«الرواية والتاريخ والمجتمع».. مرة أخرى!
تاريخ النشر: 29th, June 2024 GMT
(1)
لفتتني بشدة الأصداء الواسعة للمقالين المهمين اللذين نشرهما العلامة الدكتور سعيد بنسعيد العلوي، أستاذ الفلسفة والفكر المعاصر، وهو مفكر مغربي كبير، وروائي أيضًا (له ما يقرب من خمس روايات منشورة) المقالان نشرا على مدى الأسبوعين المنصرمين، بموقع (عروبة 22) تحت عنوان: «الرواية والتاريخ والمجتمع»، والمقال الثاني بعنوان أطول «لا يملك نجيب محفوظ أن يكون مرآة للتاريخ والمجتمع»!
والمقالان معًا (وأظن أن لهما استكمالات في مقالات تالية) هما ثمرة للندوة التي عقدت قبل أسابيع قليلة، بمعرض أبوظبي الدولي للكتاب، وفيها تقرر أن يكون نجيب محفوظ هو شخصية المعرض المحتفى بها، في دورة السنة الحالية، وفي هذا الصدد تمت الدعوة إلى ندوة رئيسية عنوانها: «نجيب محفوظ مرآة للتاريخ والمجتمع».
وكنت قد سعدتُ بلقاء الأستاذ القدير ضمن فعاليات معرض أبوظبي للكتاب، واستمعت إلى مداخلته القيمة حول الموضوع في الندوة المشار إليها، وعنها يقول الدكتور بنسعيد العلوي:
«كان لي شرف المساهمة في هذه الندوة بعرضٍ، إلى جانب ثلة من خيرة الباحثين العرب، وبرئاسة لروائية عربية حظيت بجائزة الشيخ زايد للكتاب لهذه السنة، وكانت الفرصة سانحة لي لأعبّر (قارئًا ومنتسبًا إلى دائرة الروائيين العرب) عما أشعر به من اعتزاز لأديبنا العظيم، من جهة، وللتفكير في مسألة الصلة بين الرواية وبين التاريخ، وبين الاثنين وبين علم الاجتماع».
وسأحاول أن أعرض لأبرز ما جاء في مداخلة الدكتور سعيد أولًا، ثم تفصيله لهذا الرأي، ثانيا، في الحديث الذي دار بيننا مباشرة حول الموضوع عقب انتهاء الندوة، ثم ثالثًا الربط بين فحوى هذا الرأي وبين اجتهادات صاحب هذه السطور حول الموضوع ذاته.
(2)
تحدثنا طويلًا، وكثيرًا، حول ضرورة ضبط المفاهيم أولًا، وضرورة التمييز بين عمل كل من «الروائي» و«المؤرخ» و«عالم الاجتماع»، من ناحية، ووظيفة هذا العمل من ناحية ثانية.
أو بعبارةٍ أخرى، ضرورة فك الاشتباك أو فض الالتباس بين هذه الدوائر الثلاث للنشاط الإنساني، ومحورها الإنسان، لكنها تتمايز جميعًا بعد ذلك في الطريقة والوسيلة والإجراء والأداة! فإذا كان التاريخ «علمًا» والاجتماع «علمًا»، فإن الأدب (الرواية) فنٌّ قوامه الخيال وأداته التخييل!
وأنا أتفق مع الطرح الذي جلَّاه كأحسن ما يكون الأستاذ الدكتور بنسعيد العلوي اتفاقًا تامًا.. وقد كتبت كثيرًا وفي مناسبات متفرقة على مدى السنوات العشر الأخيرة ألح، وأشدد في الإلحاح، على التمييز الضروري واللازم بين «الرواية» من ناحية، و«التاريخ» والعلوم الإنسانية (ومنها علم الاجتماع) من ناحية ثانية.
كما أشدد على ضرورة التمييز بين مفاهيم «الرواية التاريخية»، وليس مفهوم واحد ووحيد لـ «الرواية التاريخية»، فأنا أظن أن «الرواية التاريخية» منذ نشأتها لم تظل على «مفهوم» واحد ثابت، بل تطورت فنيا وجماليا ما يجعلنا بكل ثقة نقول: إن «الرواية التاريخية» كما كتبها جورجي زيدان شيء، وكما كتبها نجيب محفوظ وأبناء الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين شيء آخر، وكما كتبها أو التجأ إليها كتَّاب جيل الستينيات ومن تلاهم في مصر والعالم العربي شيء ثالث تمامًا!
ومن ثم فلا بد من مراجعةٍ دقيقة للمفهوم الذي بات يُتداول بكثرة كاثرة ودون ضابط ودون رابط ودون أي تحديد حتى فوجئنا بأننا أمام طوفان من الأعمال الروائية التي تطلق على نفسها «رواية تاريخية» وهي تلجأ أو تستعيد بدايات حضورها في الثقافة العربية كما كتبها جورجي زيدان -مثلا- في أكثر أشكالها بدائية ومدرسية وبما يعلي من وظيفتها التعليمية التبسيطية أكثر من كونها رواية فنية تخييلية تقوم على توظيف جماليات الفن الروائي لتمثيل الموضوع الذي يسعى الكاتب أو الروائي إلى تمثيله مستعينا بمادة تاريخية أو مستلهما لحادثة أو شخصية أو واقعة.. إلخ، لكنها ليست مقصودة لذاتها إنما الغرض منها أن تكون بمثابة القنطرة أو المعبر أو المجاز الذي من خلاله يجسد الروائي فكرته ويمثلها جماليا من خلال توظيف جماليات السرد الروائي.
(3)
وللأمانة العلمية، والدقة التاريخية، لا بد أن نشير إلى التفات أستاذين جليلين؛ أحدهما أستاذ متخصص في الأدب والرواية، هو الدكتور أحمد الهواري، والآخر أستاذ متخصص في التاريخ بل من أكبر وأبرز المتخصصين فيه، هو المرحوم الدكتور قاسم عبده قاسم، تضافرت جهودهما معًا في وقت مبكر لدراسة الرواية التاريخية، وقدما إسهامهما العلمي في كتابٍ اشتهر منذ صدوره بعنوان «الرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث»، وقد توقف الدكتور قاسم عبده قاسم مليا أمام ماهية الرواية التاريخية أولا ومعناها ومفهومها الذي تأسست به وظهرت من خلاله في الأعمال الروائية الأولى (سواء في الأدب العالمي أو في الأدب العربي).
إن مفهوم «الرواية التاريخية» لدى الدكتور قاسم عبده قاسم يتسع عن النطاق المحدود لمفهوم الرواية التاريخية في النقد الأدبي أو المصطلح الفني الحديث... ليشمل كل رواية منشورة فما يقصده بالرواية التاريخية هنا «هو أن الرواية تسجيل (تاريخي) لحال المجتمع الذي يعيشون في رحابه بشكل أو بآخر، ذلك أنه يتم في فترة (تاريخية) ويسجل صورة فنية تعكس رؤية الروائي للموضوع أو للظاهرة..
ويقودنا هذا إلى بحث أوجه الاختلاف بين (التاريخ) و(الرواية) بشكلٍ حتمي. ذلك أنه قد يُفهم من الكلام السابق أن التاريخ والرواية متشابهان متماثلان، وهو ما لا أقصده على الإطلاق.
صحيح أن هناك قدرًا من (التاريخية) في أي رواية، وأن هناك قدرًا من (الرواية) في أي كتابة تاريخية. وصحيح، أيضًا، أن هناك قدرًا من الاشتراك في الهدف وفي المادة الخام لكل منهما (أي الإنسان في سياقه الاجتماعي)، ولكن الصحيح كذلك أن بينهما اختلافات عدة تتمثل أهمها في وظيفة المؤرخ ووظيفة الروائي من ناحية، وأسلوب كل منهما في عمله من ناحية أخرى. فضلاً عن أن الفن هو الإطار الذي يحكم عمل الروائي، على حين يجد المؤرخ نفسه مقيدًا داخل حدود المنهج العلمي. وفضلا عن أن الروائي يستخدم خياله بطريقة إبداعية حرة للوصول إلى ما يسميه النقاد (الصدق الفني): فإن المؤرخ لا يمكنه بحال أن يستخدم خياله إلا في إطار الاستنتاج والاستنباط والمقارنة التي تستند إلى حقائق تاريخية موضوعية لا يد له في صنعها».
(4)
والغريب، فيما استلفتني واستلفت الأستاذ الجليل، مع طوفان النشر والكتابة الذي غمر عالمنا العربي في السنوات العشر الأخيرة، وبخاصة فيما أطلق عليه أصحابها «رواية تاريخية» أو تعامل معه قراؤها على أنها «رواية تاريخية»، ثمة التباسات عديدة في المفهوم، وفي الشكل وفي الغرض الذي تكتب من أجله، وكذلك في طبيعة النصوص نفسها التي تدعي لنفسها أنها كذلك!
عدد ضخم من الروايات التي صدرت في العقد الأخير تكاد تحقق حرفيًا المفهوم البدائي للرواية التاريخية، كما كان يكتبها جرجي زيدان، فيما بات يشكل ظاهرة غريبة وعجيبة، ربما يصح أن نطلق عليها «النكوص والارتداد الفني» بالعودة إلى قوالب كتابة الرواية التاريخية في أشكالها الأشد «بدائية»، و«مدرسية»، و«تقليدية»، كما لو كان جرجي زيدان قد بعث من قبره، وأصبح هناك أكثر من جرجي زيدان في كل مكان من عالمنا العربي!
ويبدو أن هذه الظاهرة قد استفحلت وانتشرت وعمت، فاستنفرت الأستاذ الجليل بدوره كي يجدد التنبيه والتذكير وضرورة الفصل بين الرواية من ناحية، والتاريخ من ناحية، وعلم الاجتماع من ناحية ثالثة!
ثم جدد الدكتور العلوي التأكيد على جوهر الفكرة التي تقول: إن الفنان (الروائي) الذي يكتب فنًّا (رواية) له الحرية الكاملة في الاختيار والتصور مما يمكنه من إعادة خلق الوقائع التاريخية لتعبر عن وجهة نظره التي يريد التعبير عنها فيما يكتب، وليس هناك ما يلزمه -عكس المؤرخ أو الباحث التاريخي- سوى الصدق الفني الذي يعكس مدى قدرته على تقديم تجربته التي يصورها.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الروایة التاریخیة نجیب محفوظ من ناحیة فی الأدب
إقرأ أيضاً:
أهم 4 دروس من سورة القصص.. لبناء الشخصية والمجتمع
سورة القصص هي إحدى السور المكية التي تضم العديد من العبر والدروس المستفادة التي توجه المسلم في حياته اليومية، وتساعده في فهم العوائق التي قد تواجهه وكيفية التعامل معها بالصبر والتوكل على الله.
هذه السورة تروي قصة موسى عليه السلام، وتقدم العديد من الدروس التي يمكن أن يستفيد منها المسلم في جميع جوانب حياته. وفيما يلي أهم أربعة دروس من سورة القصص، التي تساهم في بناء شخصية المسلم والمجتمع.
1. التوكل على الله والتفويض الكاملمن أبرز الدروس المستفادة من سورة القصص هو أن التوكل على الله هو السبيل لتحقيق النجاح والتفوق. في قصة موسى عليه السلام عندما كان في موقف صعب، حيث طاردته جيوش فرعون، وعندما وجد نفسه أمام البحر الأحمر، رفع يديه إلى الله وقال: "كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ" [القصص: 62].
كان التوكل على الله مصدرًا لقوة موسى عليه السلام، وبدعائه وتفويضه لله سبحانه وتعالى، انفلق البحر أمامه. هذا يعلّم المسلم أن لا ييأس أبدًا، وأن يضع ثقته الكاملة في الله مهما كانت الظروف.
2. الصبر في مواجهة الابتلاءاتتعلمنا سورة القصص أن الصبر هو مفتاح الفرج. فحتى في أشد اللحظات صعوبة، كان موسى عليه السلام صابرًا، وقد مر بتجارب مريرة منها الظلم في مصر، والطرد، ثم الغربة والابتعاد عن وطنه، إلا أن الله عز وجل كان يبتليه ليصنع منه شخصية عظيمة.
قال الله تعالى: "إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ" [القصص: 14]، وهذا يعني أن الله يضع المؤمن في اختبارات ليزيد من قوة إيمانه ويُقويه ليحقق مهمته في الحياة.
3. العدالة والحق لا يتأخرانسورة القصص تسلط الضوء على أن العدالة لا بد أن تتحقق في النهاية، رغم ما يبدو من تسلط الظالمين أو الظلم الذي يعيشه المؤمنون في بعض الأحيان. في قصة فرعون الذي ظلم واستكبر، أرسل الله له موسى ليحاربه في الظلم، وفي النهاية، لاقى فرعون مصيره المحتوم. قال الله تعالى: "وَفَجَّرْنَا الْبَحْرَ لِمُوسَىٰ فَفَجَّرْنَا فِيهِمْ لِمُوسَىٰ" [القصص: 60]، وهذا يعني أن الله سينتصر للحق ويجعل الظلم زائلًا في النهاية.
4. التمسك بالهداية والابتعاد عن الغرورفي درس آخر من سورة القصص، نجد أن موسى عليه السلام يُظهر لنا كيفية التمسك بتوجيهات الله وعدم التكبر أو الغرور بعد أن حصل على مكانة عظيمة في مجتمع بني إسرائيل.
كان موسى عليه السلام يحذر من الكبر، وأخذ العبرة من هلاك فرعون الذي قادته غروره وكبرياؤه إلى الهلاك، بينما ظل موسى عليه السلام متواضعًا ومخلصًا في عبوديته لله. قال الله تعالى في هذا الصدد: "وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ" [القصص: 31]، ليعلم موسى عليه السلام أن العظمة لله وحده، وأن الإنسان لا يجب أن يفتخر أو يغرّه ما يملكه من نعم.
سورة القصص تقدم للمسلم دروسًا هامة تساعده على التوكل على الله، والصبر في مواجهات الحياة، والتفاؤل بتحقيق العدالة في النهاية، والابتعاد عن الغرور. هذه الدروس تعد مصدرًا هامًا لكل مسلم يسعى لبناء شخصية قوية مستنيرة بالإيمان.