حداء الإبل.. حكايات ومرويات التواصل مع الجمال بالجزيرة العربية
تاريخ النشر: 29th, June 2024 GMT
حضرت "الإبل" في حياة إنسان شبه الجزيرة العربية منذ فجر التاريخ، ولم يُستغنَ عنها حتى اليوم، فبعد أن كانت مظهرا لتميزه وثرائه، ومصدرا لرزقه وعطائه، وأداة لسفره وترحاله، أضحت أيقونة ورمزا من رموز تراثه الأصيل المستمد من تاريخه التليد.
ونتج عن هذا التواصل الإنساني مع الإبل فن شعبي جميل يتناقله المجتمع جيلا بعد جيل يسمى "الحداء"، وهو نوع من الشعر الخفيف الذي يُقال لتطريب الإبل، وحثها على السير بتعابير شفهية تقليدية تمكّن الرعاة من مناداة إبلهم وجمعها والتواصل معها.
ويتوارث أبناء الجزيرة العربية "فن الحداء" للتواصل مع قطعان إبلهم من خلال بعض الأصوات والتعبيرات التي اعتادت الإبل على سماعها والاستجابة لها.
ويُعرف حداء الإبل بأنه أحد أشكال التعابير الشفهية التقليدية، ووسيلة للتواصل بين الإبل وراعيها، وهو أسلوب يستخدمه الرعاة في مناداة الإبل لجمعها، كما أنه نوع من الشعر الغنائي تطرب الإبل لسماعه، حيث تعد هذه الحرفة جزءا من الموروث الشعبي السعودي، الذي يتناقله المجتمع جيلا بعد جيل.
تاريخ حداء الإبلوبحسب المصادر التاريخية، فإن مضر بن نزار بن معد "هو أول من (حدا) للإبل" بعد أن سقط من على بعيره وانكسرت يده وصاح بصوته (وايداه! وايداه!)، وكان حسن الصوت، فأصغت إليه الإبل وجدّت في السّير؛ ومن هنا بزغت فكرة استعمال الحداء لنداء الإبل، ويذهب البعض إلى أن هذه الهمهمات ساعدت "الخليل بن أحمد الفراهيدي" على اكتشاف مفاتيح العروض والأوزان الشعرية.
ويقال إن بداية "الحداء" كان عن طريق التدوية أو الدوّاة، وهو نداء الإبل بصوت رفيع، وجاء في بعض معاجم اللغة أن راعي الإبل إذا أراد أن يستحث إبله لتأتي إليه مسرعة، زجل بصوته وغنّى لها بكلمات مثل.. هَيد هيد، أو: هي دو هي دو. أو: دوه دوه. أو: ده ده بضم الدال. أو: داه داه، وهذا ما زال مستعملا إلى اليوم جنبا إلى جنب مع الرجز، ولم يلغِ أحدهما الآخر، وهو يختلف من بيئة إلى أخرى.
ثم تطور الدُّوّاة من مجرد همس أو صوت أو مناداة على الإبل إلى غناء شعري له طرقه وأساليبه ومفرداته الخاصة، ودخلت فيه مع مرور الزمن المعاني والكلمات الشعرية المغناة، والأشطر الموزونة، فجمع عذوبة الصوت، وسحر القافية المستمد من بيئة البدو وثقافتهم الأصيلة.
ومما يُذكر في قوة تأثير الحداء في الإبل "أن أبا جعفر المنصور سأل حدّاءً، فقال له: ما بلغ من حُسن حدائك؟ قال: تُعطش الإبل ثلاثا فتُدنى من الماء، ثم أحدو فتتبع كلها صوتي، ولا تقرب الماء".
حكايات ومروياتوقد أصّلت المعاجم العربية وأمهات كتب التراث العربي لـ"حداء الإبل"، كما تحتوي على كمٍّ هائلٍ من الحكايات والقصص والمرويات والأراجيز المرتبطة به، وحفظت كتب التراث الشعبي مجموعة كبيرة من المرويات الشفاهية لأحديات العرب المتأخرين على ظهور إبلهم وصهوات جيادهم، ولعل من أحدث الكتب التي تناولت هذا الباب ديوان "الرجز والحداء"، الذي ألّفه الباحث في الموروث الشعبي إبراهيم الخالدي، ووثّق من خلاله رحلة الحداء الطويلة في تاريخ الأدب العربي، انطلاقا من بدايته الأسطورية حتى عهد البداوة الأخير التي انتقل بها الحداء من الارتباط الوثيق بالإبل إلى علاقة مميزة بالخيل، وإن لم تنقطع صلته برفيقه القديم (الجمل)، وتؤكد هذه الدراسة تماهي "الحداء" الواضح مع بحر "الرجز"، وهذا البحر السهل أتاح الترنم بالحداء لغير الشعراء، حتى صار الحداء أغنية العرب جامعة.
وأشار الخالدي، في تصريح لوكالة الأنباء السعودية، "إلى أن وجود الحادي من أساسيات القوافل المرتحلة في الصحراء، وأهم أدوات الرعاة الحاذقين، وأجمل فنون الغزاة المحاربين". وأكمل "إن (الأديب اللبناني) جرجي زيدان ذكر أن مقاطع الشعر المستعملة للحداء تشبه مشي الجمال الهوينا، ولو ركبت ناقة، ومشت بك الهوينا لرأيت مشيها يشبه وزن هذا الشعر تماما".
و"الحداء" أقرب ما يكون إلى النظم البسيط المكون من بيتين بقافيتين، وبصوت يردده اثنان، وأحيانا عندما تكون الدّلو التي يستخرج بها الماء من الآبار كبيرة جدا، يردده 4 بصوت جهوري، يصل أحيانا في هدأة الليل أو الفجر إلى أماكن بعيدة، ولا يتقيد بلحن واحد، بل تتعدد ألحانه وطريقة أدائه من بيئة إلى أخرى، وتكون ألفاظه شجيّة، تخلب ألباب الإبل، ومعانيه ذات أبعاد تتعلق بشؤون حياة الرُّعاة اليومية، وتشمل كلمات الحداء الشعرية ببساطتها وخفتها وعدد كلماتها القليلة، التنظيم، والقوانين، وطرق السقاية، وأهداف الرحيل، وحياة البادية عامة، وما يجول في نفس الرُّعاة من همّ وشجن.
أحديات الجزيرة العربيةويؤكد رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية لدراسات الإبل "ذود" الدكتور محمد العتيبي "أن الحداء كان معروفا منذ العصر الجاهلي، وعادة ما يُقال للإبل عند وردها إلى الماء، أو عند سيرها إلى المرعى أو أثناء الترحال من مكان إلى آخر، وهو عبارة عن ترنيمات قصيرة مؤثرة في جمع الإبل وسيرها وانتظام عودتها إلى مُرحِها".
وللحداء مناسبات مختلفة فمنها "حداء الرحيل"، و"حداء السفر"، وحداء سقي الإبل الذي يسمى "العوبال"، وهناك حداء الأوبة المسمى عند العامة "الهوبال"، وهو خاص بجمع الإبل وسوقها إلى مرحها أو مكان رعيها، وهناك "حداء السواني"، ويغنى للإبل التي تجذب الماء من البئر لتنشط في سيرها.
ولم يستطع "الحداء" الاستمرار في لغته الفصيحة وفق ما ورد في كتاب "الحداء" للباحث محمد العجيري، خصوصا بعد أن ترك اللغة من تمسكوا بلهجاتهم الجديدة المولّدة، فتحول الحداء من اللغة الفصيحة إلى اللغات الدارجة لأهل الأمصار، ويوضح المؤلف أن هذا الإرث لم يتم تأليفه من قبل مجموعة معينة من الأفراد، بل انتقل من جيل إلى جيل، وخضع للحذف والإضافة حسب الاحتياجات البيئية للأفراد المستخدمين له، حتى وصل إلينا على الشكل الذي هو عليه، ولن يتوقف عن التعديل حتى يصل إلى مراحل التسجيل.
ومن أمثلة أحديات بدو الجزيرة العربية التي قالوها بلهجتهم العامية ما يسمى بالهوبال، وهو ينقسم إلى حداء ورجز، فأما الحداء فهو الذي يغنّى أثناء انتظار الدّلو، وهو يصدر من قاع البئر إلى حين الإمساك بها، ومن أمثلة ذلك قولهم "سق القعود وهِمّه يسقي خواته وأمّه"، "الله عليك قليّب يجمع خبيث وطيب"، "إن زولمن والتمن زهاب أهلهن تمّن"، "يا مرحبا وارحابي بأم السنام النابي"، "يا شمّخ العشاير يا مجوزات الباير"، "صب القلص لشعيلة كم درهمت من ليلة"، "ملحا جليلة واخر وإن جاء الدَّحم تستاخر"، "يا مرحبا وأهليني بأم الدلال الزيني"، "برقٍ يلهله قبله ينبت شتيل وربله".
وأما الرجز فهو خاص بالإمساك بالدّلو وتفريغ الماء في الحوض ومن أمثلته قولهم "يا غليّم رده يا غليّم رده"، فإذا ارتوت الإبل وأرادوا أن يحثّوها إلى مزيد من الشرب، قالوا "يا الإبل واخذي علّة وقودي ويا قاك الله.. ياو – ياو".
تراث شعبي غير ماديوقد سجل فن "حداء الإبل" ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي في منظّمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو"، بعد استيفاء شروط الملف الذي تقدمت به كل من السعودية وعمان والإمارات، كأبرز الموروثات التي ما زالت حيّة في التراث الشعبي.
وتحظى الإبل بمنزلة كبيرة في وجدان المجتمع العربي عامة، بصفتها أحد أهم موروثاته الثقافية، ولأجل هذا الارتباط الوثيق بين الثقافة المحلية والإبل، بادرت وزارة الثقافة السعودية بتسمية هذا العام 2024 بـ"عام الإبل"، باعتبارها قيمة ثقافية، وركيزة من ركائز الحفاظ على الهوية الوطنية الأصيلة، والتراث العربي الأصيل.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الجزیرة العربیة الذی ی
إقرأ أيضاً:
عظة البابا فرنسيس بمناسبة يوبيل الفنانين وعالم الثقافة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
ترأس عميد دائرة الثقافة والتربية الكاردينال تولينتينو دي مندونسا قداساً احتفاليا في البازليك الفاتيكانية نيابة عن البابا فرنسيس وذلك احتفالاً بيوبيل الفنانين وعالم الثقافة،وقد شارك في الاحتفال الديني عدد كبير من الممثلين عن عالم الفن والثقافة قدموا من روما، إيطاليا، ومختلف بلدان العالم خصيصا لهذه المناسبة اليوبيلية. أثناء القداس قرأ نيافته على الحاضرين عظة البابا والتي توقف فيها عند أهمية الدور الواجب أن يلعبه الفنانون في عالم اليوم مشددا على ضرورة الالتزام في بناء الجسور وخلق فسحات للقاء والحوار.
تطرقت عظة البابا إلى إنجيل اليوم الذي يحدثنا عن المسيح فيما كان يعلن التطويبات لتلاميذه ولحشد كبير من الناس. لقد سمعنا التطويبات مرات عديدة، ومع ذلك لم تتوقف عن إدهاشنا "طوبى لكم أيها الفقراء، لأن لكم ملكوت الله. طوبى لكم أيها الجياع الآن لأنكم سوف تشبعون. طوبى لكم أيها الباكون الآن، لأنكم سوف تضحكون". هذه الكلمات تابعت عظة البابا – تقلب منطقنا الدنيوي وتدعونا إلى النظر إلى الواقع بعيون جديدة، بنظرة الله، حتى نتمكن من رؤية ما وراء المظاهر والتعرف على الجمال حتى وسط الضعف والمعاناة.
يحتوي الجزء الثاني من مقطع الإنجيل على كلمات قاسية ومنبّهة: ولكن ويل لكم أيها الأغنياء، لأنكم قد تلقيتم عزاءكم، ويل لكم أيها الشباعى الآن، لأنكم سوف تجوعون. ويل لكم أيها الضاحكون الآن لأنكم سوف تحزنون وتبكون. إن التناقض بين "طوبى لكم" و"ويل لكم" يذكرنا بأهمية التمييز حيث نجد أمننا.
وتوجه البابا في عظته إلى الحاضرين في البازيليك الفاتيكانية وقال لهم: كفنانين وممثلين عن عالم الثقافة، أنتم مدعوون لأن تكونوا شهودا على الرؤية الثورية للتطويبات. مهمتكم ليست فقط لخلق الجمال، ولكن للكشف عن الحقيقة والخير والجمال المخبأ في طيات التاريخ، ولإعطاء صوت لمن لا صوت لهم، لتحويل الألم إلى رجاء.
إننا نعيش في زمن الأزمات المالية والاجتماعية المعقدة، لكن أزمتنا هي قبل كل شيء أزمة روحية، أزمة معنى. دعونا نطرح على أنفسنا أسئلة حول الوقت والمسار. أنحن حجاج أم نتجوّل وحسب؟ هل رحلتنا لها وجهة، أم أننا نفتقر إلى أي وجهة؟ الفنانون لديهم مهمة مساعدة الإنسانية على عدم فقدان طريقها وأفق الرجاء.
هذا وذكرت عظة البابا بكلمات الشاعر جيرارد مانلي هوبكنز، الذي كتب أن "العالم مشحون بعظمة الله، وهي تبرق كلمعان الرقائق المهزوزة". مهمة الفنان هي اكتشاف هذه العظمة الخفية والكشف عنها، ما يجعلها محسوسة لأعيننا وقلوبنا. كما أدرك الشاعر نفسه "الصدى الرصاصي" و"الصدى الذهبي" في العالم. ولفت البابا إلى أن الفنانين حساسون لهذه الأصداء، ومن خلال عملهم، ينخرطون في التمييز حول الأصداء المختلفة لأحداث هذا العالم ويساعدون الآخرين على فعل الشيء نفسه.
من هذا المنطلق فإن الرجال والنساء الذين يمثلون عالم الثقافة مدعوون لتقييم هذه الأصداء، وشرحها لنا وإظهار المسار الذي يقودنا إليه. إما أنها أغاني مغرية أو دعوات إلى إنسانيتنا الحقيقية. ولا بد من تقديم نظرة ثاقبة للمساعدة في التمييز بين ما يشبه "القشور المتناثرة بفعل الرياح" وما هو صلب، "مثل الأشجار المزروعة عند مجاري المياه"، القادرة على أن تؤتي ثمارها.
أيها الفنانون الأعزاء، كتب البابا فرنسيس، أرى فيكم حراس الجمال الذي يعرف كيف ينحني على جراحات عالمنا، وكيف يستمع إلى صرخة أولئك الفقراء والمتألمين والجرحى والسجناء والمضطهدين واللاجئين. أرى فيكم حراس التطويبات. إننا نعيش في زمن يتم فيه تشييد جدران جديدة، عندما تصبح الاختلافات ذريعة للانقسام بدلا من فرصة للإثراء المتبادل. ولكنكم، أيها الرجال والنساء في عالم الثقافة، مدعوون إلى بناء الجسور، وإلى خلق مساحات للقاء والحوار، وتنوير العقول وتدفئة القلوب. قد يقول البعض: ما الجدوى من الفن في عالم جريح؟ أليست هناك أمور أكثر إلحاحا، وأكثر واقعية وأكثر ضرورة؟
وأكدت عظة البابا أن الفن ليس ترفا، لكنه شيء تحتاجه الروح. إنه ليس هرباً من الواقع، لكنه مسؤولية ودعوة إلى العمل، إنه نداء وصرخة. والتربية على الجمال الحقيقي هي تربية على الرجاء. والرجاء لا ينفصل أبدا عن مآسي الوجود: إنه يمر عبر نضالاتنا اليومية، ومصاعب الحياة وتحديات عصرنا.
في الإنجيل الذي سمعناه اليوم، تابعت عظة الحبر الأعظم، يقول يسوع: طوبى للفقراء والمتألمين والودعاء والمضطهدين. إنه قلب للمنطق وثورة في المنظور. والفن مدعو للمشاركة في هذه الثورة، كما أن العالم يحتاج إلى فنانين نبويين وإلى مثقفين شجعان ومبدعين للثقافة.
في ختام العظة التي قرأها الكاردينال مندونسا على المشاركين في القداس طلب البابا من الفنانين أن يتركوا إنجيل التطويبات يرشدهم، وتمنى أن يكون فنهم إعلاناً لعالم جديد، آملا أن يُظهر ذلك شعرُهم، وشجع الجميع على عدم التوقف عن البحث وعن طرح التساؤلات وعن المجازفة. وكتب فرنسيس أن الفن الحقيقي ليس أبدا أمراً مريحاً إذ يوفر سلام الأرق. وذكّر بأن الرجاء ليس وهما وبأن الجمال ليس يوتوبيا، وختم مؤكدا أن موهبتهم ليست بفعل الصدفة، لكنها دعوة لا بد من التجاوب معها بسخاء وشغف ومحبة.