الدكتور عبد الرحمن المختار
المعروفُ عن الحروب أنَّها نزاعٌ مسلَّحٌ أطرافُـــها دُوَلٌ، والدولُ -كما هو معلومٌ- تمثِّــلُها الأنظمةُ الحاكمةُ في حالات السِّلْمِ وحالاتِ الحرب، وباسم الدولة يعلِنُ النظامُ الحاكم حالةَ الحرب في مواجَهةِ غيرِه من الأنظمة الحاكمة في دُوَلٍ أُخرى.
وباسم الدولِ أَيْـضاً تُعلِنُ الأنظمةُ الحاكمة عقدَ الاتّفاقيات وإبرامَ المعاهدات والانسحاب منها، ومن هذه الاتّفاقيات والمعاهدات ما يتعلَّقُ بإنهاء النزاعات المسلَّحة، وما يترتب عليها من اعترافاتٍ متبادَلةٍ بالحقوق والالتزامات تجاه بعضها.
وظهر في نهاية العقد السابع من القرن الماضي، نوعٌ من الحروب القذرة، لا تمثِّلُ هذه الحروبُ نزاعاتٍ مسلَّحةً بين أنظمة حاكمة في دولٍ قائمة، ولكنَّها حروبٌ موجَّهةٌ ضد شعوبٍ تتوقُ للحُرية والانعتاقِ من التبعية والارتهان لقوىً خارجيةٍ، وهذه الحروبُ طرفُها الدولي القوى الاستعماريةُ، التي تعمَدُ إلى تشكيلِ تحالُفاتٍ عسكرية دولية، تحتَ عناوينَ متعددةٍ؛ لشَنّ حروبٍ عدوانية قذرة، ضد إرادَة الشعوب الحية التي قرّرت الثورة على أنظمة حكمها الفاسدة العميلة المرتهِنة للقوى الاستعمارية.
وبمُجَـرَّدِ نجاحِ ثوراتِ الشعوب في إسقاط أنظمتها العميلة الفاسدة، تستشعرُ القوى الاستعماريةُ خَطَرَ الثورة على مصالحها وعلى نفوذها، ليس في الدولة التي أسقطت الثورةُ الشعبيَّةُ نظامَها الحاكم، بل في المحيطِ الإقليمي برُمَّتِه؛ ولذلك عملت القوى الاستعماريةُ على إجهاضِ الثورات الشعبيّة ووأدِها في مَهْدِها، وتحويلِها إلى مُجَـرَّدِ نزاعٍ داخلي على السلطة ينتهي بتدمير الدولة ومقوماتها.
وقد يكون تدخُّــلُ القوى الاستعمارية مباشِرًا أَو غيرَ مباشِر، بحسب الأحوال، وأهميَّة وحجم مصالحها في البلد الذي تتدخَّلُ فيه، المُهِمُّ في الأمر حساباتُ المصالح بالنسبة لهذه القوى والمحافظة عليها، وَإذَا ما تم تشكيلُ ما يسمى بقوات حفظ السلام؛ فغالبًا ما يكونُ ضمن مهامها حمايةُ مصالح القوى الاستعمارية، وَإذَا ما كانت نتيجة النزاع على هذا الحال؛ فذلك يعني نجاحَ القوى الاستعمارية في تحقيق أهدافها، والحفاظِ على نفوذها ومصالحها، وعلى هامش هذه المصالح والأهداف، تعملُ القوى الاستعمارية على إدارة النزاع الداخلي، بما يكفَلُ تعزيزَ نفوذها والحفاظ على مصالحها؛ لينتهيَ أمرُ الثورة الشعبيّة إمَّا بالاحتواء، وإما باستمرارِ النزاع داخليًّا تحتَ إدارة هذه القوى وسيطرتها وتمويلها، حتى يتمَّ تدميرُ الدولة ومقوماتها تماماً بأيدي أبنائها، وحالةُ السودان اليومَ شاهدٌ حيٌّ على إدارة القوى الاستعمارية للنزاعِ المسلحِ الذي سينتهي حتمًا بتدمير مقوِّمات دولة الشعب السوداني.
وَإذَا كانت القوى الاستعماريةُ قد نجحت في احتواءِ بعضِ الثورات الشعبيّة، ووأدِ بعضِها الآخر في عددٍ من البلدان، فَــإنَّها قد فشلت فشلًا ذريعًا في بلدانٍ أُخرى، ولم تفلحْ تحالفاتُها وإمْكَانياتُها العسكرية في وقفِ عجلة الثورة الشعبيّة، وكسر إرادَة الشعب الحُرة المصمِّمة على تغيير واقعها والتحرُّرِ من التبعية والارتهان للقوى الاستعمارية، ولعلَّ الشعبَينِ الإيراني واليمني يُعَدَّانِ مِثَالَينِ بارزَينِ لحَالةِ نجاح الشعوب في مواجهة الحرب القذرة للقوى الاستعمارية، الأول في سبعينيات القرن الماضي، والثاني في بداية العقد الثاني من القرن الحالي.
ففي نهايةِ العقد السابع من القرن الماضي، خرج الشعبُ الإيراني المسلمُ في ثورةٍ شعبيّة عارمة، ضد النظام البهلوي العميل للقوى الاستعمارية، التي لم تتردّدْ في إدانةِ التحَرُّكات الشعبيّة الثورية ضد عملائها، بل لم تتردّدْ في المسارَعةِ لمواجهة ثورة الشعب الإيراني عسكريًّا، حين أشعلت حربًا دوليةً امتدت لثماني سنوات، طرفُها القذرُ القوى الاستعمارية وأدواتُها في المنطقة العربية، التي موَّلت متطلباتِ الحرب العدوانية، وأسهمت إلى جانبِ القوى الاستعمارية في محاصَرةِ الشعب الإيراني.
ورغمَ كُـلِّ ذلك انتصرت إرادَةُ الشعب مرتَينِ:- الأولى حين تمكّنَ من إسقاط نظامِ الشاه العميل، والثانية حين تمكَّنَ من هزيمةِ القوى الاستعمارية وأدواتِها في المنطقة، ولا تزالُ هذه القوى -منذ نهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي، وحتى اليوم- في حالة حرب غيرِ معلَنة ضد الشعب الإيراني، وتحاولُ دون جدوى تحريضَ مكونات الداخل ضد بعضها، وتأليبَ الخارج للحد من آثار ثورةِ الشعب الإيراني على نفوذ هذه القوى الإجرامية في المنطقة وفي العالم.
ويعد الشعبُ اليمني المثالَ الثانيَ لفشلِ الحرب العدوانية القذرة للقوى الاستعمارية، التي أشعلتها منذُ بدية العقد الثاني من القرن الحالي في مواجهة ثورتِه الشعبيّة، وهذه الحربُ أشدُّ شراسةً وقذارةً من الحرب التي شنَّتها هذه القوى في مواجهة ثورة الشعب الإيراني؛ باعتبَار أن العالَــمَ شهد خلالَ الأربعة عقود التالية، تطوُّرًا تكنولوجيًّا هائلًا في جميع المجالات؛ فالاتصالُ والتواصل والإعلام، مثَّل سلاحًا فتَّاكًا قذرًا إلى جانب أسلحة التدمير والقتل، بما أصابها من تطور كبير، وسلاح المال المدنَّس، كُـلُّ تلك الأسلحة استخدمتها القوى الاستعماريةُ بكل شراسة في مواجهة شعبنا اليمني، وهدفُها المعلَنُ الصريحُ الصارخُ إسقاطُ الثورة، التي تم وصفُها بـ (الانقلاب)، واستعادةُ سلطة الخونة والعملاء، التي تم وصفُها من جانب القوى الاستعمارية بـ (الشرعية).
وكانت ثورةُ شعبنا اليمني قد تعرضت منذ بداية انطلاقتها لمحاولاتِ احتواء ومصادَرة وإفشال وإسقاط، غير أن كُـلَّ تلك المحاولات انتهت بالفشل الذريع؛ فحين كانت المبادَرَةُ الخليجية وسيلةَ القوى الاستعمارية لاحتواء ومصادَرة الثورة، تحولت تلك المبادرةُ بالنسبة للثورة إلى أدَاةِ فلترة خلَّصت الثورةُ من الشوائب التي عَلِقَت بها، ومن الكائنات القذرة التي ركبت موجتَها، فتم كنسُها إلى مزبلة التاريخ.
وحين أدركت القوى الاستعماريةُ فشلَ مخطَّطِ الاحتواء والمصادرة، لجأت هذه القوى إلى مخطّطِ إفشال الثورة، لكن الفشل كان حليفًا لهذه القوى وأدواتها في المنطقة، فانتقلت مباشرةً إلى خطة إسقاط الثورة، وحشدت لإنجاح هذه الخطة وتجنُّبِ مصيرِ سابقاتها تحالُفًا دوليًّا استعماريًّا (صهيوغربي آسيوإفريقي) وأعلن هذا التحالف في 26 مارس 2015 حربَه العسكرية العدوانية القذرة من واشنطن عاصمة عصمة الإجرام العالمي.
وقد استخدم هذا التحالُفُ العدواني في حربه القذرة ضد شعبنا اليمني -إلى جانب أحدثِ ما أنتجته مصانعُ الآلة الحربية للغرب الاستعماري من أسلحة فتَّاكة- وسيلتَين أشدَّ قذارةً وحقارةً، هما: حربُ التجويع التي تجسَّدت في الحصار الاقتصادي، الذي فرضته القوى الاستعماريةُ برًّا وبحرًا وجوًّا، وكذلك حرب التضليل الإعلامية، التي رافقت الحربَ العدوانية العسكرية وحربَ التجويع الاقتصادية.
ولأَنَّ تلك الحرب التي استمرت قرابةَ عقد من الزمان، كانت في مواجهة ثورة شعبنا اليمني، فقد فشلت تلك الحربُ العدوانية وما رافقها من حرب اقتصادية وحرب تضليل إعلامية، رغم كُـلّ ما توافر لها من إمْكَانيات هائلة، إلا أن تصميمَ وصبر وتصدي شعبنا قد أفشلها، وبإذن الله تعالى فَــإنَّ صبر وصمود أهلنا في قطاع غزة واستبسالَ وتصدي المجاهدين، وإخوانهم في جبهات إسناد محور المقاومة سيُفشِلُ ما تسمِّيه القوى الاستعمارية -زيفًا وتضليلًا- بالحرب على غزة، التي هي في حقيقتها جريمةٌ وليست حربًا، هي جريمة القرن وكربلاء العصر؛ وكون هذه الجريمة موجَّهةً ضد الأطفال والنساء والشيوخ من أبناء الشعب الفلسطيني؛ فلن يكونَ مصيرُها -بإذن الله تعالى- إلَّا الفشلَ والخيبةَ والخُسرانَ لمقترفيها المجرمين الأشرار.
وإذا كانت الحربُ العُدوانيةُ على شعبنا اليمني تفوقُ في قذارتها ووحشيتِها تلك الحربَ العدوانيةَ التي أشعلتها القوى الاستعمارية وأدواتها، فَــإنَّ جريمةَ القرن التي يقترفُ أفعالُها منذ أكثرَ من ثمانية أشهر جيشُ الكيان الصهيوني، بمشارَكةِ القوى الاستعمارية الغربية، وتواطُؤِ الأنظمة العربية، فَــإنَّ نتائجَ هذه الجريمة ستنقلِبُ -بإذن الله- على مقترفيها، وستفوقُ آثارُها الإيجابيةُ المستقبليةُ آثارَ ثورتَي الشعبَين الإيراني واليمني -بإذن الله تعالى-، والعاقبةُ للمتقين، والخُسرانُ المبينُ للظالمين المعتدين الطُّغاة المجرمين.
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: القوى الاستعماریة الشعب الإیرانی القرن الماضی شعبنا الیمنی ثورة الشعب فی المنطقة هذه القوى فی مواجهة من القرن الشعبی ة ة الشعب ف ــإن
إقرأ أيضاً:
فنانون ناصروا الثورة السورية منذ بدايتها ودفعوا الثمن راضين
دمشق-سانا
هم ثلة من فناني سوريا في غير اختصاص ومن مختلف مكوناتها، هالهم الإجرام الأسدي بحق المتظاهرين المدنيين والسلميين فانحازوا للثورة السورية منذ أيامها الأولى، ودفعوا ثمن مواقفهم الكثير من غير أن يتراجعوا، فمنهم من قضى ضحية إجرام النظام البائد، ومنهم من تعرض لأذى جسدي أو نفسي هائلين.
في عيد الثورة السورية الرابع عشر نستذكر هؤلاء ونستعيد إرثهم الذي كان تأثيره عظيماً في التعبير عن انتفاضة الشعب السوري، ونقل مجرياتها للعالم، كما يؤكد المخرج والكاتب غسان الجباعي في كتابه “الفن والثورة السورية”، عبر الشعر الشعبي والغناء والرقصات التراثية في ساحات المظاهرات والاعتصامات وطقوس الجنازات واللافتات واللوحات.
ونستذكر اليوم فنان الكاريكاتير العالمي علي فرزات الذي ناصر الثورة وانتقد برسومه ممارسات النظام البائد ورئيسه بحق الشعب السوري، وتلقى جراء ذلك تهديدات عديدة تدعوه للتراجع عن مواقفه ولكنه أبى، فقرر النظام معاقبته بشدة عندما تعرض في صباح يوم 25 آب سنة 2011 إلى اعتداء وحشي نفذه أربعة رجال ملثمين لدى خروجه من نفق ساحة الأمويين باتجاه أوتوستراد المزة حيث بدؤوا بضربه بقسوة وشتمه وهم يقولون “كي تتعلم كيف تتطاول على أسيادك” ثم قاموا بتكسير أصابع يديه بالعصي، وهم يقولون له “سنكسر أصابعك التي ترسم بها” ثم رموه على طريق المطار مضرجاً بدمائه وهم يتوعدونه قائلين “هذه المرة سنكتفي بهذا القدر”.
ومن هؤلاء نستذكر المصور الشاب فرزات يحيى جربان الذي التقط آلاف الصور ومقاطع الفيديو للمظاهرات والاعتصامات في حمص وريفها، ووثق جرائم النظام البائد ضد المدنيين، وصار يبثها لمحطات التلفزة في العالم، فاعتقلته قوات أمن النظام البائد في مدينة القصير قبل أن يجده سكان المدينة في 21 تشرين الثاني 2011 جثة مشوهة ومرمية على الطريق العام، وقد اقتلعت عيناه.
أيقونة الثورة السورية المنشد إبراهيم قاشوش ابن حماة ترك الإنشاد والغناء في حفلات الأعراس والمناسبات ليلتحق بصفوف الثورة، وغنى لها أكثر الأناشيد شعبية التي ذاع صيتها في العالم أجمع وتناقلتها الألسن لبساطتها وسلاسة تعبيرها، فلم يتحمل عقل النظام المجرم أناشيد هذا الشاب ابن الرابعة والثلاثين، فاعتقلته قوات أمن النظام البائد إبان حملة مداهمة للمدينة في مطلع تموز 2011 ثم وجد مقطوع العنق ودون حنجرة في 4 تموز على ضفاف نهر العاصي.
أما المؤلف الموسيقي وعازف البيانو العالمي مالك جندلي الذي ألف للثورة العديد من المقطوعات والسيمفونيات لعل أشهرها سيمفونية الحرية أو “القاشوش” فإن لم يطله إجرام النظام البائد بشكل مباشر فقد طال أغلى الناس عليه وهما والداه العجوزان، عندما اقتحم عليهما بيتهما في حمص في 20 أيلول 2011 ثلاثة من عناصر أمن النظام الأسدي وانهالوا عليهما ضرباً، وهم يقولون لهما “يبدو أنكم لم تعرفوا كيف تربون ابنكم ولا بد أن نعلمكم”.
ومثال تجربة شهادة تشمخ كانت تجربة المخرج تامر العوام ابن السويداء والذي سافر سنة 2008 إلى ألمانيا لدراسة السينما، وعندما انطلقت الثورة السورية في آذار 2011 لم يتردد في الالتحاق بها وترك كل مغريات الإقامة في الغرب الأوروبي حيث واكب الحراك كإعلامي مستخدماً أدوات بسيطة وفي ظروف غاية الخطورة، وقدم فيلمه الأول للثورة بعنوان “ذكريات على الحاجز” الذي يتناول معاناة الناس في إدلب جراء إجرام النظام ثم أنجز فيلماً وثائقياً عن تعذيب النساء السوريات في معتقلات الأمن الأسدي قبل أن يستشهد في حلب جراء قصف النظام البائد وهو يصنع فيلمه الأخير “ذاكرة المكان”.
أما السينمائي والمهندس باسل شحادة فيتفرد بأنه واكب أحداث الثورة السورية في عدة محافظات، لقد آلم هذا المبدع الشاب ما يتعرض له الشعب السوري فترك دراسة السينما في أمريكا وعاد ليلتحق بصفوف الحراك الثوري، وكان من طلائع المشاركين في تنظيم المظاهرات السلمية بدمشق، واعتُقلَ خلال مظاهرة المثقفين بحي الميدان الدمشقي، كما كان من أبرز الموثقين لقصف قوات النظام البائد واجتياحاتها المتكررة لمدينة حمص، وأنتج فيلماً بعنوان “سأعبر غداً” وثق فيه للخطر الذي كان يهدد سكان المدينة أثناء عبورهم الشوارع بسبب قناصة قوات النظام حتى استشهد خلال قصفها لحي الصفصافة في 28 أيار سنة 2012 ودفن حسب وصيته في مدينة ابن الوليد.
هؤلاء الفنانون من بقي منهم ومن رحل لكنهم عبروا بحق عن التحام المثقف مع قضايا الشعب والحرية والإنسان، وأصبحوا أمثولة نستعيدها دائماً ونحن نحيي ذكرى ثورتنا وحكايات أبطالها الذين قدموا كل ما يملكون وأغلى ما لديهم فداء لسوريا الحرية والكرامة.