أثر ارتدادات مفاعيل كيان الشرق الأوسط على انتفاضات جنوب وشرق المتوسط
تاريخ النشر: 7th, August 2023 GMT
لقد تناولت مقارباتي في السابق مفهوم كيان الشرق الأوسط من زوايا عدّة وكانت قد اعتمدت على الواقع الليبي ما بعد الانتفاضة كأداة اتخذتها ووظّفتها في عديد من المواضع لدعم ما تحتاجه من براهين حرصت أن تكون قريبة وتلامس الواقع، ولكي لا تقتصر وتنحصر استشهاداتها لدعم ما جاء فيها على الواقع الليبي وفقط، ستحاول في هذه المرّة، الابتعاد عن واقعها الليبي إلى أحد مفردات جواره الإقليمي بفضاء كيان الشرق الأوسط لتعتمدها في الآتي من السطور، متكأ وشاهد لها في ما ستقوله، عن حيوية مفاعيل هذا الكيان، وأثر ارتدادات على فضاء جنوب وشرق المتوسط.
فمثلا، السودان وما يحدث فيه من تفاعلات دامية، يَخُطها ويكتبها في شوارع وميادين مُدِنه، وأزقة قُراه وساحاتها، ولايزال رصاص البنادق والرشاشات ودانات المدافع والدبابات، وأحياناً يصل تدافعها إلى استخدام صواريخ الراجمات والطيارات، أحدث – في تقديري – من الصعب السيطرة عليها، وستعجز جميع الإرادات التي تحاول احتوائها وتطويعها نحو آليات تعمل وتجتهد لتنتهي إلى تحقيق قدر مقبول من مطالب التظاهرات الشعبية الكثيفة، التي غطت وغص بها الشارع السوداني على امتداد الشهور التي سبقت انعقاد جلسات الحوار المتنوعة، والتي جاءت نتيجة وثمرة لتلك التظاهرات الشعبية العارمة.
وعجز هذه المقاربات إن لم نقل فشلها المتكرر، حدث وسيحدث وفي تقديري سيستمر، نتيجة اتكائها على البعد السياسي العسكري الأمني وفقط، وهذا سينتهي بها في أحسن أحواله، إلى إعادة إنتاج سودان ما قبل انتفاضة شارعه، أعادت دولة عاجزة عن إدارة شأنها العام، على نحو يعود بالنفع على مجمل السودان وساكنة السودان، وسيضل السودان كما في السابق، دولة عاجزة عن أن يأمن جارها بوائقها الأمنية الناعمة وسواها.
وبقول آخر، لا تستطيع المقاربات السياسية العسكرية الأمنية للحالة السودانية، من خلال الثلاثية والرباعية وكل الهياكل المكملة لهما، سوى إعادة إنتاج السودان كمفردة أساسية في كيان الشرق الأوسط، ولبنة هامة في بنيانه العتيد، وهذا سيُبعده عن إمكانية توفير الاحتياجات الأساسية ومتطلبات حاضنته الجغرافية الديمغرافية الثقافية الطبيعية، بالقدر الكافي الذي سيستفز ويدفع بشارعه وميادينه للاستنفار والتظاهر، احتجاجا على تردّي الحياة في متطلّباتها الإنسانية بوجهيها المادي والمعنوي.
كنت أحاول القول، إن المقاربات السياسية العسكرية الأمنية للحالة السودانية، من زاوية شرق أوسطية وفقط، ستنتهي إلى تجاهل وتهميش فج ومُستفز، للحاجات الأساسية لحاضنة السودان الجغرافية الديمغرافية الثقافية، أعني حاجات السودان لمضمونه المحلّي الوطني في وعاء جغرافي ديمغرافي ثقافي لساكنة السودان، حاجات السودان لمضمونه الإقليمي والدولي ككيان اجتماعي ثقافي سياسي اقتصادي في فضاء جغرافيات حوض النيل، وكمفردة جغرافية بالقرن والغرب الإفريقي، حاجات السودان لكل ما ذكرناه فيما فات، كي يكون ذا سلوك مسئول تجاه مواطنيه بوعائه المحلي الوطني وذا سلوك مسئول داخل فضاءه الإقليمي الدولي.
فالاتكاء على البُعد السياسي العسكري الأمني من منظور شرق أوسطي في تجاهل وتهميش تام للواقع الجغرافي الديمغرافي الثقافي السوداني، هو ليس غير محاولة لإعادة إنتاج سودان العقود والمراحل الماضية، بجميع بوائقه التي أرهقت ساكنته ومحيطه الجغرافي القريب والدولي البعيد، ومحاولة لدفع كيانه – عن قصد أو غير قصد – نحو التشظي، وتراجع وانسحاب نتائج تشظّيه، نحو حواضنها البدائية الأولى للاحتماء بها، وفي ذلك خطر كبير على الأمن والاستقرار المحلي والإقليمي، بفضاء حوض النيل، بجغرافية القرن والغرب الأفريقي والبحر الأحمر.
من كل ما سبق نستخلص، بأن المُدخل المنتج لاحتواء الحالة السودانية، سوف لا يتم إلا بإدماج مضامين الواقع الجغرافي الديمغرافي الثقافي السوداني، داخل جلسات الحوار وبحضور فعال ومؤثر، له القدرة على تحميل مضامينه على كل ما تأتي به جلسات الحوار فى مخرجاتها النهائية، إذا كانت الغايات النهائية للمقاربات التي تتناول بالتداول والنقاش الحالة السودانية، تسعى وتتوخى وبحق في مجمل خطواتها إرساء الأمن والاستقرار بداخل الوعاء الجغرافي السوداني وبمحيطه الجغرافي الإقليمي القريب والدولي البعيد.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
إقرأ أيضاً:
تشخيص الذهنية السياسية السودانية والحلول الممكنة
لقد كشفت حقبة ما بعد الاستقلال في السودان، بدءًا من عام 1956، عن إشكالية التأسيس السياسي للأحزاب في البلاد. هذه الإشكالية تجسدت في أن الصراع كان يتمحور حول الشعارات الكبرى مثل الاستقلال أو الاتحاد، دون وجود مشروع سياسي واضح أو برامج عملية تعالج قضايا الحكم والتنمية وبناء الدولة. هذه الظاهرة ظلت تتكرر عبر الفترات المختلفة من تاريخ السودان السياسي.
إن الأهداف الوطنية الكلية، في شكلها المجرد، يمكن أن تكون قاعدة لتكوين جبهات وائتلافات سياسية. لكن الأحزاب تحتاج إلى تفصيل برامجي وفكري ذي محتوى اجتماعي يميزها عن بعضها البعض ويخدم مصالح قواعدها بشكل مباشر. بدون ذلك، تصبح الممارسة السياسية مجرد لعبة فوقية خاضعة للمزايدات، منفصلة عن الواقع الاجتماعي وتفاعلاته.
منذ تأسيس السياسة في السودان بعد وأد تجربة جمعية اللواء الأبيض في ثلاثينيات القرن الماضي، انحصر الصراع حول من يدير جهاز الدولة: المستعمر الأجنبي أم الأفندي الوطني. وأصبح الهدف السياسي الأساسي هو من يحكم، دون اهتمام كبير بسؤال: ماذا نصنع بجهاز الدولة؟ وكيف يمكننا إعادة هيكلته لخدمة المصالح الاجتماعية والتنموية؟ هذا النهج استمر حتى بعد الاستقلال، ما أدى إلى فشل متكرر في تأسيس نظام سياسي مستدام.
خلال فترات الديمقراطية الثلاث في السودان (1956–1958، 1964–1969، و1986–1989)، استُهلك الوقت في نقاشات حول قضايا فوقية مثل الدستور الإسلامي أو العلماني، ونظام الحكم البرلماني أو الرئاسي، بدلاً من التركيز على بناء مؤسسات تخدم تطلعات الشعب. مثل هذه النقاشات لم تثمر سوى عن إضعاف النظام الديمقراطي، وتهيئة المسرح لانقلابات عسكرية أطاحت بتلك الديمقراطيات.
في الديمقراطية الثانية، على سبيل المثال، جاء حل الحزب الشيوعي السوداني في عام 1965 كمحطة مفصلية. برغم الادعاءات بأن الحزب الشيوعي كان يروج للإلحاد، إلا أن الحقيقة كانت أن الأحزاب الكبرى تخوفت من تنامي نفوذ اليسار السياسي في البلاد بعد ثورة أكتوبر 1964. هذا القرار، الذي اتُّخذ خارج الإطار القانوني والدستوري، مثّل طعنة قاتلة للنظام الديمقراطي. وأدى ذلك لاحقًا إلى استقالة رئيس القضاء احتجاجًا على عدم تنفيذ قرارات المحكمة ببطلان حل الحزب.
هذا الحدث وغيره من الأخطاء السياسية، التي تجاهلت العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة، أسست لجذور الانقسامات العميقة التي يعيشها السودان اليوم. لم يُعالج إرث الاستعمار المتمثل في سياسات "فرق تسد"، التي عزلت مناطق واسعة من السودان وركزت التنمية في مناطق محددة. هذا الإرث ساهم في ظهور خطاب إثني وسياسي حاد أدى إلى نشوب النزاعات المسلحة.
واليوم، في ظل حرب أبريل 2023 الكارثية التي تُعد أكبر أزمة وجودية تمر بها البلاد منذ الاستقلال، لا يزال التفكير السياسي محصورًا في سباق على السلطة، دون رؤية واضحة لإعادة بناء الدولة.
إن معالجة هذه الأزمة تتطلب تغييرًا جذريًا في الذهنية السياسية، والانتقال من التركيز على الصراع حول السلطة إلى بناء مشروع وطني متكامل. الحلول الممكنة تشمل
إعادة هيكلة جهاز الدولة بما يخدم المصالح الوطنية بعيدًا عن النزاعات الإثنية أو الإقليمية.
إطلاق مبادرات للمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية لمعالجة آثار النزاعات السابقة.
التركيز على التنمية المتوازنة لتوفير الخدمات والفرص لكافة السودانيين.
على السياسيين السودانيين أن يدركوا أن السلطة ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق العدالة والتنمية والاستقرار. بدون هذا الفهم، سيظل السودان يدور في دائرة من الأزمات المتكررة.
zuhair.osman@aol.com