الطريق إلى «30 يونيو».. أسرار «على حافة الأزمة» في مصر من 2011 إلى 2013
تاريخ النشر: 29th, June 2024 GMT
يمثل كتاب «حوارات على حافة الأزمة» للكاتب الصحفى والخبير الإعلامى محمد مصطفى أبوشامة شهادة تاريخية مهمة عن مرحلة مؤثرة فى تاريخ مصر المعاصر، كثر فيها الجدل واللغط، وتنافست فيها أطراف خارجية وداخلية على تدليس الحقائق وتزوير الحوادث بما يخدم مصالحها وأهدافها.
وندر أن تجد الحياد الكامل بين شهادات مَن عاصروا مصر بين ثورتى يناير ويونيو، ولعل هذا أكثر ما يميز شهادة «أبوشامة» وحواراته، فقد منحه وضعه الوظيفى كمدير تحرير لصحيفة «الشرق الأوسط» فى القاهرة، نوعاً من الحرية ساعده فى الوقوف على مسافة واحدة من الجميع رغم اختلاف توجهاتهم.
وقد حظى الكتاب بتقدير كبير فى كل الأوساط الإعلامية، لهذا حرصت «الوطن» على تقديم عرض موجز لبعض فصوله. والكتاب يعتمد بالأساس على ٦ حوارات صحفية مطولة نُشرت فى توقيتات مختلفة فى الفترة من ٢٠١٠ إلى ٢٠١٤، وتمثل معاً «موزاييك سياسى» يحكى قصة مصر بين ثورتين. وقد اخترنا أن نعرض المقدمات التى رصد فيها مؤلف الكتاب كواليس تلك اللقاءات الصحفية، وتقييمه للشخصيات التى حاورها وتعليقه على بعض ما جرى مع ضيفه فى كل حوار.
حسام بدراوى حاول طوال مشواره السياسى أن يحافظ على توازن فى العلاقات بين مراكز السلطة فى مصر وأن يغرد دائماً خارج «السرب» السياسى وهو أمر ربما يكون قد أسعده شخصياً فى البدء.. كلمةيقول الكاتب محمد أبوشامة فى مقدمة كتابه: «وأبطال حواراتى فى هذا الكتاب كانوا نجوم الصف الأول فى المشهد السياسى المصرى، ولا يزالون (وقت نشر الكتاب عام ٢٠١٥)، رغم تبدُّل مواقعهم ومواقفهم خلال هذه السنوات الأربع، وكانت شهاداتهم فى حينها هامة ومتفردة، لكنها الآن أصبحت تقدم رواية متكاملة لتجربة مصيرية فى تاريخ مصر المعاصر، وبات من المستحيل أن يتراجع أى من أبطالنا الستة عن رأى قاله أو شهادة نطق بها أو معلومة سمح بنشرها، وهنا تكمن قيمتها».
ويُكمل: ومع الأحداث والتغييرات السياسية المرعبة التى شهدتها وتشهدها المنطقة، كانت مصر خبراً رئيسياً فى الصفحات الأولى لكبرى صحف العالم، وكانت «متعة» و«محنة» العمل الصحفى خلال هذه الفترة وجهين لمرحلة جديدة مثلت منحى تغير جذرى أثَّر على واقعها ومستقبلها؛ دفعتها السيولة السياسية المصحوبة بتفاعل الوسائط الإعلامية الحديثة، وما لاحقها من طوفان تكنولوجى، إلى جعل الصحافة والصحفيين فى صدارة المشهد بلا منافس، وأصبح ما يقدمونه من رسائل إعلامية يقتات عليها الجمهور، هى الركيزة الأساسية وربما الوحيدة التى تشكل رأيهم وتحسم توجههم.
لكن مع هذا التدفق الرهيب من المواد الإعلامية، ومع «ذاكرة السمك» المميزة للجمهور فى العالم، وخاصة المصرى والعربى، كان من الضرورى الحفاظ على أى شهادة وكل رأى نُشر بمصداقية خلال هذه الفترة الخطيرة التى مر بها الوطن، فهى وثائق نتركها للتاريخ ولأبنائنا من بعدنا، ليقولوا كلمتهم فيما حدث، وربما استطاعوا تفسيره وتحليله وتسميته بما يليق به.. وإلى بعض نصوص الكتاب..
رجل اللحظة الأخيرةالتقيت الدكتور حسام بدراوى فى مقر شركته (ميدى كير) المتخصصة فى نشاط التأمين الطبى، والتى تشغل الدور الأخير من مبنى مستشفى «النيل بدراوى» على كورنيش المعادى، لإجراء هذا الحوار الذى نُشر قبل بدء انتخابات مجلس الشورى المصرى (الغرفة الثانية من البرلمان) التى جرت فى يونيو عام 2010، وكانت واحدة من ثلاثة انتخابات مصيرية تجرى فى مصر خلال 16 شهراً ويتطلع إليها العالم كله، لأنها تؤسس لشكل المستقبل السياسى لأهم دولة فى منطقة الشرق الأوسط، وقد أُجريت بعدها بأشهر قليلة انتخابات مجلس الشعب (الغرفة الأولى من البرلمان)، بينما عصفت ثورة يناير بثالثة الانتخابات التى كان مزمعاً إجراؤها قبل سبتمبر من عام 2011، وهى انتخابات الرئاسة، التى كان من المتوقع لها إما أن يترشح فيها الرئيس المخلوع حسنى مبارك، أو نجله جمال، وفق ما أشيع عن سيناريو التوريث الذى راج بشدة وبات أقرب إلى التنفيذ خلال عام 2011.
نُشر حوارى مع د. بدراوى بتاريخ 24 مايو 2010، وكان وقتها عضواً بالأمانة العامة للحزب الوطنى الحاكم فى مصر، بالإضافة إلى شغله منصب أمين قطاع الأعمال بالحزب، وكان أيضاً عضواً بأمانة السياسات (دولة جمال مبارك داخل الحزب)، ورئيس لجنة التعليم والبحث العلمى فيها.. ورغم تعدد مناصبه القيادية فى الحزب الوطنى، فإنه كان يعارض -وبشكل علنى- كثيراً من سياسات وقرارات الحزب، ولهذا كان وجهاً مقبولاً على المستوى السياسى من قوى المعارضة المصرية على اختلاف طوائفها، وهو ما جعله آخر «كروت» مبارك قبل سقوط نظامه، حيث دفع به إلى قمة المناصب العليا فى الحزب، وأصدر قراراً بتعيينه أميناً عاماً للحزب خلفاً للأسطورة صفوت الشريف، وذلك بعد أيام من اشتعال ثورة الـ25 من يناير 2011، وهو المنصب الذى شغله «بدراوى» لمدة 6 أيام فقط، قبل أن يعلن استقالته مستبقاً إعلان مبارك تنحيه عن حكم مصر بساعات قليلة.
حاول «بدراوى» أن يرسخ فى حواره معى صورة «وردية» عن مؤسسة سياسية كبيرة اسمها «الحزب الوطنى»؛ أكدت الأيام للأسف أنها كانت مؤسسة «كرتونية»، وهو ما بدا واضحاً عندما طرحت اسم اللواء عمر سليمان كى ينضم لأمانة الحزب الوطنى ليتمكن من الترشح للرئاسة لخلافة مبارك، وكان هذا هو السؤال الأصعب فى الحوار، والإجابة أكدت لى وقتها ما كان يشاع عن خلاف فى أعلى دوائر الحكم حول «خليفة مبارك»، وهو الموضوع الأكثر إلحاحاً منذ أن سافر مبارك فى رحلة علاجية مفاجئة إلى ألمانيا مطلع عام 2010.
راوغنى د. بدراوى بذكاء، ورفض حسم قصة ترشح جمال مبارك للرئاسة بوضوح، كما ناور كثيراً حول اسم الراحل عمر سليمان ومسألة دخوله الحزب الوطنى، رافضاً فكرة خلافته لمبارك، لكن بحكم موقعه القريب من دائرة «الابن الوريث» أخذ الإجابة فى طريق إجبارى ينتهى بوصول جمال مبارك إلى منصب الرئيس، وفق القواعد الدستورية والمؤسسية للدولة المصرية، التى تنظم الانتقال الطبيعى للسلطة، دون أن يُفصح صراحة عن ذلك أو عن اسمه.. لكنه أدرك بعد أن أنهينا الحوار أن إجابته ربما تمثل له مشكلة، فاتصل بى وطلب أن يختم إجابته عن سؤال «خليفة مبارك» بالعبارة التالية: «لا علاقة لردى بالاحترام والتقدير لشخص الوزير عمر سليمان الذى يشرّف الحزب ومصر كلها».
حاول «بدراوى»، طوال مشواره السياسى، أن يحافظ على توازن فى العلاقات بين مراكز السلطة فى مصر، وأن يغرد دائماً خارج «السرب» السياسى، وهو أمر ربما يكون قد أسعده شخصياً وأرضاه فى أن يبدو شخصاً مستقلاً لا ينتمى بوضوح لأى «شلة سياسية»، لكنه أيضاً دفع الثمن غالياً؛ فلقد خسر كثيراً، ولم يستطع أن يحقق طموحه السياسى فى الترقى وصعود سلالم السلطة، رغم كفاءته وقدراته المميزة التى تجعله واحداً من أهم السياسيين المصريين فى السنوات الأخيرة.
رجل دولة «على مزاجه»يظل الدكتور يحيى الجمل حالة استثنائية فى تاريخ مصر السياسى، فلقد تأرجحت علاقته بكل أنظمة الحكم فى مصر؛ بين صعود وهبوط، ورغم أن منحى الهبوط والصعود كان حاداً فى بعض أوقاته، فإنه ظل يحافظ على «شعرة معاوية» التى تحميه من السلطة حينما تقرر أن تتخلى عن بعض رجالها.
يحيى الجمل كان حالة استثنائية فى تاريخ مصر السياسى فلقد تأرجحت علاقته بكل أنظمة الحكم فى مصر بين صعود وهبوط.. وظل يحافظ على «شعرة معاوية» التى تحميه.. وكان الحوار معه أيضاً استثنائياًكذلك كان الحوار معه استثنائياً.. أعقب خروجه من «حكومة 25 يناير» التى تشكلت فور سقوط نظام مبارك، والتى شغل فيها منصب نائب رئيس الوزراء لاثنين من رؤساء الوزراء المتتالين، وهما: أحمد شفيق، وعصام شرف، وعمل مع كليهما، ومع المجلس العسكرى الحاكم للبلاد، خلال فترة معقدة ومرتبكة إلى أبعد حد، فكان حوارى معه ثرياً وشاملاً عن مرحلة تاريخية مهمة ومؤثرة كان شاهد عيان على كواليسها وأسرارها.
التقيناه فى أكثر من جلسة أنا وزميلتى الصحفية المجتهدة منى مدكور التى أسهمت بقدر كبير فى إقناعه بالحديث وفتح قلبه وبعض خزائن أسراره، وكان يتفنن لإرباكها فى كل جلسة بمداعبته اللطيفة وخفة ظل رجل تخلص من كل قيود الزمن ويستعد لمغادرة الحياة سعيداً بما قدمه فيها خلال عمره الذى تجاوز الثمانين.
ربما يكون حوار نائب رئيس الوزراء الأسبق الدكتور يحيى الجمل من أعمق الحوارات التى أجريتها فى حياتى وأعددت لها بشكل خاص؛ فقبل مراجعة كل أرشيفه المنشور، ومواقفه، وقراراته، عبر مشواره السياسى، كان علىَّ أن أقرأ كتابه «قصة حياة عادية» الذى يحوى بعضاً من سيرته الذاتية، وهو كتاب ممتع يجعلك تشعر أنك أمام رجل بقدر جديته يحاول أن يستمتع بحياته، وأن يحياها «على مزاجه»، حتى عندما دخل عالم السياسة.
كانت تسيطر عليه حالة من الاستغناء والاستعلاء، وعدم الاكتراث، على عكس كل المتكالبين على السلطة ورجالها، فقد كان دائماً جريئاً وصدامياً فى آرائه، وقد خلصت من قراءة سيرته، ومن حواراتى معه، إلى قناعة؛ وهى أن هذا الرجل أضاع وقتاً كبيراً فى السياسة، وهو أبعد ما يكون عن رجالها وعالمهم.. هو أستاذ جامعى قدير، ورجل قانون من الطراز الأول، ومثقف محترم، ومتذوق جيد للفنون، وكان هذا يكفيه، لكن شيطان السياسة طارده، ولعنتها أصابته، فاقترب منها واكتوى بنارها، واستمتع أياماً قليلة بـ«كشك الحراسة» وأبهة الوزارة، قبل أن يعود من جديد إلى «حياته العادية».
مواقف الدكتور الجمل قبل ثورة يناير معروفة، فقد كان معارضاً شرساً لنظام مبارك فى سنواته الأخيرة، رغم سابق علاقتهما الطيبة فى سنوات مبارك الأولى فى الحكم وحتى منتصف الثمانينات من القرن الماضى، لكن لم تشفع له هذه المعارضة ولا مواقفه السياسية المشرّفة عند شباب الثورة، واعتبروه ممن قفزوا عليها واستفادوا منها.. عابوا عليه علاقته القوية مع المشير طنطاوى وأعضاء المجلس العسكرى.
وربما يكون للإخوان دور فى تأجيج حالة الرفض وتعبئة القوى الثورية ضده، وكذلك تعكير العلاقة بينه وبين رئيس الوزراء الثانى الذى عمل نائباً له، الدكتور عصام شرف، لكنه فى النهاية، مثل عشرات الأسماء من المعارضين السياسيين الذين جلسوا على مقاعد الحكم بعد سقوط نظام مبارك، خرجوا «محروقين» سياسياً.. ربما يكون ذلك قد تم عمداً، وربما لطبيعة المرحلة العاصفة التى عاشتها مصر ولا تزال.
لعل أطرف مواقف الدكتور الجمل التى تختزل شخصيته وتعبر عنها، هى لقطة كنت حاضراً فيها وشاهداً عليها، وكانت فى حفل أقيم بالأوبرا للموسيقار راجح داود قبل عدة أشهر، وبعد وصلة عزف بديعة للفرقة بقيادة المايسترو داود، وبحضور مميز لعازفة الفلوت الدكتورة إيناس عبدالدايم رئيسة دار الأوبرا المصرية، وبعد تصفيق حاد من الحضور، صدح صوت د. يحيى فى الصفوف الأولى مردداً بصوت مرتفع «الله.. الله يا دكتورة إيناس»، فضجت القاعة بالضحك والتصفيق.
الرجل الذى قضى على الجماعةهل يمكن أن يكون خيرت الشاطر هو «أبودبورة» فى فيلم «أرض الخوف» للمخرج المبدع داود عبدالسيد؟
فكرة الحوار مع خيرت الشاطر كان فى مجمله «كوميدياً».. فأنا أسأل أسئلة وهو يجيب عن أسئلة أخرى.. وكل محاولاتى لمطاردته أو دفعه لإجابة مباشرة واضحة عن أى سؤال كانت لا تؤثر على أدائه ويصر على ما يريد أن يقولهجنونة سيطرت على تفكيرى وأنا فى طريقى لإجراء حوار صحفى مع الرجل الأقوى والأهم فى جماعة الإخوان المسلمين فى أبريل عام 2012، الذى فاجأ أبناء جماعته وكل المصريين؛ بل والعالم أجمع، بإصراره على الترشح لمنصب رئيس جمهورية مصر العربية، وهو القرار الذى كان المسمار الأخير فى نعش جماعة الإخوان. كما أثبتت الأيام والحوادث خطأ وخطورة وجرم هذا القرار الذى كان بالمخالفة لما صرحت به الجماعة فى أعقاب ثورة يناير 2011.
كما أن المتابع لشكل خروج القرار من مكتب إرشاد الجماعة، وتعثر التصويت عليه، ثم إعادة التصويت أكثر من مرة بإلحاح غير مفهوم من «الشاطر»، الذى كان يقوم بجهد خارق لإقناع الأعضاء فرادى ومجتمعين بأهمية القرار، يدرك أن فى الأمر شيئاً غير مفهوم، وأن هناك لغزاً محيراً، خاصة بعد الانقسامات العديدة والشروخ التنظيمية التى أحدثها هذا القرار الكارثى.
وعندما تعلم أن «الشاطر» بدأ علاقته بالسياسة عضواً فى منظمة الشباب الاشتراكى؛ التنظيم السياسى الذى كان يرعاه الرئيس جمال عبدالناصر وتخرّج فيه كل قيادات العمل السياسى فى حقبتى الرئيسين السادات ومبارك، فسيشتعل خيالك بالفكرة نفسها التى سيطرت على رأسى؛ فكرة «أبودبورة»، الذى دخل «الإخوان» حتى أصبح عقل الجماعة المفكر، والقابض على كل مفاصلها وهياكلها وأموالها، ثم فعل فعلته وهدم المعبد الإخوانى!
أسئلة كثيرة محيرة تدور حول «الشاطر» ودوره وعلاقاته المتشابكة داخلياً وخارجياً، كما أن علاقاته بنظام مبارك غير مفهومة وغير منطقية، فكيف تفسر حجم ما وصلت إليه أعمال «الشاطر» واستثماراته فى مصر وخارجها، والمعلن عنها أقل بكثير مما خفى، والمعلن هذا بالملايين.. أرقام وشركات لا حصر لها؟!
كان لنا نصيب أن نلقاه فى إحدى هذه الشركات فى عمارة رقم «1» بشارع مكرم عبيد فى حى مدينة نصر القاهرى الشهير. وهذه الشقة، أو الشركة، أصبحت فى فترة رئاسة المعزول مرسى، أحد بيوت الرئاسة المصرية، حيث كان يدير منها «الشاطر».. مصر.
لا أخفيكم سراً أن الهلوسة والخيالات التى أصابتنى وأنا فى طريقى لحوار «الشاطر» كان سببها الرئيسى أننى استُدعيت من فراش المرض لمحاورته، فقد كنت فى إجازة مرضية طويلة، وهو ما يفسر إطلاقى لحيتى فى صورى المرفقة مع الحوار، وهذا لم يكن تمسحاً فى حالة الالتحاء التى كانت تمر بها مصر، فمن يعرفنى يعلم أنها عادتى فى فترات الإجازات والاكتئاب ومشاريع الكتابة الإبداعية.. أُطلق اللحية لعلها تمنحنى وهج العبقرية ومس الجنون.
كانت الآلام فى الفقرات القطنية والعنقية تعذبنى إلى حد لم تفلح معه جلسات العلاج الطبيعى العديدة والمكثفة التى أجريتها، ولم تخففها أعتى المسكنات.. ورغم ذلك، فإننى لم أملك أن أضيع فرصة لقاء «أبودبورة» الإخوانى، فتعاطيت ما استطعت تحمله من مخدرات موضعية وعضلية، كان لها أثر طيب فى تحمُّل هذا اللقاء المرعب والمتعب، مع «كادر» مخابراتى عتيد.
بدا الحوار فى مجمله «كوميدياً»، فأنا أسأل أسئلة والمهندس الشاطر يجيب عن أسئلة أخرى، وكل محاولاتى لمطاردته أو دفعه لإجابة مباشرة واضحة عن أى سؤال أطرحه، كانت لا تؤثر على أدائه، ويصر على ما يريد أن يقوله فقط.
حاولت خلال ساعة، هى عمر الحوار، أن أخرج بما يرضينى، لكن المرشح الرئاسى المحتمل كان يُفرغ ما فى جوفه من أفكار دون اعتبار لما يُطرح عليه من أسئلة.. كانت لديه أجندته التى يريدها أن تصل للرأى العام.
النجاح الوحيد فى هذا اليوم المشئوم، هو أننى التقطت صورة للذكرى مع نائب مرشد جماعة الإخوان المسلمين والمرشح الرئاسى «غير المحتمل».. المهندس خيرت الشاطر، والذى قد يختفى من الحياة السياسية بعد تداعيات السقوط الإخوانى فى العامين الأخيرين، ويقرر الخروج للأبد من «أرض الخوف»، أو ربما يفاجئنا ويعود مدفوعاً بالحنين لشخصية «أبودبورة».. مرة أخيرة.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: 25 يناير 2011 30 يونيو قصة وطن الحزب الوطنى فى تاریخ مصر ربما یکون یحافظ على الذى کان ما یکون فى مصر
إقرأ أيضاً:
«إيلون ماسك».. من أغنى رجل في العالم إلى «صداع مزمن»
كيف تتحول إلى صداع مزمن فى رأس العالم كله؟
الإجابة بسيطة: عليك ألا تكف عن الكلام! عليك أن تتدخل فى كل شىء وتُبدى رأيك فى كل موضوع (كأنك التجسيد البشرى لمنصة «إكس»). عليك أن تتدخل فى شئون الدول وتحاول إثارة الرأى العام الداخلى فيها. عليك أن تحاول التأثير فى نتائج انتخابات بلاد تبعد عنك آلاف الأميال، وليس الدولة التى تحمل جنسيتها وحسب.
عليك أن تفتح ملفات قديمة تُثير الضغائن والأحقاد فى المجتمع لكى تحولها إلى ضربات ضد السياسيين الذين لا يسيرون على هواك. وعليك، قبل أى شىء، ألا تخشى من، بل تسعى إلى، إثارة الجدل فى كل ما تفعله.
عليك أن تجعل من «تجاوز الحدود» شعاراً وسياسة. وأن تطالب بالإفراج عن المتهمين الذين يبثون أخباراً كاذبة، حتى لو تسبّبت فى إشعال أعمال عنف وشغب تُهدّد سلامة الناس، بحجة «حرية التعبير» ورفع سقف الحريات، وأن تقوم بنفسك بإعادة نشر هذه الأخبار الكاذبة (حتى مع علمك التام بعدم صحتها) لكى يُردّدها من ورائك ملايين المتابعين (حتى مع جهلهم التام بما تتحدث عنه).
عليك أن تدعم رئيس أقوى دولة فى العالم (الولايات المتحدة الأمريكية)، وتضخ ملايين الدولارات قبل وبعد وأثناء حملته الانتخابية، وأن تتحول إلى ظله الذى لا يفارقه، وأن تجعل اسمك مرتبطاً باسمه، فيخشى الناس أن يهاجموك حتى لا يبدو أنهم يهاجمون سياسات الرئيس الأمريكى، فيعملون لك حساباً كما يعملون له ألف حساب.
ولا مانع، بالإضافة إلى ما سبق، أن تجعل اسمك يتردّد بين مشجعى كرة القدم العالمية، فتُلمح إلى رغبتك فى شراء نادى «مانشستر يونايتد» الإنجليزى، أو تغير رأيك وتضع عينك على نادى «ليفربول» الذى يلعب فيه «محمد صلاح». ثم تظهر لتثير عاصفة من الجنون فى عالم ألعاب الفيديو، معلناً أنك ضمن قائمة أفضل ٢٠ ممن يلعبون لعبة «ديابلو (أو الشيطان!)» التى لها ملايين المتحمسين حول العالم، والذين يعتبرون إنجازك فيها ضرباً من الخيال أو الجنون، فلا يكفون عن الحديث عنك فى منتدياتهم ودردشاتهم، كما لا يكف السياسيون وصُناع القرار عن الحديث عنك فى نقاشاتهم وجلساتهم.
«الجارديان»: الملياردير الأمريكى يلتقط عبارة من مصدر مشكوك فيه ثم يشاركها عبر حسابه دون فحص أو نقد ثم يعيد بثها تحت اسمهافعل أى شىء أياً ما كان.. المهم أن يظل اسمك يتردّد على لسان أى مهتم بأى مجال فى أى مكان!
لكن قبل ذلك كله، عليك أن تترأس ست شركات من أكبر وأهم شركات العالم، وأن تتربّع على عرش صناعة السيارات الكهربائية (شركة تسلا)، وتمتلك شركة وُلدت كبيرة فى عالم الذكاء الاصطناعى (إكس إيه آى)، وشركة ثالثة تتجاوز حدود الأرض إلى عالم الفضاء والصواريخ (سبيس إكس)، ومنصة عملاقة فى عالم التواصل الاجتماعى (منصة «إكس»، التى كانت تُعرف من قبل باسم «تويتر»)، وشركة ناشئة متخصّصة فى مجال الكمبيوتر والدماغ البشرى (هى شركة «نيورالينك»)، التى تتلاعب (حرفياً) بالدماغ البشرى، وتخترع شرائح تُزرع فيه وتقرأ إشاراته العصبية والكيماوية، بشكل قد يذيب الحدود بين الإنسان والآلة فى المستقبل غير البعيد، لتشعر العالم (ولو على سبيل الوهم) بأنك تمتلك المستقبل كله بين يديك.
ولن يضر طبعاً أن يكون لديك ما يزيد على ٢٨٠ مليون متابع على منصة «إكس» التى تمتلكها بعد صفقة خرافية بلغت ٤٤ مليار دولار.
لكن عليك أولاً، وقبل كل شىء، أن تكون أغنى رجل فى العالم، وأن يكون اسمك هو «إيلون ماسك»، الذى قام بالفعل بكل ما سبق!
مجرد الحديث عن الملياردير الأمريكى الشهير «إيلون ماسك» قد يصيب المتحدّث والمستمع بصداع. الكل يلهث فى محاولة تتبّع أخباره والوقوف على آخر تطورات اشتباكاته المتناثرة فى كل الاتجاهات وعبر كل الحدود. يثير ضجة جديدة فى مكان جديد قبل أن تخمد نيران الضجة الأولى التى أثارها، وقبل أن يستوعب خصومه الضربة التى وجّهها إليهم يكون قد وجّه ضربة أخرى إلى خصم جديد، أو حليف قديم لم يكن يتوقع منه الغدر. كل ذلك دون أن يبدو «ماسك» نفسه مُجهداً ولا متوتراً، كأنه يتغذّى وينتعش ويستمد طاقته وحيويته من إصابة الآخرين بالدوار.
حتى «مارك زوكربرج»، المدير التنفيذى لشركة «ميتا» المالكة لمنصات عملاقة للتواصل الاجتماعى مثل «فيس بوك» وإنستجرام» و«واتس آب»، والذى كان البعض يتوقع أن يكون هو المعادل المقابل، والقوة التى يمكن أن تُشكل توازناً فى مواجهة «ماسك» ونفوذه، بدا وكأنه قد سقط أرضاً أمامه، وتبنى سياسات مشابهة لسياساته تدعو إلى رفع القيود بشكل مطلق عن وسائل التواصل الاجتماعى، كما لو كان ما زال مجرد طالب جامعى يهوى التكنولوجيا والبرمجة، و«يتهاوى» عند المواجهة الفعلية أمام «الكبار».
مؤخراً، أعلن «زوكربرج» أن منصاته لن تمارس تدقيقاً أو رقابة على المحتوى الموجود فيها كما كان يحدث من قبل، بشكل يجعلها أقرب إلى منصة «إكس» التى تكتفى بتعليقات وملاحظات الموجودين فيها على المنشورات. وهو توجّه يتفق مع ما يدعو إليه «ماسك» من رفع كل رقابة وكل قيود على كل شىء وترك العنان لكل من يريد أن يقول شيئاً لأن يقوله. وبدا الأمر لآخرين على أنه خطوة من «زوكربرج» للتقارب مع الرئيس الأمريكى المنتخب «دونالد ترامب»، الذى أبدى ترحيبه بقرار رفع الرقابة عن محتوى «فيس بوك»، الذى أغلق حسابات الرئيس الأمريكى السابق والمنتخب من جديد بعد هجوم أنصاره على مبنى «الكابيتول» إثر إعلان خسارته للانتخابات فى يناير ٢٠٢١.
بريطانيا تتهمه بترويج الأكاذيب و«فيس بوك الحائر» يسير على خُطاه ويلغى الرقابة على المحتوىهى خطوة تُظهر مدى تخبّط وحيرة «فيس بوك» ومديره التنفيذى الذى لا يعرف هل يُرضى الليبراليين ممن يريدون الدفاع عن حريات الأقليات والتعددية ومنع «المحافظين» (من أنصار «ترامب») من الهجوم عليهم، أم يترك اليمين المحافظ (وحتى المتطرف) يهاجم من يريد ويعبّر عن نفسه كما يشاء؟ الملاحظ أن المحافظين اعتبروا خطوة «زوكربرج» انتصاراً لهم، لأن أصحاب القيم الليبرالية، فى مفارقة ساخرة، كانوا يقيّدون حرية معارضيهم بأدوات الرقابة على المحتوى. وربما كان «زوكربرج» نفسه، مثله مثل باقى عمالقة شركات التكنولوجيا فى العالم، قد وجد أن أسرع طريق للتقارب مع الرئيس الأمريكى المنتخب (المعادى للقيم الليبرالية) هو اتباع خطوات «ماسك» بعد أن أصبح مستشار «ترامب» المقرّب منه إثر دعمه لحملته الانتخابية بأكثر من ربع مليار دولار.
إلا أن الواقع يؤكد أن كثيرين من أنصار «ترامب» أنفسهم، من اليمينيين المحافظين، لا يحبون «إيلون ماسك»!
لفتت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية النظر إلى أن ملف الهجرة أحدث انقساماً مبكراً بين أنصار «ترامب»، بين اليمينيين المتشدّدين الذين يؤيدون سياسات الرئيس المنتخب فى ترحيل المهاجرين من أمريكا، والمليارديرات»، وعلى رأسهم «ماسك» من أصحاب شركات التكنولوجيا العملاقة الذين يدافعون عن نظام تأشيرة العمل، الذى تمنحه الولايات المتحدة للعمالة الموهوبة من الدول الأخرى، والذى يُعد خطوة أولى للمهاجرين الذين تحتاجهم سوق العمل الأمريكية للإقامة الدائمة فى البلاد. يتحدث «ماسك» عن عدم وجود مواهب كافية فى سوق العمل الأمريكية لسد حاجات شركات التكنولوجيا كسبب لاستمرار فتح باب الهجرة «الضرورية» إلى أمريكا، بينما يعارض أنصار «ترامب» المتطرّفون نظام تأشيرة العمل ويصفونه بأنه «غزو العالم الثالث» لأمريكا.
إحدى مناصرات «ترامب» قالت إن «ماسك» ليس من أتباع حركة «ماجا» (اختصار جملة «لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً» شعار حملة «ترامب»)، ولا يشاركهم قيمهم حول سياسات الهجرة، وبدأت تنشر كلامها عبر حسابها على منصة «إكس» التى يمتلكها «ماسك» وفقاً لـ«نيويورك تايمز»، فما كان من الملياردير الأمريكى، الذى يملأ الدنيا ضجيجاً حول الحريات، وضرورة عدم مصادرة الآراء، إلا أن رفع شارة التوثيق الزرقاء من على حسابها على «إكس»، حتى يمنعها من توليد عائد مادى منه لفترة!
لكنه لم يتردّد فى دعم اليمين المتطرف فى أوروبا، خاصة فى ما يتعلق بسياساته المعادية للمهاجرين.
قراءة التحركات الأولى التى قام بها «ماسك» فى دوره الجديد كمستشار مقرّب من الرئيس الأمريكى المنتخب، أثارت اضطرابات جديدة فى العلاقات الأمريكية مع حلفائها التقليديين فى أوروبا. لقد كانت أوروبا تستيقظ قلقة فى فترة «ترامب» الرئاسية الأولى على تغريدات الرئيس الأمريكى السابق والمنتخب من جديد على منصة «تويتر» (إكس حالياً)، والتى كان يحلو له أن يطلقها فى ساعات متأخرة من الليل ليُربك بها حسابات أوروبا وثوابت علاقاتها مع أمريكا. أما الآن، فإن منشورات «ماسك» التى لا تهدأ تكاد تطير النوم من عينيها من الأساس!
قال إن على أمريكا «أن تُحرّر البريطانيين من حكومتهم المستبدة».. ووصف حزب اليمين المتطرف الألمانى بأنه «بارقة الأمل الأخيرة لألمانيا»راح الملياردير الأمريكى يُطلق منشورات تُظهر تأييده لوجوه بارزة فى اليمين المتطرف الأوروبى، منها مثلاً «أليسا فايدل»، مرشحة حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليمينى لمنصب مستشار ألمانيا فى الانتخابات المقبلة. وأعلن «ماسك» أنه سوف يستضيف «فايدل» فى لقاء عبر منصة «إكس»، وكتب افتتاحية فى صحيفة ألمانية كبرى يصف فيها حزبها بأنه «بارقة الأمل الأخيرة بالنسبة لألمانيا»، فى الوقت الذى وجّه فيه إهانات بالغة للمستشار الألمانى الحالى «أولاف شولتز»، قائلاً إنه «لن يربح الانتخابات المقبلة» فى فبراير المقبل. الأمر الذى جعل «فريدريك ميرز»، مرشح الحزب الديمقراطى المسيحى الأوفر حظاً للفوز بمنصب المستشار الألمانى يقول إنه لم يشهد من قبل حالة تدخّل فى انتخابات دولة «صديقة» بالشكل الذى يفعله «ماسك».
صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية قالت إن «ماسك» يرمى قنابل يدوية (وليس مجرد منشورات) على سياسات أوروبا فى الهجرة وحرية التعبير وغيرها، وإن منشورات الرجل الأغنى فى العالم قد أصبحت تُشكل «صداعاً دبلوماسياً» للمسئولين الأوروبيين الذين لا يعرفون كيفية الاستجابة الصحيحة لما يفعله مستشار «ترامب»، خاصة مع اقتراب لحظة تنصيب الرئيس الأمريكى، وقلقهم من أن يتحول وقوفهم فى وجه «ماسك» إلى إهانة بالنسبة لـ«ترامب».
لكن السياسيين الأوروبيين الذين تتراجع شعبية كثيرين منهم فى بلادهم، لا يمكنهم تجاهل الرسائل التى يوجّهها «ماسك» لمتابعيه على منصة «إكس»، محاولاً فرض أجندة جديدة على سياسات أوروبا، وإجبار قادتها على التحدّث فقط فى ما يريده هو، ومحولاً منصته فى الوقت نفسه، إلى أداة لحشد وتحريك الناخبين لتأييد وجوه اليمين المتطرّف، خاصة بعد أن فقدوا ثقتهم فى حكومات دولهم وسياساتها مع ضعف معدلات النمو الاقتصادى فيها.
الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون» لخّص الموقف، قائلاً: «لو أن أحداً قال لنا قبل عشر سنوات مضت، إن صاحب إحدى أكبر منصات التواصل الاجتماعى سوف يتدخّل مباشرة فى الانتخابات لم نكن نصدقه، من كان يمكنه أن يتخيل ذلك؟». كان الرئيس الفرنسى يشير إلى مدى تأثير وسائل التواصل الاجتماعى فى الناخبين، والذى أصبح السياسيون فى أوروبا يخشونه اليوم أكثر من قلقهم من أساليب السياسة التقليدية. يروى «خوزيه إجناسيو توريبلانكا»، أحد الخبراء فى المجلس الأوروبى للعلاقات الخارجية، أن أحد مستشارى «ترامب» فى فترته الرئاسية السابقة، هو «ستيف بانون»، حاول أن يبنى شبكة من الأحزاب اليمينية المتطرّفة على امتداد أوروبا قبل انتخابات البرلمان الأوروبى فى ٢٠١٩، دون أن يُحقّق نجاحاً يُذكر. أما «إيلون ماسك» فيبدو أنه سيكون أوفر حظاً منه بفضل منصة «إكس». ويتابع الخبير الأوروبى: «إن ماسك يرى نفسه مُنقذاً للديمقراطية الأمريكية من أصحاب النزعات التقدمية (أو الليبراليين)، ويرى أن ذلك لا بد أن يمتد إلى أوروبا».
حرص «ماسك» على «إنقاذ أوروبا»، كما يرى، لا يعنى أن الناخبين الأوروبيين أنفسهم يرحبون بتدخلاته فى بلادهم، بل على العكس، قد يخسر متابعيه على «إكس» بدلاً من أن يربح أصواتهم لصالح أصدقائه فى الانتخابات. لقد تهاوى عدد مستخدمى منصة «إكس» فى الاتحاد الأوروبى، لتفقد خمسة ملايين متابع فى الفترة بين أكتوبر ٢٠٢٣ حتى صيف ٢٠٢٤. وفى بريطانيا، هبط عدد مستخدمى «إكس» من ١٠٫٣ مليون مستخدم يومياً فى مايو ٢٠٢٢، إلى ٨٫٦ مليون مستخدم يومياً فى مايو ٢٠٢٤، وهى الفترة التى شهدت استحواذ «ماسك» على «تويتر»، الذى أصبح «إكس». أما على مستوى استطلاعات الرأى، فإن ٢٦٪ فقط من البريطانيين ينظرون إلى «ماسك» بصورة إيجابية.
ربما لأن «ماسك» أشعل حرباً كلامية على «إكس» مع الديمقراطية البريطانية العتيدة بشكل لم يتسامح معه الإنجليز. لقد قرّر الملياردير الأمريكى، دون سابق إنذار، أن يفتح الدفاتر القديمة لرئيس الوزراء البريطانى «كير ستارمر»، متهماً إياه بالتقصير فى أداء واجبه عندما كان مدّعياً عاماً فى بدايات الألفية، وعدم القيام بما يكفى لحماية فتيات بريطانيا الصغيرات من التعرّض لاعتداءات جنسية متكرّرة على يد عصابات من الرجال قيل إن معظمهم من أصول باكستانية. ووصل الحد بـ«ماسك» إلى أن يصف «ستارمر» بأنه «شارك فى اغتصاب بريطانيا».
هى قصة وقضية متفجّرة ظلت تضغط على أعصاب الإنجليز لفترة طويلة: الاعتداءات استمرت عدة سنوات، وامتدت فى عدة مناطق من بريطانيا، خاصة المناطق الفقيرة. كثير من الفتيات الضحايا كن فى دور رعاية الأيتام ولا يحظين بحماية مجتمعية كافية، والعصابات التى كانت تعتدى عليهن كانت فى أغلبها، وليس كلها، تضم رجالاً من أصول باكستانية، وهو ما جعل هناك نوعاً من الحساسية فى تعامل السلطات المختصة مع التحقيق، حتى لا يتحول الأمر إلى مشاعر عدائية ضد المهاجرين أو المواطنين من ذوى الأصول الآسيوية فى بريطانيا، بشكل يخدم أجندة اليمين المتطرّف فيها، والذى يتبنى العداء العلنى للمهاجرين بشكل عام.
لكن ولأن «ماسك» يريد تحديداً إثارة المشاعر العدائية ضد المهاجرين، فقد أعاد على منصته نشر تفاصيل القضية التى أُغلق التحقيق فيها منذ سنوات كثيرة، بشكل ملىء بالشائعات والمعلومات المغلوطة التى لا تهدف إلا إلى إحداث البلبلة واللغط. قال مثلاً إن عدد الضحايا من الفتيات البريطانيات الصغيرات زاد على ربع مليون ضحية، وهو رقم لم يتم توثيقه فى التحقيقات البريطانية قط، ويُعد مجرد استنتاج أطلقه أحد المتعصّبين اليمينيين فى بريطانيا. وأعاد «ماسك» نشر وترويج فيديوهات ومنشورات لأصوات من متطرفى اليمين فى بريطانيا على حسابه الشخصى، ليزيد انتشارها، ثم طالب صراحة بالإفراج عن شخص يُدعى «تومى روبنسون» من السجون البريطانية، وهو يمينى متطرف نشر معلومات مضللة وكاذبة عن أن مهاجراً سورياً قام بالاعتداء على ثلاث فتيات بريطانيات، وهو ما تسبّب فى اندلاع أعمال شغب واسعة فى بريطانيا وتصاعد مشاعر العداء للمسلمين والمهاجرين فيها. وبعد أن رفع الفتى السورى قضية تشهير ضد «روبنسون» وربحها، تعرّض الأخير لعقوبة الحبس بتهمة ازدراء المحكمة.
هذا البريطانى الكاذب والمتطرف والمحرض على الكراهية والتخريب، أراد «ماسك» أن يحوله إلى بطل، فاعتبر أن كل ما فعله «روبنسون» مجرد تعبير حر عن الآراء (الذى يعتبر «ماسك» نفسه رائداً فى الدفاع عنها)، وأن الحكومة البريطانية تحبس الناس الذين يعبّرون عن آرائهم فى المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعى وتترك «المغتصبين»، الذين اعتدوا على الفتيات الصغيرات أحراراً فى الشوارع. ووصل حتى إلى القول بأن «على أمريكا أن تسعى لتحرير البريطانيين من حكومتهم المستبدة!».
لكنه فى الوقت نفسه، لم يسمح لحليفه البريطانى «نيل فاراج» بأن يعبّر عن معارضته له دون أن يعاقبه!
لوهلة قصيرة، بدا الأمر وكأن «إيلون ماسك» يدعم السياسى البريطانى «نيل فاراج» المعروف بمواقفه اليمينية المتطرفة ضمن من يدعمهم من السياسيين اليمينيين فى أوروبا. قيل حتى إن «ماسك» سوف يقدّم دعماً قدره مائة مليون جنيه إسترلينى لحزب «الإصلاح» الذى يتزعمه «فاراج»، وانتشرت صورة للاثنين معاً وهما يقفان تحت صورة كبيرة لـ«ترامب» فى قصره بـ«مارالاجو» على نحو يُظهر التفاهم الجيد بينهما.
لكن عندما طالب «ماسك» بالإفراج عن مثير الشغب «تومى روبنسون»، تجرّأ «فاراج» وقال إنه «لا يوافق» على ذلك، رغم شدة احترامه لـ«ماسك» الذى يعتبره «بطلاً، وشخصاً استثنائياً».
كانت النتيجة أن «ماسك» قد تحول تماماً ليُصبح ضد «فاراج»! هاجم حليفه السابق قائلاً عنه إنه «لا يملك ما يكفى ولا يصلح لقيادة حزب الإصلاح البريطانى»، واقترح حتى اسم البديل له، فى تدخّل سافر إضافى فى السياسة الداخلية البريطانية، مما دفع ذلك البديل «روبرت لوى» إلى أن يعلن عبر منصة «إكس» نفسها وقوفه وتأييده لزعيم حزبه، وأنه لا ينوى الترشّح ضده.
تزايد توجس بريطانيا من تدخّلات «ماسك» وتقلباته، ولم يعد السياسيون الذين كانوا يلقون بثقلهم وراءه يعرفون كيف يمكن التنبؤ بتصرفاته. لكن الأهم أن وسائل الإعلام البريطانية صارت تقف له بالمرصاد.
لا أحد يستطيع أن يغلب الإنجليز عندما يصل الأمر إلى حرب المعلومات المضللة، لأنهم هم الذين اخترعوا اللعبة! لذلك تولت صحيفة «الجارديان» البريطانية تحليل أسلوب «ماسك» فى نشر المعلومات المغلوطة لإثارة البلبلة عبر منصة «إكس» فقالت: «يلتقط «ماسك» عبارة ما من مصدر مشكوك فيه، ثم يشاركها عبر حسابه الشخصى دون فحص أو نقد، ثم يعيد بث الكلام نفسه تحت اسمه هو، وبذلك يقوم بعملية «غسيل الكلمات» ويعيد إطلاقها وسط الناس».
بعبارة أخرى فإن «ماسك» يقوم بعملية «غسيل أكاذيب» اليمين المتطرف البريطانى على طريقة «غسيل الأموال»، بحيث يمنح اسمه وشهرته مصداقية لـ«تخاريف» المتطرفين التى لا تستند إلى أى أساس.
إلا أن الأمر، كما أظهرت «الجارديان» لا علاقة له بالدفاع عن الحريات، كما يريد «ماسك» أن يُصور للناس، لكنه نوع من «تصفية الحسابات» مع الحكومة البريطانية التى تستعد لتطبيق قانون يسمح للمشرّع البريطانى بفرض غرامات على شركات التواصل الاجتماعى (مثل منصة «إكس»)، قد تصل إلى ١٠٪ من قيمة أرباحها العالمية، لو سمحت بأن يتم تداول محتوى غير قانونى على منصاتها، مثل المنشورات التى تُحرّض على العنف والانتهاكات العنصرية الجسيمة والخطيرة التى تُهدّد النظام العام. وهى الانتهاكات نفسها التى طالب «ماسك» بالإفراج عن أصحابها فى بريطانيا.
«إيلون ماسك» إذن ينتشر ويتوغل ويكبر ويحاول أن يبسط نفوذه على كل شىء «مهم» فى حياة الناس حول العالم. لكن هل يقدر أغنى رجل فى العالم على أن يدفع ثمن التدخل فى كل شىء؟
هل يكلفه الدخول فى دوامات السياسة كل ما ربح؟.. أم أن سياساته هى التى ستدفع العالم كله إلى الخراب؟
الإجابة لا يملكها إلا الزمن.. الذى لن يقدر عليه «إيلون ماسك»!