جريدة الرؤية العمانية:
2025-10-27@07:06:07 GMT

المشيئة الكتابية

تاريخ النشر: 29th, June 2024 GMT

المشيئة الكتابية

 

صاحب السمو السيد/ نمير بن سالم آل سعيد

 

ها هي الورقة البيضاء بين يديك لتكتب فيها ما تشاء؛ هي لك في متناولك، اصنع فيها ما تشاء لتخطه على ورق.

حرية الرأي والتعبير مكفولة بالقانون، وهناك مسائل محظورة لا يجب التطرق إليها خارجة عن إطار حرية التعبير؛ لأنها عدوان وتهجم وتجاوز على القانون. ومنها التعدي على الذات الإلهية والذات السلطانية، وكل ما من شأنه أن يُعرِّض سلامة الدولة أو أمنها الداخلي والخارجي للخطر، والمساس بالديانات والأخلاقيات العامة، وغيرها من محظورات واضحة ينص عليها القانون.

وما عدا ذلك، فبإمكان الكاتب أن يُعبِّر عن رأيه في إطار حرية التعبير، وهذا أبسط حقوقه حتى لا يشعر بالاختناق والانحباس الذاتي في بلده.

فماذا يتبقى إذا حصل ذلك، ووسائل النشر متاحة بحركة زر لتصل الكلمة إلى أي مكان وكل مكان دون رقيب؟!

يمكنك أيُّها الكاتب في ورقتك البيضاء أن تكتب عن النَّاس والأماكن والمواقف والحالات والظروف في إطار حرية التعبير؛ لأنك واثق من نفسك، مستقل مكتفٍ بما لديك مُدرك لحقوقك القانونية، لست ضعيفًا مُترددًا؛ بل مُحق حر شجاع كالكلمة الشجاعة الواثقة التي تقولها.

والكلمة الذي يُخطّها الكاتب وتصل في كل مكان قد تُصحح المسار وتُغيِّر الحال، ويمكنك أن تكتب عن أشخاص في ورقتك البيضاء أو تمحهم كما كتبتهم هم أو غيرهم، وتكتب عن آخرين فيتواجدون في ورقتك البيضاء.

تختار في ورقتك البيضاء ما تكتبه؛ فينكتب بالأماكن والحالات والظروف الذي تريد. في ورقتك البيضاء تستطيع أن تُقدِّم الأشخاص أو تؤخرهم، تُبعدهم أو تُقرِّبهم، يُمكنك أن تحركهم أو توقفهم، تمنحهم أو تمنعهم، تستدعيهم أو تصرفهم. يمكنك أن تلغيهم أو تُبقيهم دون أن تُبدي الأسباب فيما كتبت ولماذا كتبت، فهي ورقتك البيضاء وعليها اسمك ورسمك. تكتبهم بخطوط قلمك، تخطهم بجرة قلمك ثم تتركهم هناك؛ حيث أردتهم يتبعون نمط السرد اللغوي.

يمكنك بكتاباتك في صفحتك البيضاء أن تتنقل في الأماكن، تكتب الرحيل فترحل، أو تكتب الحضور فتحضر! فيتحقق ما كتبت على الورق؛ فالقلم قلمك والورقة البيضاء بين يديك. تخلق عوالمك الكتابية، تختلط بها وتختلط بك تسرح في ملكوتها، ويبقى ما تكتب واقعًا تتفرع منه الأشخاص والأحداث والوقائع والحضور والغياب والذهاب والإياب والبُعد والقرب وما يكون وما لا يكون.

تُفصِّل أدوار الكتابة على مقاسك ومقاسات آخرين تُوجِدْهُم بقلمك فيتواجدون. يذهب أناس ويبقى آخرون، ويأتي أناس آخرون تمنحهم دورًا في ورقتك البيضاء، ممن تريد أن يكونوا في كتاباتك ولا شيء غير مشيئتك الكتابية تكون؛ فيتفاعل الشخوص مع الحالة، والحالة تتفاعل معهم، تتغير أحوالهم وظروفهم وأماكنهم ونفسياتهم وفق ما يخط قلمك. وتصيبهم الحالة بالأعراض الإنسانية التي تنال من واقعيتهم، ويصبحون هم الحالة، والحالة هُم، ويكتب القلم واصفًا وضعهم الذي تَغيَّر وشعورهم الذي تحول وأحوالهم التي تبدلت.

صفحة بيضاء وقلم تكتب عوالم كثيرة لتصبح سردية حياة، ترسم قصتك المختلفة المتنوعة التي تريد.

وإذا أردت أن تُحضِر شخصًا مغمورًا وتُظهِره في كتاباتك لتمنحه الدور الذي أردت دون أن تفسر ذلك في صفحتك البيضاء، فلا أحد سيسألك كيف أتى ومن أين أتى ولماذا أتى؟

وإذا بهذا الذي به أتيت يصبح واقعًا على ورق لأنك جئت به في صفحتك البيضاء، وإذا بمشهده يصبح متحركًا بعد أن كان مُتوقفًا، حاضرًا بعد أن كان غائبًا وظاهرًا بعد أن كان مُتواريًا.

وذلك الحاضر في صفحتك البيضاء إذا أردت أن تُبعده أو تُلغه، فسيُلغى، ولن يُصبح له ذكر أو وجود، وسيختفي ويتلاشى، لأنها ورقتك البيضاء ولك المشيئة الكتابية في كتابة ما فيها.

وأن يكون للمرء ورقة بيضاء يخط عليها كلماته التامات مسؤولية كبيرة لمن يفهمها.. كتابات أزلية ثابتة تبقى في محركات البحث الإلكتروني وسجلات الزمن، بعد أن كانت مجرد ورقة بيضاء ويفنى الإنسان وتبقى الكلمات.

فماذا ستكتب في قادم الأيام؛ فالورقة ورقتك، والقلم قلمك، وروايتك لا بُد أن تسردها حيثما توجد وتكون، هنا أوهناك أو في أي مكان! وأنت وحدك أيها الكاتب من ترسم كتاباتك كما تريد، لتظهر واقعًا مقروءًا، ولا يبقى إلّا ما تخطه يداك ليُكتب على ورقتك البيضاء. وأنت الحقيقي الباقي في المشهد الكتابي، وأنت من لا أحد يستطيع أن ينتزع ذلك منك، فبوركت من مكانةٍ وبورك من قلمٍ.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

منال الشرقاوي تكتب: فيلم «الحجر/ STONE» بيت بلا نوافذ وزمن لا يتقدم

في فيلمه «الحجر/  STONE» يقدم المخرج  التونسي كريم برهومة حكاية امرأة تحاصرها نفسها كما يحاصرها المكان. حيث تدور القصة حول ليلى التي تعيش عزلة قاسية، ترافقها صديقتها سلمى وتحاول إنقاذها بمساعدة صديق قديم هو أكرم، طبيب نفسي. ومع تقدم الجلسات، يتكشف «السر» الذي يكثف هذا الصمت. 
الفيلم من كتابة وإخراج كريم برهومة، تصوير أمين الذوادي، مونتاج دوريد بنزرتي، موسيقى إسحاق حدور، إنتاج نجلاء الباروني ومجدي الحسيني.

من الحجر كجِرم إلى الحجر كحالة
العنوان ثنائي اللغة يحمل دلالتين متداخلتين. كلمة «الحجر» بالعربية تستدعي معنى المنع والعجز عن الفعل، كما تستدعي في الوقت نفسه الثقل والجمود والصمت. أما «Stone» فتشير إلى المادة البكماء التي لا تفصح بسهولة. هذا التعدد يفتح مجال القراءة، فالفيلم يحرك حجارة ثلاثية المعنى، حجر في الذاكرة يثقلها، وحجر في الجسد يشل الإرادة، وحجر في المكان يحول البيت إلى صخرة يسكن داخلها كائن بشري.

الفضاء الحميمي بوصفه سجنًا
البيت في «STONE»  يعمل كجهاز نفسي يترجم اضطراب البطلة. يستعيد المخرج تصور جاستون باشلار للبيت بوصفه "قوقعة الوجود"، لكنه يعيد تشكيله كقوقعة خانقة تنغلق على ساكنها. هنا تتجلى دراماتورجيا المكان، حيث يستخدم الفضاء كعنصر فاعل في تكوين الأحداث الدرامي والنفسي.
يتعاون كريم برهومة مع مدير التصوير أمين الذوادي على استخدام تضييق العمق البؤري وزوايا الكاميرا المغلقة ليجعل المشاهد يعيش الانفصال نفسه الذي تعانيه البطلة. أما الصمت الممدود وأصوات التنفس والخطوات فيعملان كنبض داخلي يعيد تذكيرنا بأن الزمن النفسي لليلى لا يسير إلى الأمام لكنه يدور حول جرح لم يغلق بعد.
يعمل فريق الديكور على بناء فضاء قائم على وحدات مربعة متكررة، أرضيات متقاطعة، فيشعر المشاهد أن كل شيء محسوب هندسيًا لإغلاق الأفق. النوافذ محجوبة بستائر سميكة تعزل ليلى عن الشارع، فلا تراه ولا تسمح للنور بالدخول. هذا الاختناق البصري يترجم حالتها النفسية، ويجعل الداخل مرآة للعزلة التي تسكنها.
الإضاءة المائلة إلى الظل تترك مناطق غير مرئية في الكادر، فتبدو الحقيقة دائمًا خارج الإطار. المونتير دوريد بنزرتي يضيف بإيقاعه البطيء بعدًا زمانيًا لهذا الاختناق، بينما تصميم الصوت يعيد ارتداد الأنفاس داخل الغرفة المغلقة.
بهذه العناصر يتشكل المكان ككائن درامي مستقل، نبضه يتطابق مع اضطراب البطلة، وفضاؤه يتحول إلى استعارة حسية للاكتئاب، بيت مألوف في مظهره، لكنه متاهة مغلقة.

الصوت بوصفه ذاكرة ثانية
يوظف «STONE» الصوت كامتداد للذاكرة، مساحة سمعية تتحرك بين التهديد والملاذ. الصمت هنا له حضور مكثف في صورته الخفية؛ صمت يلتف حول الجسد ويكشف خوفه الداخلي. الأصوات القريبة من الواقع اليومي -صرير الباب، وقع الخطوات، تنفس متقطع- تضخم أو تعزل عن محيطها لتقريب المسافة بين المتفرج والعالم النفسي للبطلة. يدخل الصوت في علاقة عضوية مع الصورة، فيحمل ما تعجز الصورة عن قوله. الموسيقى التي وضعها إسحاق حدور تأتي باقتصاد واضح، تعمل كقيد رقيق يضبط الانهيار ويؤطر الانفعال من دون أن تفسره. بهذه المعالجة يتحول المجال السمعي إلى ذاكرة ثانية تحفظ آثار الألم وتمنح الصمت شكله السردي داخل البناء النفسي للفيلم، ليصبح الصوت جزءًا من إيقاع الأثر نفسه، امتدادًا زمنيًا لما لا يقال وما يظل عالقًا بين الصمت والاعتراف.

الشخصيات: رعاية على الحافة
تقدم ميساء ساسي في دور ليلى أداء يعتمد على الصمت أكثر من الكلام، وعلى الجسد أكثر من اللغة. ليلى ليست حالة مرضية بقدر ما هي ذات تتشظى من الداخل، امرأة تحاول أن تستعيد توازنها في مواجهة خوف لا اسم له. كل حركة بطيئة، كل نظرة معلقة، تبدو كأنها مقاومة صغيرة للانهيار.
في المقابل تؤدي نجلاء الباروني شخصية سلمى بحس إنساني دافئ، تجسد من خلالها فكرة الرعاية كفعل يومي متكرر، سؤال، كوب ماء. وجودها لا يقدم حلولًا، لكنه يخلق مساحة آمنة تسمح للحياة أن تتنفس داخل العتمة.
أما أحمد الأندلسي في دور أكرم، فيمثل العقل الذي يحاول أن يفكك الألم بالمنطق، لكنه يدرك تدريجيًا أن الفهم لا يكفي، وأن ما تحتاجه ليلى هو أن يشهد معها على الجرح لا أن يشرحه. هنا يتحول العلاج النفسي إلى مشاركة وجدانية، إلى فعل إنصات يتجاوز العلم نحو التعاطف.
ويظهر مالك بن سعد في دور سمير كظل ماض لا يزول تمامًا، حضوره محدود زمنيًا لكنه جوهري رمزيًا؛ يمثل الجزء الغائب من السرد، الصوت الذي لم يُسمع، والمشهد الذي لم يُستوعب بعد. وجوده يذكر بأن الصدمة ليست حدثًا منفصلًا، وإنما كائنًا يواصل العيش في الحاضر بأقنعة مختلفة.
من خلال هذا التكوين الرباعي تبني الشخصيات شبكة دقيقة من العلاقات الهشة، يتقاطع فيها الرعاية بالعجز، والتواصل بالصمت. لا أحد يملك خلاصًا نهائيًا، لكن وجودهم جميعًا يمنح ليلى، ولو مؤقتًا، مساحة لتجربة معنى النجاة.

في لحظته الأخيرة، يترك «الحجر/  STONE»  أثره كتنفس ينطلق إلى الخارج، فتواصل الصورة ما عجزت الكلمات عن قوله. لا يقدم الفيلم وعدًا بالفكاك، لكنه يلمح إلى مكانه، إلى تلك اللحظة الهشة التي قد يتحول فيها الحجر إلى خطوة. وهنا ينفتح سؤال معلق عن معنى الخروج ذاته، أهو خلاص أم استكمال للتيه؟ حين يخفت كل شيء، يظل الهواء في اللقطة الأخيرة شاهدًا على عبور حدث، -أو ربما لم يحدث بعد.

طباعة شارك كريم برهومة السر الحجر STONE

مقالات مشابهة

  • كريمة أبو العينين تكتب: هتخلفي يعنى هتخلفي!!
  • خسارة بعت قلمك.. اتهام صادم من وائل عبدالعزيز لسيناريست مشهور (ما القصة؟)
  • انتصار الحمادي.. حرية ناقصة في مدينة الخوف
  • إلهام أبو الفتح تكتب: حلم فاروق حسني
  • منال الشرقاوي تكتب: فيلم «الحجر/ STONE» بيت بلا نوافذ وزمن لا يتقدم
  • ماذا تعرف عن الكاتب إبراهيم نصر الله الذي فاز بجائزة نيوستاد الدولية للأدب؟
  • د.هبة عيد تكتب: لا تعاتب الأقدار فكل منع هو حماية
  • الملاح: لست ضد حرية المرأة أو عملها.. لكن الانفتاح بلا حدود يولد الفوضى
  • الاتحاد البرلماني الدولي يحذر الجزائر بعد انتهاك حرية التعبير لنائب سابق
  • الاتحاد البرلماني الدولي يحذر الجزائر بعد انتهاك حرية التعبير لممثل منتخب