ترجمة ـ أحمد شافعي -

«يجدر بالمسرحية أن تكون فعلا أخلاقيا من أفعال الخيال». هكذا قال الكاتب المسرحي البريطاني إدوارد بوند الذي وافته المنية قبل ثلاثة أشهر، والذي كان على مدى عمره أحد دعاة حق المسرح المطلق في معالجة أصعب قضايا زمنه.

ولعل إعادة عرض المسرحيات أيضا جديرة بأن تعد عملا أخلاقيا من أعمال الخيال.

وذلك ما وجدت نفسي أفكر فيه خلال الأسبوع الحالي حينما شاهدت عرضا مسرحيا تسجيليا يرجع إلى عام 2005 في مسرح (ذي أولد ريد ليون) بشمالي لندن وسط جمهور حاشد. يتناول عرض (اسمي راشيل كوري) حياة فتاة أمريكية تبلغ من العمر 23 عاما إذ تسافر إلى قطاع غزة في عام 2003 للإسهام في إغاثة الفلسطينيين الذين يعيشون في ظل الاحتلال ثم لقيت مصرعها أمام جرافة إسرائيلية.

شارك في كتابة العرض المسرحي كل من آلن ريكمان وكاثرين فاينر التي تشغل حاليا منصب رئيس تحرير صحيفة جارديان، وقد قاما بجمع مادتها من يوميات ورسائل إلكترونية، ويمثل العرض المسرحي لقاء بالحاضر بقدر ما هو لقاء بالماضي. لقد سرت القشعريرة في أوصالي وأنا أستمع إلى ما كتبته من يوميات عن الدبابات، والأطفال الموتى، والأهوال اليومية للعيش في رفح وخان يونس، وكلتاهما من المدن التي نراها الآن في الأخبار وقد انتهت إلى ركام.

تكتب أن «هؤلاء بشر يواجهون الزوال» فتبدو إذ تتكلم عن العقاب الجماعي، وتدمير مصادر المياه، وإطلاق الرصاص على مدنيين غير مسلحين، وضرورة سحب الاستثمارات، وكأنها الكاهنة والعرافة كاسندرا. بمشاهدة هذا العرض بعد قرابة عقدين من تقديمه الأصلي أجد نفسي أفكر في قيمة مسرحيات الماضي السياسية، وبخاصة تلك المسرحيات التسجيلية التي تحتل مكانة لا يشاركها فيها غيرها، فهي وثائق تاريخية تصاغ في قالب فني.

كيف سنشاهد على سبيل المثال مسرحية نيكولاس كينت التسجيلية (فشل النظام) على سبيل المثال في غضون أجيال قليلة؟ وما معنى أن ننصت إلى كلمات امرأة أمريكية، شديدة التحديد والخصوصية، عن صراع تحول على مدار عقدين من الزمن ليصبح عنفا وضيعا نراه يجري أمام أعيننا الآن في غزة؟ قد يعده البعض، نظرا لتوقيته، فعلا من أفعال النشاط السياسي، أو إنسانيا، في ضوء أن مبيعات التذاكر سوف تخصص لمساعدة أسرة فلسطينية منكوبة بسبب القصف الإسرائيلي.

ثمة فارق محدد في هذه الإعادة له تأثير على المعنى، ويتمثل الفارق في أن فريق العرض من اليهود، ومنهم المنتجة والممثلة ساشا شيندر، والمنتجة والمخرجة صوفي روزن فلولادي، وهي من أصول يهودية إسلامية إيرانية مختلطة. وتضمن الجمهور فلسطينيين جالسين مع يهود.

ومع ذلك، فقد قيل لي إن بعض الفنانين عزفوا عن المشاركة في العرض خوفا من أن يشوه ذلك سمعتهم ويقلل فرصهم في العمل بعد ذلك. تقول روزن فولادي إن العمل برمته اتسم بالقلق، فالوقت عصيب، والتمويل شحيح، وثمة خطر في المسرحيات السياسية القوية المماثلة لهذه في ما يبدو.

ولكن عرض مسرحية سياسية يمثل في نظري مقياسا لمدى حرية مجتمع في واقع الأمر، و(مسرح بيلاروسيا الحر) مثال لذلك، فقد منع من العرض في وطنه، لكن هناك حملات قمع للمسرح والفنون في أماكن كثيرة أخرى تمضي نحو الاستبدادية.

بعد أسابيع قليلة من اندلاع الحرب في غزة في أكتوبر من العام الماضي، تحدثت إلى مصطفى شتا، مدير عام مسرح الحرية في الضفة الغربية، عن شخصيات ثقافية في المنطقة تم وضعها رهن «الاعتقال الإداري» دونما توجيه تهمة، ومن أولئك بلال السعدي رئيس مجلس إدارة مسرح الحرية، وفنان السيرك محمد أبوشقة. ولم يمض وقت طويل على حديثنا حتى اعتقل شتا، ولا يزال مسجونا إلى الآن دونما توجيه تهمة إليه. قال لي «نحن نخشى أن نتحدث بحرية لكننا سنظل فنانين».

بصفة أعم، لا أعرف ما الذي كان يمكن أن يقوله إدوارد بوند عن شجاراتنا الأخيرة المتعلقة بالغرض من الفن في أعقاب قيام بايلي جيفورد ـ وهو من رعاة الفنون ـ بسحب استثماراته من صناعة الوقود الحفري إثر حملة ضغط من فنانين. لا شك في أن بوند كان ليرى أنه لا وجود لشيء اسمه المسرح الخالي من السياسة، وذلك كان رأي جورج أورويل، وهو من آباء الكتابة السياسية الروحيين. كتب يقول إن «القول بأن الفن لا ينبغي أن تكون له علاقة بالسياسة هو في ذاته موقف سياسي». ومن يظن أن الثقافة يمكن أن توجد بمفردها في فقاعة غير مسيسة هو في نظري ساذج إلى أبعد الحدود، فتلك مفارقة رومنطيقية مفرطة العاطفية.

إن منطلق أي مشروع إبداعي، بالنسبة لأورويل، هو دائما الإحساس بالظلم. فالمسرحيات السياسية تمثل سجلا للنضال والتفاوت في المجتمع: ومسرح الاستجابة السريعة للعنصرية خلال حركة «أهمية حياة السود» سنة 2019 مثال لذلك، وكذلك مسرحيات حملة «وأنا أيضا» أي حملة MeToo الخاصة بفضح التحرش بعد إدانة هارفي وينشتين مثال آخر. وإني أتفق مع الكاتبة المسرحية جوربريت كاور بهاتي التي أثارت مسرحيتها (بيزيتي) شغبا في بريمنجهم سنة 2014 حينما تقول إن المسرح الذي لا يحرض هو مسرح لا يقوم بعمله: «فالكتابة فعل خطير، وتحريضي».

في عام 2006، وبعد أن قوبل بنجاح كبير في لندن، تهيأ عرض «اسمي راشيل كوري» المسرحي للانتقال إلى نيويورك قبل أن تؤجل الفرقة المسرحية المستضيفة له عرضه إلى أجل غير مسمى. كان العرض وثيق الصلة باللحظة أكثر مما ينبغي. لكن أليست هذه هي الغاية من المسرح، أن يعرض أشد المواضيع الآنية سخونة، وأن يتيح فرصة للاستماع لـ«الأشياء»، بحسب تعبير أورويل، في وقت حدوثها في العالم؟ إن من يعيدون إحياء هذا العرض يرجون أن تسنح لهم فرصة عرضه في مسارح أخرى، وأن يحملوا الناس على مناقضة مواضيع باتت مرة أخرى مواضيعنا الخاصة.

يسمح الحكي للجمهور برؤية التناقضات، وبالتعاطف، بل وبتغيير الرأي في بعض الأحيان. وهو وسيلة مهمة لتناول الحياة الواقعية. تقول شيندر إن أباها مثال لذلك، فقد شعر أن المسرحية معادية للسامية حينما قرأها للمرة الأولى، ولكن معانيها وصلته حينما شاهدها. وإذن فقد تحققت المهمة.

تقول كوري إن «القادة هم الذين يصنعون الحروب، وإن الفن هو الذي يوثق ويكشف ويأسى لآثارها على البشر».

عارفة أكبر كبيرة نقاد المسرح في صحيفة جارديان.

عن الجارديان البريطانية

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

ماذا يحدث في اليمن؟.. أمريكا تشن هجومًا جويًا وبحريًا على الحوثيين

تشهد اليمن تصعيدًا عسكريًا من قبل القوات الأمريكية ضد جماعة الحوثيين، بعدما أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تعليمات للجيش الأمريكي بشن عمليات عسكرية «حاسمة وقوية» ضد جماعة الحوثي في اليمن

الغارات الأمريكية

وأكد ترامب، أن الولايات المتحدة لن تتهاون في الرد على هجمات الحوثيون، قائلا: «سنستخدم قوة ساحقة وقاتلة لتحقيق أهدافنا، وأن الحوثيين تسببوا في شل حركة الشحن في أحد أهم الممرات المائية العالمية، مما أثر سلبا على التجارة الدولية وانتهاك مبدأ حرية الملاحة الذي تعتمد عليه الاقتصادات العالمية».

وقُتل ما لا يقل عن 31 شخصا، بعد أن شنت الولايات المتحدة ضربات عسكرية واسعة النطاق على اليمن شملت صنعاء وصعدة ومناطق أخرى، قالت إنها رد على هجمات الجماعة على حركة الشحن في البحر الأحمر، في بداية حملة من المتوقع أن تستمر لعدة أيام.

أهداف الغارات

تركزت الغارات الأمريكية على تدمير البنية التحتية العسكرية للحوثيون، بما في ذلك مواقع إطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة، ومخازن الأسلحة، ومراكز القيادة والتحكم. كما هدفت الغارات إلى تقويض قدرة الحوثيين على تنفيذ هجمات مستقبلية ضد السفن التجارية والقوات الدولية في المنطقة.

ردود الفعل

أكد الناطق باسم جماعة الحوثيون اليمنية، محمد عبد السلام، أن الغارات الأمريكية على اليمن هي «عدوان سافر» على دولة مستقلة، وتشجيع لكيان العدو الإسرائيلي لمواصلة حصاره الجائر على غزة، وأن ما يدعيه الرئيس الأمريكي من خطر يتهدد الملاحة الدولية في مضيق باب المندب غير صحيح وفيه تضليل للرأي العام الدولي.

وأضاف محمد عبد السلام، أن الحظر البحري المعلن من قبل اليمن إسنادا لغزة يقتصر فقط على الملاحة الإسرائيلية حتى يتم إدخال المساعدات الإنسانية لأهالي غزة، وأن الحظر اليمني للملاحة الإسرائيلية جاء بعد مهلة أربعة أيام للوسطاء، وأن الملاحة الدولية في البحر الأحمر ستبقى آمنة من جهة اليمن.

الآثار الإنسانية

وأدت الغارات الأمريكية، بالإضافة إلى الصراع المستمر في اليمن، إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في البلاد، حيث يعاني ملايين اليمنيين من نقص الغذاء والدواء. وقد أعربت منظمات إنسانية عن قلقها من أن التصعيد العسكري قد يؤدي إلى مزيد من المعاناة للمدنيين.

اقرأ أيضاً«سنستخدم القوة المميتة».. بدء ضربات على الحوثيين بأمر ترامب

مصطفى بكري: مصر لن تصمت أمام استمرار هجمات الحوثيين على مضيق باب المندب

أمريكا تفرض عقوبات على الحوثيين

مقالات مشابهة

  • شهداء وجرحى في رمضان.. ماذا يحدث في غزة الآن؟
  • القاهرة من ضمنها.. صدمة مناخية تضرب أكبر مدن العالم| ماذا يحدث؟
  • استهداف الأمم المتحدة واشتباكات دامية.. ماذا يحدث في جنوب السودان
  • ماذا يحدث على الحدود اللبنانية السورية وما دور حزب الله؟
  • ماذا يحدث لجسمك عند تناول الأناناس ؟
  • رحيل أنطوان كرباج.. أيقونة المسرح اللبناني بعد صراع مع الزهايمر
  • ماذا يحدث للجسم عند تناول القهوة منزوعة الكافيين؟
  • دماء تسيل وقتـ لي تتساقط على الحدود اللبنانية السورية.. ماذا يحدث هناك؟
  • القلب النابض للنظام المناخي.. ماذا يحدث في المحيطات؟
  • ماذا يحدث في اليمن؟.. أمريكا تشن هجومًا جويًا وبحريًا على الحوثيين