشيرا إلى أن زمن الديكتاتورية قد انتهى بانهيار النظام الاشتراكي الذي وقف عائقا أمام تقدم البشرية)..!
كان أول من انتقد خطاب بوش الأب هو المفكر الأمريكي نعوم تشونسكي، غير أن ثمة نخبة من مفكري ومثقفي ألمانيا الذين كانوا يصفون أنفسهم (التروتسكيين) نسبة للمفكر السوفييتي (تروتسكي) الذي اختلف مع لينين في مفهوم الثورة وقيمها، وقاد عام 1905م ثورة ضد القيصر ولكنه فشل، فهرب مع بعض جماعته ومنهم من أعدمهم القيصر واعتبر لينين هزيمة (تروتسكي) فعلاً طبيعياً ( لفقدان تروتسكي واتباعه الروح الإيمانية بالثورة ليصنف من قبل لينين وأتباعه بالانتهازي)، هذه النخبة التروتسكية تبنت لاحقا القيم الليبرالية الغربية وكانت خلف ثقافة التوحش الإمبريالي التي يشهدها العالم اليوم.
عام 1989م وفيما كانت (البروسترويكا تنهش في الذاكرة السوفيتية) بقيادة جورباتشوف، كان نخبة من التروتسكيين المتحولين يقدمون رؤيتهم لتطوير الليبرالية وتحديثها تحت مسمى (النيو ليبرالية) أي -الليبرالية الجديدة -التي تسعى للسيطرة على العالم وقيادته، كانت السيدة مارجربت تاتشر ومستشاروها من ابرز المتحمسين لهذه الرؤية، التي استكثرها مفكرو أمريكا الذين اقتبسوا الفكرة ومفاهيمها من النخبة الألمانية، فقدموها بمسمى آخر هو (المحافظين الجدد) مازجين بين فكرة التروتسكيين وتعاليم تلمودية، عززوا من خلالها تحالف (المسيحية -الصهيونية) كثنائي بهما يمكن السيطرة على العالم، لتبدأ هذه المرحلة مع وصول بوش -الأبن -للبيت الأبيض، فقدم بوش الابن لنجله نصيحة بالجلوس مع هنري كيسنجر- ثعلب السياسية الأمريكية وأحد رموز الصهيونية العالمية، وفعلا حدث وتأثر بوش الابن بأفكار كيسنجر وانطلق في تجسيد الأفكار الجديدة برفقة وول ولفوز، وديك تشيني ورموز من أباطرة الشركات النفطية والمجمع الصناعي العسكري ورجال “وول ستريت”، وابرزهم عائلة روتشيلد، وروكفلر، الذين التفوا حول بوش الأبن وتسلموا مفاصل الدولة الأمريكية..!
كانت المهمة الأولى تعزيز علاقة البيت الأبيض مع الكيان الصهيوني، فيما الخطوة الثانية كانت نقل سطوة وهيمنة واشنطن كقائد للعالم الحر، وبما أن أمريكا كانت ترتبط بعلاقات تقليدية رتيبة مع حلفائها في العالم، كانت ثورة المعلومات تشهد تطورا مذهلا في (وادي السيلكون) الأمريكي، ولاستثمار ثورة المعلومات والتقنية كان لا بد أن تقدم أمريكا نفسها بقيادة المحافظين الجدد بصورة أخرى لم يعتدها العالم بما في ذلك حلفاؤها التقليديون..!
ولإحداث هذا الفعل كان خبراء البنتاحون قد توصلوا لنظريتين الأولى اطلق عليها بـ(نظرية الصدمة والرعب) والثانية اطلق عليها بـ (الفوضى الخلاقة)، وهما النظريتان التي ابتكرهما خبراء البنتاجون الأمريكي عام 1993م، وقد اعتمدهما تيار المحافظين الجدد، حكام أمريكا الجدد بمجرد وصولهم للبيت الأبيض، وكانت أولى خطوات تكريس هاتين النظريتين وتدشينهما واقعيا قد تمثلت بغزو وتقسيم جمهورية يوغسلافيا، ثم بأحداث 11 سبتمبر 2001م التي تم الإعداد لها بدقة وعناية لدرجة ان المتهمين فيها وابرزهم “تنظيم القاعدة” وزعيمه وكوادره توهموا أو صدقوا أنهم فعلا هم من قام بهذا الفعل، مع أنهم لم يكونوا أكثر من ضيوف شرف في فيلم من بطولة آخرين..!
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
سقوط أكاذيب أمريكا من الحرية الإنسانية إلى الحرية الاقتصادية..!!
أثناء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي دارت رحى حرب آيديولوجية بين النظامين، تباهت أمريكا والغرب من ورائها بالنظام السياسي الرأسمالي القائم على مبدأ الحرية في كافة نواحي الحياة، الحرية السياسية التي تحمي حرية الرأي والتعبير وتخلق بيئة التعدد والتنوع الفكري، والحرية الاقتصادية التي تقوم على السوق الحرة باعتبارها مضمار تنافس يولد إبداعات، والسوق الحرة توفر بيئة آمنة وجاذبة للاستثمارات.
وإثر سقوط الاتحاد السوفيتي واستفراد أمريكا بقيادة العالم، صار نظامها الاقتصادي القائم على حرية السوق مفروضاً على العالم، وألزمت دول العالم أن توقع على اتفاقية التجارة الدولية والانضمام إلى منظمة التجارة الدولية “الجات”، كما فرضت على العديد من الدول برامج الخصخصة وإلغاء أي قوانين حمائية، بموجبها تم تحرير الأسواق وفرض تعرفة ضريبية موحدة على مختلف السلع.
لقد وضعت ضوابط وقواعد وألزمت دول العالم على القبول بها، وعند صعود ترامب للرئاسة في الدورة الأولى أخذ يتنصل عن هذه الاتفاقيات ويفرض رسوماً ضريبية على كثير من السلع بالمخالفة لاتفاقية التجارة الدولية، كما أخذت أمريكا الترامبية تتنصل عن اتفاقية المناخ والعديد من الاتفاقيات الدولية، وحالياً يواصل ترامب نفس السياسات، لا بل أخذ يتوسع فيها.
ويمكن القول إن أمريكا التي وضعت ضوابط وقواعد ألزمت بموجبها العالم، العمل بمقتضاها باتت اليوم تقود انقلاباً عليها، لا بل أن الاقتصاد الذي كانت تتباهى به خلال الحرب الباردة القائم على فكرة الحرية الفردية وحرية السوق تنصلت عنه، وباتت تتخذ سياسات اقتصادية حمائية وتؤسس لنظام رأسمالي شمولي.
ومن المعروف أن الاستثمارات عبارة عن رؤوس أموال تنتقل طوعياً إلى هذه السوق أو تلك بناءً على توفر بيئة آمنة تشجع أصحابها على الاستثمار فيها.
ولقد سعت كثير من الدول ومن خلال حكوماتها أن تضع قوانين غايتها توفير بيئة جاذبة للاستثمارات الخارجية، ولأجل ذلك أنشأت هيئات للاستثمار تهتم بهذا الأمر.
وكانت رؤوس الأموال تذهب إلى هذه البيئة أو تلك بشكل طبيعي وفق تقديرات أصحابها أو من خلال الاستعانة بمراكز دراسات متخصصة تهتم بدراسة البيئات الاقتصادية، تقيس مخاطر الاستثمار فيها وتقدم نصائحها لرؤوس الأموال.
حاليا وفي مرحلة ترامب، فلم يعد استثمار رؤوس الأموال تحددها آليات السوق الحرة، بل يتم فرضها عبر الابتزاز والتنمر السياسي.
مؤخراً فرض ترامب على المملكة مثلاً أن تستثمر تريليون دولار خلال أربع سنوات داخل أمريكا بالأمر، لقد فقدت رؤوس الأموال حريتها في الانتقال، وصار الابتزاز والتنمر السياسي يتحكم بحركتها.
مع أن أمريكا التي أخذت توزع عقوباتها على دول العالم واحدة تلو الأخرى وتجمد أو تصادر أحيانا أرصدتها المالية، كما حدث مع إيران منذ عقود ومع روسيا أثناء الحرب مع أوكرانيا، حيث تم مصادرة أصول روسية داخل أمريكا، وما جرى حالياً مع الصين، إذ حكمت محكمة أمريكية بأن بكين أخفت الحقيقة بشأن كوفيد-19 وأمرت الحكومة الصينية بدفع 24 مليار دولار، وأنه سيجري انتزاعها من أرصدة الصين في البنوك الأمريكية.
بالإضافة إلى الوقائع السابقة، فإن التضخم والدين الأمريكي العام الذي بلغ مستويات قياسية ويتصاعد 36 تريليون دولار وتصاعد هذا الدين العام بوتيرة متسارعة.
وعليه فإن هذه الوقائع السابقة كلها تؤكد – بما لا يدع مجالاً للشك – أن لا بيئة استثمارية آمنة في أمريكا، والسوق الأمريكية في مثل هذه الأوضاع ينبغي أن تثير مخاوف المستثمرين.
بالمختصر.. أمريكا دولة مارقة لا تلتزم بعهود ولا مواثيق ولا تحترمها، فما الذي يضمن عدم مصادرة الاستثمارات الحالية مستقبلاً عند أبسط خلاف سياسي أو اقتصادي أو ذهاب الرئيس الحالي ومجيء رئيس آخر، وما الذي يضمن عدم تعرض أصحاب رؤوس الأموال لعقوبات من أي نوع تحت أي ذريعة، خصوصاً أن أمريكا لديها سوابق؟!.