قصة إسلام إنجيلي أميركي.. كيف أصبح تديّن الغزيين نموذج هداية؟
تاريخ النشر: 29th, June 2024 GMT
ليلة الأول من رمضان الفائت، عقب صلاة العشاء مباشرة، وبينما ينتظر المصلّون القيام لصلاة التراويح، وقف رجلان كانا يصليان بجوار بعضهما، واتجه كل واحد منهما باتجاه معاكس للآخر. الأول هو الدكتور محمد عودة، فلسطيني الأصل أميركي الجنسية، الذي توجّه ناحية المحراب، بينما مالَ الآخر لتجهيز الكاميرا التي كان قد أوقفها على حاملها قبل بدء الصلاة.
يمسك عودة بمكبر الصوت (المايكروفون)، ويقول: هذه أيام صعبة، وبينما يستمر القتل لأهل غزة، تحدث بعض المبشّرات من تأثير ما يجري هناك. فهذا هو داني الذي يُمسك بكاميرته ويجهزها كي يوثق لحظة نطقه للشهادة، بعدما كان يشارك معنا في المظاهرات الداعمة لغزة".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2عين على غزة وصوت في باريس .. هل تحسم المقاومة انتخابات فرنسا؟list 2 of 2دعم غربي غير محدود لنتنياهو.. هل نعيش عصر حروب صليبية جديد؟end of listيتقدّم داني ببطئ بين جموع المصلين الذين يتمايلون جلوسا كي يفسحوا له الطريق وهو يسير ناحية المحراب. رجل أبيض في منتصف الثلاثينيات، يتوسط وجهه شارب أشقر اللون، جسده ممتلئ قليلا، وتلفُ رقبته كوفية ممتزجة باللونين الأحمر والأبيض. يمسك مكبر الصوت، وينطق الشهادتين.
جرت أحداث القصة في ولاية كانساس -التي تقع في غرب الوسط من الولايات المتحدة الأميركية-، أو ولاية "شعب الريح الجنوبية" (كانزا) كما تُنطق في لغة سكان أميركا الأصليين، وهي الولاية التي يكثر فيها المزارعون والأميركيون ذوي الأصول الأوروبية، والانتماء المسيحيّ الصرف.
عودٌ على بدء..
"في أن المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده".
هذه المقولة ذات القدرة التفسيرية العالية لعبد الرحمن بن خلدون، والتي عنون بها الفصل الثالث والعشرين من مقدمة كتابه "العِبَر وديوان المبتدأ والخبر" كثيرًا ما استُدعيت في واقعنا المعاش. هيمنة ثقافية واقتصادية وسياسية غربية يقابلها ما يسمونه "دول عالم ثالث" نعيش فيها. أُعليت بذلك الثقافة الأوروبية-الأميركية على العالمين. طبَقيا في البدء، ثم ما انعكس على إثر ذلك في عوالم الفكر، والممارسة. فالولع يبدأ فكرا وشعورا، ثم يظهر في الزي والنحلة وسائر الأحوال.
لكن دورات التاريخ، حسب ابن خلدون ذاته، لا تسير خطيًّا كمن يصعد درجات السلّم، بل هي دورة، تتبادل الصعود والهبوط على التوالي. وإن كانت الصيغة الدائرية هي مُنطلق الفكر، فذاك يعني أن لا غالبَ مُطلق ولا مغلوب مطلق، إنما تكون المدافعة هي الحال.
مقدمة ابن خلدون (الجزيرة)وكعادة الأحداث الكبرى في التاريخ، لا تنحصر تبعات الفعل في نطاق الزمان، ولا الجغرافيا، بل هي تموجّات لا يُحصر صداها في الغرفة التي سُمع منها الصوت. شيءٌ شبيه جرى في أميركا يوم الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، يوم اصطدام الطائرة ببرج التجارة العالمي، وتبنّي تنظيم القاعدة لهذا الهجوم، ثم ما تلاه من حرب أطلقها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن تحت عنوان "الحرب على الإرهاب".
تخيل المشهد كما يلي: اصطدام الطائرة في البرج، ثم انظر إلى أحجار الدومينو تتساقط تباعا.
ورغم انتفاء أي صلة مثبتة بين الهجوم وبين أحد المسلمين القاطنين في أميركا، فقد تبنت أميركا قوانين لتقييد حريات سكانها من المسلمين وانتهاك خصوصياتهم، وتم إصدار قانون الوطنية "باتريوت أكت" (PATRIOT Act) الذي استهدف بطريقة غير مباشرة آلاف المسلمين المقيمين بالولايات المتحدة. تلك الحرب كانت فرصة لصناعة عدو متخيل، الإسلام والمسلمون هم عنوانه، فيما عُرف لاحقا بـ"الإسلاموفوبيا" أو الخوف غير المبرر من الإسلام. وهو قانون ما زالت آثاره قائمة إلى اليوم.
لكن النظر للتاريخ، لا يجدر أن يقتصر على دائرة التحولات الكبرى التي تتعاقب على أجيال عدة، بل بوصفه دوائر صغيرة تتشكل في الجيل الواحد، لتصنع ثقوبًا صغيرة في الجدار الأوسع. فتحت "الحرب على الإرهاب" الباب أمام بعض الأميركيين الذين استطاعوا الفكاك من السردية السائدة، للنظر إلى هذا "الدين المحظور"، جوهره، فكره، تعاليمه. وقادت هذه الموجة غير واحد من الأميركيين غير المسلمين إلى الإسلام، كما جاء في دراسة للدكتور خالد إيسيسيه، من جامعة ويسكونسون.
ولا تبدو مقارنة أحداث سبتمبر مع أحداث السابع من أكتوبر منطقية -في كثير من المعطيات التي شكلت الحدثين-، سوى استدعاء ما تقوده الأحداث الكبرى على اختلافها الشاسع في تفاصيلها، من تغيرات تطال البنى الاجتماعية، سواء في أميركا، أو في العالم.
هذان الحدثان، أي الطوفان وأحداث سبتمبر، كانا حدثين فارقين في الوعي السياسي الأميركي، خاصة لجيل الشباب الذي لم يشهد إلقاء القنبلة النووية على اليابان، أو حرب فيتنام، أو الحرب الباردة.
لذا، حينما التقينا بداني، كانت أحداث سبتمبر حاضرة في حديثه، وكيف انعكس هذا الحدث على علاقته بأحد أصدقائه المسلمين في المدرسة. هذا الطفل المسلم ذاته الذي توترت علاقة داني معه بالأمس القريب، أصبح اليوم يقف كتفًا بكتف مع داني في صف الصلاة.
صورة لداني غودنر (الجزيرة)سياق آخر وجد المتابعون فيه وجها لمقارنة ما جرى يوم أحداث سبتمبر، وما يجري اليوم في غزة. وهي رسالة قديمة كان قد وجهها زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن للشعب الأميركي، لكن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة أعاد التذكير بها.
ومن أعاد التذكير بهذه الرسالة هي ناشطة أميركية تُدعى "لينيت أدكينز" على منصة تيك توك. حيث قالت في مقطع مصور "أريد من الجميع أن يتوقفوا عما يفعلونه الآن وأن يذهبوا لقراءتها (رسالة بن لادن). إنها صفحتان. اذهبوا واقرؤُوا رسالة إلى أميركا".
هذه الرسالة، كان قد كتبها "بن لادن" في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2002، ردًا على تساؤل عدد من الأميركيين حول أسباب كراهية المسلمين الولايات المتحدة. في تلك الرسالة، أسهب "بن لادن" في الحديث عن فلسطين، حيث عدها السبب الأول لعداء الولايات المتحدة، معتبرًا إياها العامل الرئيسي في استمرار جرائم الاحتلال الإسرائيلي بالقتل والتهجير والدمار.
فوارق عدة تكمن في طبيعة كل عملية، بدءا من اختلاف المنطقة الجغرافية للأحداث والتباين الجليّ في سياقات الأحداث وتاريخها. فانهيار برج التجارة العالمّي كان في قلب العاصمة التجارية الأميركية، نيويورك، في حين جاء "طوفان الأقصى" في جغرافيا أخرى، لكنها دولة حليفة لأميركا، ومن جماعة مسلحة تصنّفها واشنطن بأنها إرهابية.
ورغم أن هجوم "حماس" لم يطل أرضًا أميركية ولا سفارة واشنطن في إسرائيل، إلا أن الموقف الرسمي للولايات المتحدة الذي تبنّى الرواية الإسرائيلية كاملة، مسنودا بترسانة ضخمة من وسائل الإعلام التقليدية التي أشهرت كافة أسلحتها على السردية الفلسطينية، هذا الموقف، جعل من هذه القضية شأنا أميركا داخليا يتحدث فيه الصغير والكبير، وتمتلئ لأجله شوارع المدن، وتُرفع فيه اللوحات وترتفع معها الشعارات والهتافات.
قصة داني.. من الكنيسة إلى القرآنداني ليس الأول، ولا خاتمة من أسلموا على إثر ما يجري في غزة. لذا، كان يُفترض للقاء الأول أن يكون سريعا، مجموعة من الأسئلة المباشرة، تتبعها ردود مباشرة، ثم تُرفق قصته إلى جانب مجموعة لقاءات أخرى في تقرير إخباريّ يستعرض قصصا لأشخاص كان حدث طوفان الأقصى العامل الرئيسيّ في إسلامهم.
بدأت الجلسة بعد صلاة العصر مباشرة، وما كان يُفترض أن يكون لقاءً سريعا، امتد لأكثر من ساعتين ونصف، وفي نهاية الجلسة، قررت أن أكتب القصة الكاملة. أما مكان اللقاء، فكان غرفة الإمام، الملاصقة لذات المسجد الذي أعلن فيه داني إسلامه قبل أيام من عقد اللقاء.
متحمّسًا، جلستُ إليه. بدأ حديثه بصيغة يصبغها تحذير لطيف "أنا قرأت الكثير، وأستطيع الحديث لساعات، أُفضِّل أن تسألني أسئلة محددة، حتى لا أجلس هنا لساعات"، أجبته بأنني متفرغ حتى وقت الإفطار. وبدأ الحديث.
داني رجل أبيض بكل ما تحمله كلمة الرجل الأبيض من حمولات ثقافية واجتماعية داخل أميركا. هو في منتصف الثلاثينيات من عمره، وخصلات شعره التي تنبت على رأسه ووجهه يميلان للون الأشقر، ويعيش في ولاية ريفية منذ ولادته، ومضافا لكل ذلك تبعيّته للكنيسة البروتستانتية الإيفانجيليكية، وهي الطائفة المسيحية الأكثر دعما وتمويلا وتأييدا لإقامة دولة إسرائيل.
ويُقصد ب "إيفانجيليكل" (Evangelical) في الولايات المتحدة كل الطوائف المسيحية البروتستانتية التي تميزت عن البروتستانت التقليديين بعدد من المعتقدات، ويُقدر عددهم بأكثر من 80 مليون شخصا داخل أميركا.
أما تاريخهم، فيعود إلى القرن الثامن عشر حينما كانت أميركا مجموعة من المستعمرات، لكن هذه الطائفة مرت بعدة تحولات، حتى باتت شهرتها في يومنا هذا مرتبطة بانخراط الكثير من أتباعها في صفوف "اليمين المسيحي"، وتقاطعها فكريا وسياسيا مع إسرائيل والحركة الصهيونية.
يؤمن الإنجيليون أن إسرائيل هي العامل المسرّع لأحداث نهاية الزمان فيما يُعرف بمعركة "هرمجدون".
وفقا لهذه النبوءة فإن نزول المسيح لتخليص العالم في نهاية الزمان لن يحدث إلا في ظل هذه المعركة، والتي لن تحدث إلا عقب عودة اليهود إلى فلسطين وإنشاء دولتهم القومية، وستكون شرارتها بناء الهيكل على أطلال المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، على اعتبار أن المسلمين لن يقفوا صامتين أمام هذه الأحداث.
أما انعكاس تأثير الإيفانجيليكية على الواقع السياسي والاجتماعي الأميركي، فهو واسع، وليس مجال حصره هنا.
أما كمعطيات عامة تعكس التأثير، فهم يمثلون اليوم شريحة أساسية من المصوتين للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، كما أن مايك بنس، نائب ترامب السابق، ينحدر منهم، وهو المعروف بدعمه المطلق لإسرائيل، إضافة لمايك بومبيو، وزير الخارجية السابق في عهد ترامب، ومدير السي آي إيه قبلها.
بالإضافة للنائب الجمهوري ورئيس مجلس النواب الحالي مايك جونسون الذي قال في تصريح صحفي في إبريل/نيسان الماضي 2024م "إسرائيل حليف حيوي لنا، أعتقد أن معظم الناس يتفهمون ضرورة هذا التمويل (26 مليار دولار لإسرائيل) إنهم يقاتلون من أجل وجودهم.. بالنسبة لنا نحن المؤمنين هناك توجيه في الإنجيل بأن نقف إلى جانب إسرائيل، وسنفعل ذلك بلا ريب وسينتصرون طالما كنا معهم". وغيرهم الكثير.
بالعودة للقاء، كان السؤال البدَهيّ الذي طرحته ابتداءً، ما سبب إسلامك، ما الحدث الذي جعلك تتجه لهذا التحول الجذريّ؟. استدعى السؤال تعديلا في جلسة داني، وقال: مشهدان. الأول، هو هدم مسجد الهدى وصلاة الناس على أنقاضه، شعرتُ بشيء غريب، فهذا ليس فعلا فرديا، بل أشخاص يتجمعون بعد هدم منازلهم ومسجدهم ليُصلُّوا على أنقاضه.
أقام مئات آلاف الفلسطينيين في محافظات غزة، الأربعاء، صلاة عيد الفطر المبارك فوق أنقاض مساجد دمرتها إسرائيل ضمن حرب متواصلة على القطاع منذ 6 أشهر. ( وكالة الأناضول )والثاني رؤيتي لمقطع مرئي لأحدهم وهو يتوضأ من المياه المتساقطة على خيمته، حيث يضم كفيه ليجمع الماء الذي يتقاطر من الخيمة، حتى يتوضأ للصلاة.
لقد أذهلني المنظر. كنت أعتقد قبل هذا الفيديو أنني أعيش حياة مليئة بالمصاعب، وهو ما أثر على سير حياتي اليومية، لكن ما شاهدته جعلني أدرك حقيقة مؤلمة: لا شيء من المصاعب التي أواجهها يمكن أن تُقارن بما يحدث له، لكنه يهتم رغم كل ما يجري معه، وفي هذا الوقت بالتحديد، بالصلاة.
استأنف وقد بدأت عيناه باللاتماع: في هذه اللحظة شعرت أن ثمة شيء مختلف عليّ أن أبحث عنه.
سألته، هل القصة بدأت من هنا، أم أنها كانت لحظة الفصل.
أجاب: لم تبدأ القصة هنا لكنها كانت منعطفا مهما في مسار التحول الذي أخذته، والحقيقة أنها قصة توالت أحداثها منذ السابع من أكتوبر، ومررتُ معها بأطوار عدة. اليوم الجميع يرى القتل وهو في منزله، هذا الهاتف لم يترك لأحد مجالا للإنكار، ولم يترك مجالا لأحد كي يسلّم عقله لوسائل الإعلام التقليدية، ولا للمجتمع من حوله.
المشاهد كانت بشعة، يقول للجزيرة نت. ويكمل: شعرت بانقباض في صدري طيلة تلك الأيام، وبغضب شديد.
في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، أي بعد أقل من شهر على بدء الحرب على غزة، وبينما كنت خارجا مع زوجتي لحضور إحدى الفعاليات الموسيقية، وجدتُ فقيرا على جانب الطريق. المختلف هذه المرة، أنني لم أكمل السير متجاهلا كما جرت العادة.
توقفت. وقلت: إلى متى سيبقى هذا النظام المتوحش يجعلنا غير قادرين على رؤية معاناة من يختلف عنا من البشر. لم أحضر تلك الفعالية، وقررت العودة للمنزل. فلا يمكن للحياة أن تسير كما جرت عليه الحال. يجب أن نتوقف، وندرك ما الذي يجري حولنا.
بعيدا عن القصة، وعلى صلة بالموضوع. لا يستل الإنسان ذاته من تأثير بيئته الطاغي إلا بالوعي، وبلحظة الإدراك الفارقة التي يتحول معها ليقف على طرف النهر الجاري ناظرا إليه، وواعيا بتركيبته، عوضا عن الانجراف فيه.
وفي هذا العصر شديد التسارع، وشديد الفردانية بفكره الغربي الليبرالي الذي يؤلّه اللذة والأنا، لا يبدو الفكاك سهلا. وما يبدو حدثا مركزيا عند داني من حيث رؤيته للمشاهد التي بعثت في نفسه لحظة الإدراك، قد لا يكون عند آخر، بل قد لا يستدعي ذات المشهد التوقف عنده من الأساس والنظر والتأمل فيه. لحظات الإدراك لا تأتي جُزافًا، بل تتطلب استعدادا نفسيا مسبقا، أو لحظة إلهام سماوية تتجاوز حسّ الإنسان وتخطيطه.
عنون ابن خلدون في مقدمته أحد الفصول بقوله إن "أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر"، وعلى الرغم مما يبدو ظاهرا من عنوان الفصل بارتباط الأخلاق بنمط العيش حصرا وابتعاده عن موضوع حديثنا، فإن ابن خلدون يعلل نظرته تلك بأن ذلك عائد لكثرة ما يتعرض له أهل الحضر من "فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا، والعكوف على شهواتها" بينما على الجانب الآخر، فإن "أهل البدو وإن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروي". هذا الثنائية ما بين التعرض الشديد لفنون الملاذ، في مقابل التعرض للمقدار الضروري، أمر يطرأ في كل زمان وجغرافيا، حتى داخل المدينة.
يتشابه الواقع لأهل الحاضرة الواحدة إذا، دون أن يستدعي ذلك تشابه الاستجابة بالضرورة.
أكبر سجن على الأرض تاريخ الأرض المحتلة المؤلف: إيلان بابي (الجزيرة)فمنذ أواخر أكتوبر، بدأ داني بقراءة الكثير من الكتب حول فلسطين، ليتثقف حول هذه القضية التي أدرك أنه يجهل الكثير عنها، ووصف أن هذا الجهل في أميركا ممنهج. يقول: أول ما افتتحت به، هو كتاب لإيلان بابيه، ومع نهاية العام قرأت 60 كتابا، وكرست نفسي للتعلم، كي أصل للحقيقة. وما قرأته كان صادما، كمية التزييف التي تعرضنا لها كانت مخيفة بالنسبة لي. ومع القراءة بدأت الكثير من تفاصيل حياتي تتغير.
يضيف داني: في السابع من نوفمبر، وبينما كنت أسير مع زوجتي في منطقة البلازا المركزية في ولاية كانساس، أشارت لي زوجتي ناحية مظاهرة مؤيدة لفلسطين، لم أشارك في تلك المظاهرة، لكنها كانت البذرة التي بدأت تنمو في ذهني.
بعدها بأسبوع، وتحديدا في الخامس عشر من نوفمبر، حضرتُ فعالية كانت تحت تنظيم منظمة الهدف، وهي منظمة تعمل على التوعية بالقضية الفلسطينية. ثم بدأتُ أتفاعل على منصات التواصل الاجتماعي الخاصة بي مع القضية الفلسطينية، وقادني ذلك لحضور أول فعالية للتضامن مع فلسطين.
كانت نية داني حينما بدأ ببناء علاقته مع المنظمين من منظمة الهدف، هي أن يتضامن مع القضية الفلسطينية. بمرور الفعاليات، يقول بدأتُ أسأل عن الإسلام. حينها أحالوني للدكتور محمد عودة، الذي نطقت الشهادتين معه.
"في ذلك الوقت، كانت حياتي تنهار أمامي، أو هكذا كنت أراها. تراجعت علاقتي بالعمل، مع زوجتي، وكنت أشرب كثيرا. وربما كان هذا الانهيار هو ما جعلني أرى الإيمان لدى من أُصيبوا".
ويواصل "وحينما أمسكتُ القرآن اتضحت كثير من الأمور بالنسبة لي، الكلمات في غاية الوضوح، والمباشرة. كما أن التوضيحات التي جاءت حول قصة عيسى عليه السلام كانت مدهشة بالنسبة لي، لأنها حققت أمرين، أنها أكدت نبوة عيسى عليه السلام، وصححت التصورات حول نبوته وما جرى له".
توقف قليلًا كأنه يرتب ألفاظه للتعبير عن فكرته التالية، ثم استأنف "في القرآن، لا تتعلم كيف تتجاهل الوقائع، بل يكون إيمانك هو الدافع للانخراط والتفاعل مع الحقائق، وتدافع عن حقك حتى لو لم تكن موازين القوى في صالحك. في السابق، تعلمت في الكنيسة الإيفانجيليكية أن أتجاهل كافة الوقائع والحقائق المحيطة بي، وأن أتحلى بالإيمان فقط".
حينها سترى الأبرياء يقتلون، ثم تنغلق على ذاتك وتكتفي بأن تقول "أنا على حق" دون أن يكون ثمة دليل وبرهان. تعلّمتُ ألا أهتم إن كان لأفعالي المباشرة أثرا سلبيا، وأن لا أشعر بالذنب. هذا بالنسبة لي يُعدّ نظاما مثاليا للسيطرة والتحكم بالعقول. يُكمل داني والانفعال بادٍ على وجهه: "كنّا نقول من قتل المسيح، ونرد: اليهود. بينما نتعامل سياسيا معهم باعتبارهم الخير المطلق، فقط لتحقيق نبوءة.
"القرآن لا يأمر بذلك". يقول داني، "بل لديه توجيه أخلاقي واضح، توجيه أخلاقي للمجموع وللفرد على السواء. جميعنا مسؤولون عمّا نفعل كأفراد. في النهاية، أمسك داني بالقرآن الذي اصطحبه معه، وهي نسخة باللغة الإنجليزية تملؤها ملصقات ملونة يدون داني معها ملاحظاته وتأملاته أثناء قراءته للقرآن. يقول: زوجتي الآن بدأت تقرأ عن الإسلام، وآمل أن يهديها الله!".
مرت الساعاتان بسرعة، ونحن نتهيّأ لإنهاء المقابلة، سألته عمّا إذا كان يريد أن يختم حديثه بملاحظة، قال: "سأبقى مدينا لما جرى في غزة طيلة حياتي رغم كل الآلام والبشائع التي تحدث، هؤلاء أيقظوا أنفسًا كثيرة حول العالم. ومسؤوليتنا جميعا أن نوقف هذه الإبادة التي تجري اليوم".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات أبعاد الولایات المتحدة أحداث سبتمبر بالنسبة لی ابن خلدون فی أمیرکا ما یجری بن لادن الذی ی
إقرأ أيضاً:
التنوع الثقافي في عمان ... نموذج التسامح والوحدة الوطنية
بدر العبري: التنوع الثقافي أساس لتعزيز الهوية العمانية
الحبيب سالم المشهور: التعددية الثقافية تراث وطني للأجيال
أحمد النوفلي: التعايش العماني تأصيل للقيم الإنسانية
مصطفى اللواتي: التسامح ضرورة لحماية المجتمع من التطرف
في إطار ثقافي غني بتنوعه وأصالته، تبرز سلطنة عمان كنموذج حي للتعددية الثقافية التي أثرت الحياة العمانية وأغنتها، فمن خلال التنوع الثقافي والمذهبي والعقائدي الذي تميز به المجتمع العماني، تمكنت البلاد من بناء بيئة متسامحة تتميز بتآلفها، وهو ما جعلها وجهة تشهد على قيم التسامح العريقة المتأصلة في نفوس العمانيين.
في هذا الاستطلاع، نعرض مجموعة من الآراء التي تعبّر عن رؤية مجموعة من الكتاب والمفكرين العمانيين حول موضوع التعددية الثقافية، مستعرضين كيف تشكل هذا التنوع من خلال عوامل التاريخ والجغرافيا والسياسات الاجتماعية والدينية التي دعمت الاستقرار والتعايش، وصولاً إلى التركيبة الاجتماعية المتفردة في عمان، متناولين انعكاسات التعددية على الوجدان الوطني وكيف أسهمت هذه العوامل مجتمعة في بناء مجتمع متسامح وقادر على العيش المشترك.
التعدد الثقافي
بداية قال الكاتب والباحث بدر العبري حول "التعدد الثقافي في بناء مجتمع عماني متسامح" إن "المجتمعات بطبيعتها ليست على صورة واحدة"، موضحًا أن الهويّة الثقافية الواحدة بمعناها الحرفي لا وجود لها، حيث يمكن للمجتمعات أن تشترك في خيوط جامعة فيما بينها، إلا أنها تظل، من حيث البداية، متباينة. حيث أن المجتمع العماني هو أحد الأمثلة الواضحة على هذا التباين، فهو ليس على صورة وهوية واحدة، حيث تضافرت عدة عوامل جعلت منه مجتمعًا متنوع الثقافات والهوية. وأكد أن هذا التباين يعود لأسباب مختلفة، من أبرزها تباين التضاريس في عمان التي تشمل البحر والسهل والجبل والصحراء والبادية والواحات، مما أوجد بيئات متنوعة أثرت في تباين الهوية العمانية الثقافية، وأسهمت في تكوين ملامح متعددة لهذا المجتمع.
وأضاف "العبري" أن الموقع البحري لعمان وانفتاحها على المحيطات وفرّ للعمانيين فرصة التواصل والتفاعل مع الخارج منذ القدم، حيث سمحت لهم سهولة الهجرة والانفتاح بالاطلاع على حضارات متعددة، كحضارة ما بين النهرين، والسند، وفارس، وشرق آسيا، وأجزاء واسعة من القارة الإفريقية. وشدد على أن هذا الانفتاح لم يكن من اتجاه واحد فقط، إذ شهدت عمان أيضًا هجرة عكسية حيث استقرت فيها قبائل قدمت من تلك الحضارات إلى عمان، ما أسهم في رسم صورة ثقافية متكاملة، وخلق روابط تتجاوز الحدود. وأضاف أن بعض القبائل العمانية هاجرت إلى الخارج، وما زال لها وجود في تلك المناطق التي أشرنا إليها، بينما استقرت قبائل أخرى داخل عمان وأصبحت جزءًا من الهوية العمانية الجامعة، مما زاد من تنوع المجتمع العماني على صعيد الانتماء الكلي والمواطنة.
وأشار بدر العبري إلى أن هذه العوامل التاريخية والجغرافية أسهمت في خلق لوحة ثقافية متباينة في عمان، حيث توجد عدة لغات داخل عمان، منها الكمزارية والشحرية والمهرية والبطحرية والحرسوسية والبلوشية والأردية والفارسية والهندية السندية، بجانب اللغة العربية الأم، والتي تعتبر اللغة الجامعة بين الجميع. ولفت إلى أن هذا التعدد اللغوي يقابله أيضًا تعدد في اللهجات داخل اللغة العربية نفسها، حيث تتميز اللهجات العمانية بجماليات صوتية فريدة وخصوصيات معجمية تساهم في إثراء التجربة الثقافية في عمان، وتُعد مكونًا مهمًا من مكونات الهوية.
كما نوه إلى أن التعدد الثقافي في عمان يتجلى في العادات والتقاليد، إذ تشكلت في عمان لوحات من التقاليد المرتبطة بمناسبات متعددة مثل الأفراح والأعراس والمواسم الدينية، وسفر البحر، ومواسم الأعياد، وغناء الأطفال، والركبان، مما يعكس تنوعًا في العادات يعزز التماسك الاجتماعي. وأوضح أن هذه العادات تشمل تنوعاً في الملبوسات والأطعمة وأنماط الحياة المختلفة، والتي أوجدت تراثًا متجذرًا في المجتمع العماني يجسد الطابع الفريد لهذا المجتمع.
وأكد في الوقت نفسه على أن الانفتاح الذي عاشته عمان في الماضي، سواء بسبب البحر والهجرة، أو في الحاضر بفضل التطورات في العمل والسياحة، ساهم في خلق تعددية دينية ومذهبية داخل المجتمع العماني، وأوضح أن انفتاح المجتمع العماني اليوم على الفضاء الفكري والمعرفي أوجد تعددية معرفية وفكرية إضافية. وأشار إلى أن عمان أصبحت جزءًا من فضاء عالمي مفتوح يتفاعل فيه الثقافي والمعرفي، مما يجعل من الطبيعي أن تنتقل بعض الثقافات المعاصرة إلى عمان، وهو ما يعزز تنوع المجتمع الثقافي في الوقت الحاضر.
وتابع "العبري" الحديث عن تاريخ عمان، مبينًا أن عمق التاريخ العماني الذي يمتد لآلاف السنين أوجد تنوعًا ثقافيًا في العمارة والفنون والمخطوطات والآثار البنائية، حيث أنشئت الحصون والقلاع والأفلاج والأسوار، وتنوعت الأضرحة، مما أضاف جانبًا أثريًا غنياً إلى المشهد الثقافي العماني. وذكر أن الآثار العمانية لا تتوقف عند هذا الحد، بل تشمل الأدوات المعدنية والنحاسية والفخارية والصناعات التقليدية، إضافة إلى أدوات الرعي والبحر ووسائل التنقل، مشيرًا إلى أن هذا التاريخ العريق قد أسهم في تشكيل هوية ثقافية متعددة الأبعاد لأبناء عمان.
في الوقت نفسه أوضح الباحث بدر العبري أن التعددية الثقافية ليست حالة سلبية، بل هي حالة طبيعية لها أبعادها المتعددة، حيث إن منها ما ينقرض أو يضمحل بمرور الزمن، ومنها ما يستمر ويتفاعل مع مجتمعات أخرى، ومنها ما يُستقبل ويصبح جزءًا من المجتمع، فتتثاقف الثقافات وتندمج وتتشكل هويات جديدة، أو يبقى بعضها ضمن الهويات الأصلية، مما يعكس جمال التنوع والتعددية في المجتمع الواحد. وأكد أن التعددية الثقافية تعطي لوحة جمالية تعكس ثراء المجتمعات، وهي توفر، إلى جانب ذلك، ثراء سياحياً واقتصادياً يمكن الاستفادة منه إذا ما تم استثماره بالشكل الصحيح. وأوضح أن السياحة الثقافية لا تقل أهمية عن السياحة الطبيعية، سواء كانت فنية أو دينية أو ثقافية أو معرفية، فهي حالة طبيعية يجدها السائح سواء من خارج البلاد أو من داخلها، وتساهم في خلق فرص عمل جديدة تدعم استقرار الاقتصاد الوطني، مشيرًا إلى أن تنوع الأنشطة السياحية الثقافية يخلق حركة اقتصادية واسعة في المجتمع.
ولفت إلى أن التعددية الثقافية توفر مادة خصبة للسينمائيين والفنانين والكتّاب والأدباء والمترجمين، فهي حاضرة في الأفلام والسينما والموسيقى والشعر والأدب بأنواعه، مما يوفر مساحات إبداعية واسعة للباحثين والمفكرين والفلاسفة. وأضاف أن هذا التنوع الثقافي يثري مجال التوثيق الإعلامي، ويجعل من جمالية التعدد الثقافي مادة خصبة تسافر معنويًا إلى الخارج من خلال الأفلام الوثائقية والسينمائية والموسيقية، والكتب الأدبية والتحليلية، كما يساهم في تشجيع الترجمة إلى لغات أخرى، مما يفتح المجال لتعريف العالم بعمان وثقافاتها ويساهم في دعم السياحة. . وأوضح العبري أن هذه الجوانب جميعها تعكس قيمتين مهمتين: الأولى هي القيمة الجمالية التي يحققها التنوع الثقافي، والثانية هي القيمة التعايشية والتسامحية، مشيرًا إلى أنه كلما كانت المجتمعات أكثر تعددية، كلما زاد تماسكها وانعكس جمال هذا التنوع في روح الوحدة التي تجمعها. وأضاف أن التنوع الثقافي في عمان يعزز مفهوم المواطنة القائمة على الاحترام المتبادل، مما يسهم في إثراء الأبعاد الوطنية والاستثمارية والسياحية، ويساهم في استدامة هذا الإرث الثقافي للأجيال القادمة.
وبيّن الكاتب والباحث بدر العبري أن المجتمع العماني قد حقق هذا التنوع الثقافي المتسامح من خلال ثلاثة أبعاد رئيسية، أسهمت في ترسيخ روح الانسجام وقبول الآخر بين أفراده. أول هذه الأبعاد هو "البعد الذاتي والتاريخي"، الذي أوجد لدى العمانيين قدرة على التآلف والتعايش مع الثقافات المختلفة عبر تاريخ طويل من التواصل الحضاري. وأشار العبري إلى ما جاء في مقال للكاتب زكريا المحرمي بعنوان "عمان من التسامح إلى الانسجام"، حيث أورد شهادة المبشر الإنجليزي ويليام جيفورد بالجريف الذي زار عمان في عام 1863م، ووصف طبيعة العمانيين بأنها الأفضل سجية والأحسن معشرًا من بين جميع الأجناس العربية، حيث أكد أن التسامح بأقصى درجاته كان مكفولاً في عمان، مما أتاح لجميع الأجناس والأديان حرية العبادة وفق معتقداتهم، ومنحهم حرية اللباس وممارسة التقاليد الاجتماعية مثل الزواج ودفن الموتى، دون أي قيود أو مضايقات، وهو ما يعكس متانة الروح التسامحية في المجتمع العماني.
أما البعد الثاني فهو "تسامح سلاطين عمان مع المختلفين دينيًا وثقافيًا"، والذي انعكس من حكام عمان إلى أفراد الشعب، حيث اشتهر السلاطين العمانيون بسعة صدورهم وتسامحهم تجاه أصحاب المعتقدات المختلفة. وذكر العبري مثالاً على ذلك مما أورده هلال الحجري في كتابه "عمان في عيون الرحالة البريطانيين"، حيث ذكر شهادة الرحالة البريطاني جيمز ريموند ويلستد الذي زار عمان في عهد السيد سعيد بن سلطان في عام 1833م، والذي أشار إلى أن حكومة هذا السلطان كانت تتسم بالبعد عن ضروب القمع والاعتقال العشوائي، وامتازت بكرمها ولطفها تجاه التجار القادمين إلى مسقط من مختلف الدول، ما جعل من التسامح سمة جوهرية في السياسة العمانية منذ ذلك الحين، وشجّع على تعزيز الوحدة الوطنية.
أما البعد الثالث فهو "البعد القانوني"، حيث وقفت عمان موقفًا صارمًا ضد كل من يثير النعرات الدينية والمذهبية والقبلية، وأكدت على تجريم الإساءة إلى الثقافات الأخرى، مما أعطى طمأنينة اجتماعية ساعدت على إرساء الاستقرار الداخلي.
ويضيف "العبري" أن هذه القوانين أسهمت بشكل مباشر في تكريس ثقافة التعايش السلمي بين مختلف الأطياف، وأسهمت في مرور الوقت في جعل التسامح جزءًا راسخًا من الهوية العمانية، موضحاً أن هذه القوانين ساعدت على حماية المجتمع من الأفكار السلبية التي قد تهدد التعايش السلمي.
ثروة التعددية
من جانبه، يؤكد الحبيب سالم المشهور أن التعددية الثقافية تشكل ثروة عظيمة للوطن، مشيرًا إلى أن الله حبا سلطنة عمان بتنوع ثقافي وفكري يشمل الجوانب الدينية والمعيشية وكافة تفاصيل الحياة، وقد تعامل الأسلاف مع هذه التعددية بوعي متصالح، حيث أسسوا لأدبيات التسامح والتعايش ضمن النسيج الوطني المتين. ويرى المشهور أن هذا التراث القيم من العيش المشترك يعبر عن خبرة عمانية راسخة في فن التآلف والتواصل الحضاري، والتي أسهمت في إنضاج وعي الإنسان العماني، ورفع مستواه الفكري وتحصينه من خطابات التطرف والتعصب والانغلاق.
ويضيف المشهور أن أجواء التعددية تجعل الإنسان أكثر فهمًا للحياة، كما أرادها الله، وهذا ما تحقق بفضل الله للإنسان العماني. وأشار إلى أن عمان تمتلك تاريخًا طويلًا من تجربة العيش المشترك، وأنه من الواجب اليوم أن نحافظ على مكتسبات هذه التجربة، وأن ندفع الأجيال القادمة نحو فهم هذه الحكمة، وتطوير خبرات الأسلاف في التعايش الإيجابي وتحصينهم ضد كل ما قد يهدد هذه المكتسبات والمنجزات. ويرى المشهور أن هذا الهدف لن يتحقق إلا بتعاون الجميع وباستشعارهم الواجب الوطني والديني في هذا الشأن.
وينوّه إلى أن أكبر ما يمكن أن يهدد تعايشنا المشترك وثقافة التسامح في المجتمع العماني هو خطاب التكفير والتعصب المذهبي، الذي بات ينتشر في عالمنا الإسلامي عبر وسائل التواصل والإمكانات التي وفرتها التكنولوجيا الحديثة، مما يفرض على المجتمع العماني تحديًا حقيقيًا لمواجهة هذه الأفكار الضالة، وتحصين الوعي الديني وتعزيز أدبيات التعايش بين مختلف الأفكار الدينية والثقافية.
ولتجاوز هذا التحدي، يقترح الباحث الحبيب سالم المشهور تعزيز الإعلام ليكون ذا تأثير قوي، وخطاب مباشر موجه للشباب، إلى جانب مراجعة المناهج التعليمية بما يواكب التحديات الراهنة. ويؤكد كذلك على أهمية إتاحة المجال لحوارات صريحة مع الشباب، مشيرًا إلى أن الحوار يُعد أفضل وسيلة لتصحيح الأفكار الخاطئة وتحصين المجتمع ضد عوامل الفُرقة والتطرف.
خصوصية عمان
الكاتب والباحث أحمد بن مبارك النوفلي يرى أن المجتمع العماني، كغيره من المجتمعات، يضم المثقف وغير المثقف، كما يحتوي على الصالح والطالح، ويؤثر في محيطه ويتأثر به، إلا أن له خصوصية تميزه ككل المجتمعات التي لها خصائصها الفريدة. ويشير النوفلي إلى أن أبرز ما يميز المجتمع العماني هو قدرته على التعايش بتسامح وتفاهم، وهو ما يجعل هذا المجتمع قادرًا على بناء علاقات إنسانية فريدة، وإن كان هذا لا يعني أنه مجتمع خالٍ تمامًا من التعصب أو التزمت، إذ إن طبيعة البشر تجمع بين الصالح والطالح، ويتخلل حياتهم التصادم والتدافع، مما يجعل الحياة أكثر وضوحًا وتبرز قيمها، مذكّرًا ببيت الشعر الشهير للمتنبي:
"فالضد يُظهر حسنه الضد
وبضدها تتبين الأشياء."
ويرصد النوفلي وجود تعدد ثقافي في عمان ليس فقط في العصر الحالي بل منذ القدم، ومنذ ما قبل الإسلام، حيث ضمت عمان ديانات متعددة كالنصرانية واليهودية والوثنية، وتعايش المسلمون مع غيرهم، وهذا التسامح استمر حتى فترة قريبة، حيث أقر غير المسلمين بتسامح العمانيين، مثلما ذكر الرحالة الإنجليزي جيمز سلك بكنجهام في كتابه "عمان في عيون الرحالة البريطانيين"، عندما زار عمان في عام 1816م، مشيدًا بما شهده من احترام ولطف من العمانيين تجاه الأوربيين، مما أتاح للأجانب التحرك بحرية وأمان في عمان، وعزا هذا التسامح إلى طبيعة العمانيين المسالمة والودودة.
ويعود ذلك إلى أسباب هذا التسامح، مشيرًا إلى التنوع العرقي والثقافي داخل عمان، حيث يضم الشعب العماني تنوعًا عرقيًا يشمل العرب والأفارقة والبلوش والأتراك والهندوس واليهود، مما أدى إلى خلق مجتمع متسامح ومتنوع ثقافيًا ومعرفيًا. ويشير إلى دور الحكومة العمانية في ترسيخ التسامح من خلال سنّ القوانين التي تدعو إلى التعامل الحسن وحماية حقوق الجميع.
ويرى أن القيم الإنسانية العريقة هي ما أسست لصورة المجتمع العماني المتسامح الذي نعرفه اليوم، حيث عُرفت عمان منذ القدم بقيمة الاحترام والتعاون والكياسة، وكان نمط العيش الذي فرضه السفر والانخراط في مجتمعات متنوعة كالمجتمعات الإفريقية والمصرية والصينية القديمة قد ساعد العمانيين على التعايش مع الثقافات الأخرى، مما خلق لديهم روح الانسجام والتعاون وتبادل الاحترام مع الشعوب الأخرى. وأشار إلى ما تناوله في كتابه المشترك مع الأستاذ نبال خماش بعنوان "أثر الفقه العماني في السلوك المجتمعي: التسامح نموذجًا"، حيث ذكر العديد من الأمثلة المأخوذة من المدونات الفقهية العمانية التي تتحدث عن الكياسة وأدب التعامل واللياقة الاجتماعية.
ويضيف "النوفلي" أن التسامح والتعايش اللذين عاشتهما عمان في الماضي وما زالت كثير من العمانيين متمسكين بهما لا يكفيان وحدهما اليوم، بل يتطلب الأمر من الدولة أن تعزز هذه القيم من خلال تفعيلها في المناهج التعليمية وتدريسها في المدارس والكليات والجامعات. ويرى أن مجرد الترويج للتسامح عبر الندوات والزيارات الخارجية لن يكون له أثر قوي ما لم يتم ترسيخ هذه القيم في داخل المجتمع نفسه، وأن التدريس وحده لا يكفي، بل يجب أن يكون هناك تطبيق عملي من خلال القدوات والرموز التي ينظر إليها المجتمع ويستلهم منها. ويؤكد النوفلي أن رموز المجتمع يجب أن تمارس التسامح في تعاملاتها اليومية مع جميع الأطياف، حيث يكون تسامحها مثالاً يُحتذى به.
كما يعوّل الباحث أحمد النوفلي على الحكومة في ترسيخ التسامح والتعايش، خاصة في الجوانب الدينية والثقافية، مشيرًا إلى أن التعصب الديني يُعدّ من أشد أنواع التعصب لأنه ينطلق من معتقدات جازمة ويعتبرها البعض مشروعة دينيًا، نتيجة للتعليم الخاطئ والتوجيه غير السليم، فيما الإسلام دين الإنسانية والتسامح والعدل والرحمة. داعيا إلى توسيع الدائرة الثقافية وإتاحة المزيد من الأنشطة الفكرية، التي تؤدي إلى تفاعل الأفكار وتلاقحها مما يعزز ثقافة التسامح وقبول الآخر.
ويرى "النوفلي" أن المجتمع العماني بحاجة إلى استقطاب المفكرين في مجالات التربية والدين والاجتماع والنفس والفلسفة، مشيرًا إلى أن هناك الكثير من الأصوات والأفكار القادرة على المساهمة في إثراء الحوار لكنها محصورة في مساحات ضيقة. ويعتبر النوفلي أنه ما لم تتغير هذه الظروف فإن الواقع لن يتغير، وسنظل ندور في دائرة مفرغة تزيد من الشعور بالاختناق وتغذي التطرف. ويرى أن قمع الفكر والإبداع يؤدي إلى ظهور الكراهية، بينما يؤدي تشجيع الفكر الحر إلى تعزيز التسامح.
ويختتم الباحث أحمد النوفلي قائلاً إن تعزيز الجانب المعيشي للأفراد وتوسيعه يؤثر في ترسيخ التسامح، حيث يرتبط التسامح اجتماعياً وثقافياً بسعة العيش، فكلما توسعت المعيشة اتسع معها الخلق وتحسنت العلاقات، وكلما ضاقت اشتد التوتر وزادت حدّة التعصب، سواء تجاه الأقارب أو الغرباء.
تعايش عمان
يشير الكاتب والباحث مصطفى محسن اللواتي في بداية حديثه إلى أهمية توضيح بعض المصطلحات الأساسية كالتسامح والتعايش والمواطنة، موضحًا أن هذه المفاهيم التي تصب في إطار التعايش السلمي لا تعني بأي حال من الأحوال أن يتخلى الإنسان عن مذهبه أو دينه أو أفكاره أو معتقداته. ويؤكد اللواتي أن المحور الأساسي لهذه المصطلحات هو "قبولنا لبعضنا البعض كما نحن"، بكل اختلافاتنا. ويرى أن الخوف من الانصهار مع معتقدات الآخرين لا معنى له، إذ إن الهدف هو أن نعيش معًا دون أن يؤثر هذا التباين في علاقات الود والمحبة أو المواطنة. ويؤكد أن هذه الروابط تكون أقوى عندما يكون الدين هو الجامع بين أبناء الوطن، مشددًا على أهمية الأخوة الإسلامية كرباط قوي، إذ يقول: "حبل الله معتصم، والتفرق والتنازع فشل".
ويتابع "اللواتي" بالإشارة إلى أن سلطنة عمان اكتسبت سمعة طيبة في مجال التعايش بين أبنائها على اختلاف مذاهبهم، حتى باتت تُضرب بها الأمثال، مشيرًا إلى أن هذه السمعة الطيبة لم تأتِ من فراغ، رغم وجود بعض الملاحظات من العمانيين أنفسهم. ويضيف أن هناك عدة عوامل دعمت ترسيخ هذه الصورة في عمان، فيقول: أولًا، "الشعب العماني نفسه"، فقد عُرف الإنسان العماني بطيبة مفرطة تتجلى في كرم الأخلاق وسخاء النفس وجود اليد. وأوضح اللواتي أن العماني بطبعه صاحب طرفة وابتسامة، حتى في أصعب المواقف، محاولًا تحويلها إلى لحظات خفيفة الظل بمساعدته لهجته ومصطلحاته الخاصة. وأضاف أن حالة التعاون ومساعدة الآخرين التي يتميز بها العماني هي خلق أصيل يؤثر في قبول الآخر والتعايش معه بسلام واحترام.
ثانيًا، "السياسات الحكومية"، فقد ساهمت الحكومة من أعلى المستويات في ترسيخ حالة التعايش عبر سياسات وتشريعات طمأنت المواطنين على أن دينهم أو مذهبهم محترم، حيث كفلت حرية الشعائر والممارسات لكل دين أو مذهب ضمن ضوابط معينة. ويشير اللواتي إلى أن القانون العماني يجرّم أي حديث طائفي مذهبي ضد الآخرين، كما أن أي فعل يصب في نفس الإطار يُحدد عقوبته وفق قانون الجزاء العماني، موضحًا أن المراسيم السلطانية لا تميز بين المواطنين في التعيينات الوزارية على أساس مذهبي. وقد أقر بأنه قد تكون هناك اعتبارات قبلية في فترات معينة، ولكن المذهبية بقيت بعيدة عن المشهد بشكل عام. وأكد أن أي اعتقالات سياسية لبعض المجاميع، رغم وجود بعض الملاحظات عليها، شملت معظم الفئات دون تمييز مذهبي أو طائفي. ويضيف اللواتي أن المواطنة قد حلّت في مختلف مفاصل الدولة، بحيث بات المذهب غائبًا تقريبًا عن المشهد العماني.
ثالثًا، "التنوع المذهبي والثقافي"، فقد أوضح اللواتي أن المجتمع العماني يتشكل من مزيج من الأديان والمذاهب المتنوعة، فالإسلام يطغى على المشهد، حيث يتصدره المذهب الأباضي والسني بنسبة واضحة، إلا أن هناك أيضًا حضورًا لافتًا للمذهب الشيعي رغم نسبته القليلة. وأضاف أن هناك أعدادًا قليلة من الهندوس والمسيحيين، ويعكس هذا التنوع المذهبي في عمان تعددًا عرقيًا، حيث يتشكل الشعب العماني من مزيج من الثقافات الهندية والباكستانية والإفريقية، بالإضافة إلى تأثير أقل من الثقافة الفارسية، وذلك من خلال هجرات أبنائها وعودتهم لاحقًا عبر فترات زمنية مختلفة، مما أدى إلى جلب ثقافات متنوعة تشمل اللغات واللباس والطعام والعادات والأفكار وغيرها. وأوضح اللواتي أن هذا التعدد والتنوع الكبيرين كان لهما دور كبير في تعزيز التعايش بين أبناء الوطن، والقبول بالآخر بغض النظر عن الدين أو المذهب، مبينًا أن أسواق عمان كانت تجمع كل هذا الاختلاف العقدي، وأن التجار والعمال كانوا يتعايشون مع هذا التنوع بقبول ومحبة، وأن هذا التعدد في الأفكار والرؤى والعقائد ولّد مزيجًا ثقافيًا جديدًا أصبح جزءًا من الثقافة العمانية التي يعود إليها العمانيون بمختلف مشاربهم.
ويضيف "اللواتي" أن دول الخليج الأخرى أيضًا عاشت حالة التعايش بشكل طبيعي وتلقائي، حيث كان التزاوج بين أبناء المذاهب المختلفة أمرًا اعتياديًا وطبيعيًا، إلى حد أن بعض الناس لم يكن يعرف الحي أو المنطقة التي ينتمي إليها مذهبيًا. ولكنه يشير إلى أن دخول الحركات السلفية والتكفيرية المتشددة قد أثر سلبًا في هذه الدول، حيث أدى إلى تشرذمها تمامًا. ويرى أن الحكومة انتبهت لهذا الخطر منذ البداية، وضربت بيد من حديد على كل من انضم أو انتسب إلى هذه الحركات، وسارعت بإخراج أي شخص يحاول تخريب المجتمع العماني بهذه الأفكار، بغض النظر عن جنسيته.
ويختم الكاتب والباحث مصطفى محسن اللواتي حديثه بالقول إنه رغم تميز التجربة العمانية في التعايش، إلا أنها لا تزال غير مكتملة، وتحتوي على بعض الثغرات، سواء من ناحية السياسات الحكومية والوزارات المعنية بالشأن الديني والثقافي والتربوي، أو من جانب علماء المذاهب المختلفة. مؤكدا أن تمتين اللحمة الوطنية في عمان ليس بالمهمة السهلة، مشيرًا إلى أن وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي قد تشكل منافذ للاختراق. ويحث المسؤولين والعلماء على ضرورة العمل لسد أي ثغرة قد تسبب مشكلة في المستقبل، بهدف حماية واستدامة تجربة التعايش العماني.