حضرت "الإبل" في حياة إنسان شبه الجزيرة العربية منذ فجر التاريخ، ولم يُستغنَ عنها حتى اليوم، فبعد أن كانت مظهرا لتميزه وثرائه، ومصدرا لرزقه وعطائه، وأداة لسفره وترحاله، أضحت أيقونة ورمزا من رموز تراثه الأصيل المستمد من تاريخه التليد.

ونتج عن هذا التواصل الإنساني مع الإبل فن شعبي جميل يتناقله المجتمع جيلا بعد جيل يسمى "الحداء"، وهو نوع من الشعر الخفيف الذي يُقال لتطريب الإبل، وحثها على السير بتعابير شفهية تقليدية تمكّن الرعاة من مناداة إبلهم وجمعها والتواصل معها.

ويتوارث أبناء الجزيرة العربية "فن الحداء" للتواصل مع قطعان إبلهم من خلال بعض الأصوات والتعبيرات التي اعتادت الإبل على سماعها والاستجابة لها.

ويُعرف حداء الإبل بأنه أحد أشكال التعابير الشفهية التقليدية، ووسيلة للتواصل بين الإبل وراعيها، وهو أسلوب يستخدمه الرعاة في مناداة الإبل لجمعها، كما أنه نوع من الشعر الغنائي تطرب الإبل لسماعه، حيث تعد هذه الحرفة جزءا من الموروث الشعبي السعودي، الذي يتناقله المجتمع جيلا بعد جيل.

تاريخ حداء الإبل

وبحسب المصادر التاريخية، فإن مضر بن نزار بن معد "هو أول من (حدا) للإبل" بعد أن سقط من على بعيره وانكسرت يده وصاح بصوته (وايداه! وايداه!)، وكان حسن الصوت، فأصغت إليه الإبل وجدّت في السّير؛ ومن هنا بزغت فكرة استعمال الحداء لنداء الإبل، ويذهب البعض إلى أن هذه الهمهمات ساعدت "الخليل بن أحمد الفراهيدي" على اكتشاف مفاتيح العروض والأوزان الشعرية.

ويقال إن بداية "الحداء" كان عن طريق التدوية أو الدوّاة، وهو نداء الإبل بصوت رفيع، وجاء في بعض معاجم اللغة أن راعي الإبل إذا أراد أن يستحث إبله لتأتي إليه مسرعة، زجل بصوته وغنّى لها بكلمات مثل.. هَيد هيد، أو: هي دو هي دو. أو: دوه دوه. أو: ده ده بضم الدال. أو: داه داه، وهذا ما زال مستعملا إلى اليوم جنبا إلى جنب مع الرجز، ولم يلغِ أحدهما الآخر، وهو يختلف من بيئة إلى أخرى.

ثم تطور الدُّوّاة من مجرد همس أو صوت أو مناداة على الإبل إلى غناء شعري له طرقه وأساليبه ومفرداته الخاصة، ودخلت فيه مع مرور الزمن المعاني والكلمات الشعرية المغناة، والأشطر الموزونة، فجمع عذوبة الصوت، وسحر القافية المستمد من بيئة البدو وثقافتهم الأصيلة.

ومما يُذكر في قوة تأثير الحداء في الإبل "أن أبا جعفر المنصور سأل حدّاءً، فقال له: ما بلغ من حُسن حدائك؟ قال: تُعطش الإبل ثلاثا فتُدنى من الماء، ثم أحدو فتتبع كلها صوتي، ولا تقرب الماء".

حكايات ومرويات

وقد أصّلت المعاجم العربية وأمهات كتب التراث العربي لـ"حداء الإبل"، كما تحتوي على كمٍّ هائلٍ من الحكايات والقصص والمرويات والأراجيز المرتبطة به، وحفظت كتب التراث الشعبي مجموعة كبيرة من المرويات الشفاهية لأحديات العرب المتأخرين على ظهور إبلهم وصهوات جيادهم، ولعل من أحدث الكتب التي تناولت هذا الباب ديوان "الرجز والحداء"، الذي ألّفه الباحث في الموروث الشعبي إبراهيم الخالدي، ووثّق من خلاله رحلة الحداء الطويلة في تاريخ الأدب العربي، انطلاقا من بدايته الأسطورية حتى عهد البداوة الأخير التي انتقل بها الحداء من الارتباط الوثيق بالإبل إلى علاقة مميزة بالخيل، وإن لم تنقطع صلته برفيقه القديم (الجمل)، وتؤكد هذه الدراسة تماهي "الحداء" الواضح مع بحر "الرجز"، وهذا البحر السهل أتاح الترنم بالحداء لغير الشعراء، حتى صار الحداء أغنية العرب جامعة.

وأشار الخالدي، في تصريح لوكالة الأنباء السعودية، "إلى أن وجود الحادي من أساسيات القوافل المرتحلة في الصحراء، وأهم أدوات الرعاة الحاذقين، وأجمل فنون الغزاة المحاربين". وأكمل "إن (الأديب اللبناني) جرجي زيدان ذكر أن مقاطع الشعر المستعملة للحداء تشبه مشي الجمال الهوينا، ولو ركبت ناقة، ومشت بك الهوينا لرأيت مشيها يشبه وزن هذا الشعر تماما".

و"الحداء" أقرب ما يكون إلى النظم البسيط المكون من بيتين بقافيتين، وبصوت يردده اثنان، وأحيانا عندما تكون الدّلو التي يستخرج بها الماء من الآبار كبيرة جدا، يردده 4 بصوت جهوري، يصل أحيانا في هدأة الليل أو الفجر إلى أماكن بعيدة، ولا يتقيد بلحن واحد، بل تتعدد ألحانه وطريقة أدائه من بيئة إلى أخرى، وتكون ألفاظه شجيّة، تخلب ألباب الإبل، ومعانيه ذات أبعاد تتعلق بشؤون حياة الرُّعاة اليومية، وتشمل كلمات الحداء الشعرية ببساطتها وخفتها وعدد كلماتها القليلة، التنظيم، والقوانين، وطرق السقاية، وأهداف الرحيل، وحياة البادية عامة، وما يجول في نفس الرُّعاة من همّ وشجن.

أحديات الجزيرة العربية

ويؤكد رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية لدراسات الإبل "ذود" الدكتور محمد العتيبي "أن الحداء كان معروفا منذ العصر الجاهلي، وعادة ما يُقال للإبل عند وردها إلى الماء، أو عند سيرها إلى المرعى أو أثناء الترحال من مكان إلى آخر، وهو عبارة عن ترنيمات قصيرة مؤثرة في جمع الإبل وسيرها وانتظام عودتها إلى مُرحِها".

وللحداء مناسبات مختلفة فمنها "حداء الرحيل"، و"حداء السفر"، وحداء سقي الإبل الذي يسمى "العوبال"، وهناك حداء الأوبة المسمى عند العامة "الهوبال"، وهو خاص بجمع الإبل وسوقها إلى مرحها أو مكان رعيها، وهناك "حداء السواني"، ويغنى للإبل التي تجذب الماء من البئر لتنشط في سيرها.

ولم يستطع "الحداء" الاستمرار في لغته الفصيحة وفق ما ورد في كتاب "الحداء" للباحث محمد العجيري، خصوصا بعد أن ترك اللغة من تمسكوا بلهجاتهم الجديدة المولّدة، فتحول الحداء من اللغة الفصيحة إلى اللغات الدارجة لأهل الأمصار، ويوضح المؤلف أن هذا الإرث لم يتم تأليفه من قبل مجموعة معينة من الأفراد، بل انتقل من جيل إلى جيل، وخضع للحذف والإضافة حسب الاحتياجات البيئية للأفراد المستخدمين له، حتى وصل إلينا على الشكل الذي هو عليه، ولن يتوقف عن التعديل حتى يصل إلى مراحل التسجيل.

ومن أمثلة أحديات بدو الجزيرة العربية التي قالوها بلهجتهم العامية ما يسمى بالهوبال، وهو ينقسم إلى حداء ورجز، فأما الحداء فهو الذي يغنّى أثناء انتظار الدّلو، وهو يصدر من قاع البئر إلى حين الإمساك بها، ومن أمثلة ذلك قولهم "سق القعود وهِمّه يسقي خواته وأمّه"، "الله عليك قليّب يجمع خبيث وطيب"، "إن زولمن والتمن زهاب أهلهن تمّن"، "يا مرحبا وارحابي بأم السنام النابي"، "يا شمّخ العشاير يا مجوزات الباير"، "صب القلص لشعيلة كم درهمت من ليلة"، "ملحا جليلة واخر وإن جاء الدَّحم تستاخر"، "يا مرحبا وأهليني بأم الدلال الزيني"، "برقٍ يلهله قبله ينبت شتيل وربله".

وأما الرجز فهو خاص بالإمساك بالدّلو وتفريغ الماء في الحوض ومن أمثلته قولهم "يا غليّم رده يا غليّم رده"، فإذا ارتوت الإبل وأرادوا أن يحثّوها إلى مزيد من الشرب، قالوا "يا الإبل واخذي علّة وقودي ويا قاك الله.. ياو – ياو".

تراث شعبي غير مادي

وقد سجل فن "حداء الإبل" ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي في منظّمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو"، بعد استيفاء شروط الملف الذي تقدمت به كل من السعودية وعمان والإمارات، كأبرز الموروثات التي ما زالت حيّة في التراث الشعبي.

وتحظى الإبل بمنزلة كبيرة في وجدان المجتمع العربي عامة، بصفتها أحد أهم موروثاته الثقافية، ولأجل هذا الارتباط الوثيق بين الثقافة المحلية والإبل، بادرت وزارة الثقافة السعودية بتسمية هذا العام 2024 بـ"عام الإبل"، باعتبارها قيمة ثقافية، وركيزة من ركائز الحفاظ على الهوية الوطنية الأصيلة، والتراث العربي الأصيل.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الجزیرة العربیة الذی ی

إقرأ أيضاً:

العلامات التجارية في الإمارات تعزّز استثماراتها للارتقاء بمبدأ الاستدامة

دبي (الاتحاد)
 يشهد قطاع الجمال في دولة الإمارات تحولاً لافتاً نحو الاستدامة، في خطوة تنسجم مع «الأجندة الوطنية الخضراء 2030»، التي تهدف إلى بناء اقتصاد أخضر شامل ومستدام، يحافظ على الموارد الطبيعية ويعزّز الابتكار البيئي، لا سيما أن العلامات التجارية في الدولة تحرص على زيادة استثماراتها في هذا الشأن بهدف تطبيق ممارسات صديقة للبيئة، من خلال استخدام عبوات قابلة لإعادة التدوير، ومكونات طبيعية خالية من المواد الكيميائية الضارة، إلى جانب اعتماد خطوط إنتاج مستدامة تحد من البصمة الكربونية.في هذا الإطار، وقعَّت مجموعة «لوريال الشرق الأوسط» و«صيدلية ابن سينا» مذكرة تفاهم لتؤسسا بذلك شراكة استراتيجية بينهما لتعزيز الاستدامة، مما يرسّخ التزامهما ببناء مستقبل أكثر مراعاةً للبيئة في قطاع الجمال بدولة الإمارات العربية المتحدة. أُقيمت الفعالية في فرع «صيدلية ابن سينا» في دبي مول، وشكَّلت خطوة مهمة في مسيرة تحقيق الرؤية المشتركة لتعزيز التعاون من أجل غدٍ أكثر إشراقاً ومراعاةً للبيئة، وتركّز هذه الشراكة على تقليل النفايات البلاستيكية من خلال الترويج للمنتجات القابلة لإعادة التعبئة وتمكين استشاريي الجمال عبر برامج تدريبية في مجال الاستدامة، إلى جانب توعية المستهلكين بالممارسات الصديقة للبيئة والقضايا الصحية الملِّحة.

أخبار ذات صلة «الدار» الشريك الرسمي لجولة «دي بي ورلد» «الرياضات الإلكترونية» يحصد «برونزية» البطولة العربية الدولية

مقالات مشابهة

  • «لوريال» و«ابن سينا» تتعاونان باستدامة قطاع الجمال
  • العلامات التجارية في الإمارات تعزّز استثماراتها للارتقاء بمبدأ الاستدامة
  • وزير الرياضة يطلق فعاليات مهرجان الخدمة العامة والتطوع بمركز التنمية الشبابية بالجزيرة
  • سائح فرنسي يشيد بمزاد الإبل بالجوف‬⁩ .. فيديو
  • أمانة شئون القبائل العربية بـ"مستقبل وطن" تستعرض خطة العمل خلال الفترة المقبلة
  • غرينلاند تحت رادار ترامب.. كم تبلغ تكلفة المعيشة بالجزيرة القطبية؟
  • الدكتورة أمل جمال تكتب: سحر الواقع وشخصيات من لحم ودم.. قراءة في حكايات ياسر الغبيرى "ليالي الطين"
  • استشاري أمراض جلدية تحذر من الجمال الاصطناعي
  • حكاياتٌ تحت الماء.. أحدثُ إصدار قصصي للأطفال عن التراث والبيئة البحرية
  • الجوف.. "الصميل" صناعة تقليدية تتألق في مزاد الإبل