السفر على اللواري وسطح قطار الألم
تاريخ النشر: 29th, June 2024 GMT
منصور الصويم
حكاية أولىأذكر، منذ سنوات طويلة ونحن في مرحلة الطفولة المبكرة، كنا نخرج في “العصريات” ونتجه إلى الشارع السفري الترابي القريب من بيتنا بحي شم النسيم في مدينة نيالا بجنوب دارفور.
كنا نلتقي مع مجموعة كبيرة من الصغار “الشياطين”، بعضنا يأتي من حي السد العالي المتاخم لحينا. وفي التوقيت المحدد نقف بموازارة الطريق السفري، لن تمضي سوى دقائق حتى تحضر اللواري الكبيرة القادمة من جهة الغرب الأقصى “زالنجي، الجنينة”، محملة بالبضائع والمسافرين الذين يعتلونها متكومين على جوالات المحاصيل في طريق سفرهم نحو المشاريع الزراعية الكبرى في وسط وشرق البلاد بهدف العمل.
قد تبدو الحكاية السابقة عادية لا تعكس سوى الشغب الطفولي اللذيذ، الذي قد يتوجه في أحيان كثيرة للنيل من فئات مجتمعية وأفراد بعينهم بهدف اللهو والمغامرة لا أكثر. لكن، في بعد آخر، يمكننا أن نقرأ في مثل هذه الحكاية مؤشرا أوليا لكيفية نمو “خطاب الكراهية” دون وجود كوابح تمنعه التمدد والاتساع. فغياب الوعي المجتمعي هو الذي دفعنا – على ما أرى – للاستمرار في هذه الممارسة التحقيرية وتوريثها لمن هم بعدنا من أجيال، دون أن نجد في “الشارع السفري العريض” من ينبهنا إلى الخطأ الذي نمارسه، وأن يفعل ذلك بوعي تبصيري، لا بهدف منع “الإزعاج” أو لحمايتنا من مطاردة محتملة من سائقي اللواري أو حتى الركاب المتوترين. هذا الوعي الذي أتحدث عنه لم يتحقق بالنسبة لي إلا بعد سنوات من هذه الحكاية، وحدث لركاب آخرين ووجهوا بهتافات مشابهة لهتافاتنا المشاغبة، ولكن من أناس أكبر وأكثر وعيًا، وكان الضحية هذه المرة أنا وصحبي!
الحكاية الثانيةفي أواخر التسعينيات من القرن الماضي، وكنت مسافرًا من مدينة نيالا إلى العاصمة الخرطوم “حيث كان الرئيس بنوم”، ووسيلة السفر المتاحة في تلك الفترة كانت “قطار نيالا” الشهير، ولروح الشباب المتمردة قررنا ونحن مجموعة من الأصدقاء أن نسافر على سطح عربات القطار، بعضنا زائغ من رسم التذاكر وآخرون هكذا فقط محبة في المغامرة. حين وصلنا مدينة ومدني في وسط السودان بولاية الجزيرة، وكنا مستلقين على السطح نشاهد معالم المدينة فوجئنا ببعض الأشخاص (الرجال) وهم يقتربون من القطار ويبدأون بالصياح بأصوات مرتفعة: “يا غرابة، الغرابة وصولوا” ويقهقون! نبرة التحقير التي حملتها تلك الهتافات أعادتني مباشرة إلى هتافات الطفولة “يا جنقجورو”، وفتحت ما يشبه “كوة الضوء” معرفة سريعة وإن كانت سطحية بما يمكن أن أسميه بأزمة “المجتمعات السودانية”، أو الكراهية المستبطنة بين هذه المجتمعات أو الشعوب! في تلك اللحظة من الهتاف التحقيري وجدتني أرد بشكل تلقائي وغير مبال على الهاتفين: “امشوا يا عروب يا مواهيم”. وهو رد أضحك رفاقي كثيرًا وعدوه مفحمًا للآخرين ورددوه بصوت عالٍ رغمًا عن أن القطار كان قد مضى بعيدًا، وذلك رد أدخلني أيضًا من “كوة الضوء” المنفتحة لأقرأ نفسي وأفهم “خطابي”.
الدولة المتداعيةالسودان بلد متنوع ومتعدد الثقافات والمناخات واللغات. ونظرة سريعة إلى القبائل التي تقطن هذه البلاد “600 قبيلة” تضعنا أمام الصورة المجتمعية المعقدة التي يحياها ويعيشها السودانيون. هذا التنوع والتعدد المعقد كان من المفترض أن يوجد منذ البداية “ما بعد الاستقلال” طرائقه وأساليبه القادرة على استيعاب كل هذه “الفسيسفاء” المتنافرة ليضعها داخل مكون عادل يعترف بالجميع ولا ينتقص من أحد أو يعلي ثقافة على أخرى، أو يرفع من أسهم قبيلة على قبيلة، لكن ما حدث كان عكس ذلك وهو ما نرى نتائجه ماثلة في شكل الدولة السودانية المتداعية الآن!
نشيد “الألم”هذه هي الحكاية الثالثة والأخيرة التي سأرويها، وهي مستدعاة أيضًا من طفولتي إبان تتلمذي في المرحلة الابتدائية بمدينتي نيالا. ونحن في الصف الرابع قدم إلينا طالب من المناطق الجبلية غرب دارفور. كان متين الجسد وذكيًا وقليل الكلام. ولأنه جاء من عمق قروي مجتمعي لا يتحدث العربية، كانت بعض الحروف العربية تشكل بالنسبة له إشكالية في النطق مثل حرف الـ”ع”. ورغم ذكائه وتفوقه الملحوظ إلا أن أستاذنا للغة العربية كان يترصده دومًا محاولًا إذلاله في كل مرة بـ “لسانه المعوج”. وحدث ذات مرة وأنا أحاول تصحيح كراستي المدرسية أن وجدت هذا الطالب وسط مجموعة من المعلمين، كانوا متحلقين في دائرة وهو في وسطهم منبطح على الأرض وأستاذ اللغة العربية يحمل سوطًا ويطالبه في كل مرة بترديد جملة “نشيد العلم”، فينطقها الطالب “نشيد الألم”، فينهال عليه المعلم بالسوط جلدًا لـ”يتألم” أكثر بينما يضج بقية المعلمين بالضحك. في ذلك اليوم أحسست بالاضمحلال و”الكراهية” والرغبة في مغادرة المدرسة التي غادرها الطالب الجبلي فعليًا، إذ كان ذلك آخر يوم دراسي له.
حرب الكراهيةمع اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل في العام الماضي، بدأ الجميع يحذر من تحولها إلى حرب أهلية شاملة. لماذا التخوف من تحول حرب وصفت بـ “حرب الجنرالين” و”الحرب العبثية” إلى حرب أهلية شاملة تقضي على كل شيء؟ لأن جميع من حذر من ذلك يعي هشاشة العلائق التي تربط المجتمعات السودانية مع بعضها، ولأن الجميع يدرك أن الدولة السودانية منذ تشكلها لم تفعل شيئًا سوى اللعب على التناقضات التي تسم هذه العلائق، وهو ما توضحه الحروب الكثيرة التي أدارتها هذه الدولة ضد هذه الشعوب في الجنوب والغرب وجبال النوبة ومختلف مناطق السودان. نعم الغبائن إحدى المسببات الرئيسية لتوليد خطاب الكراهية، لكن السؤال المهم الذي يفترض أن نواجه بها أنفسنا هو كيف تكونت هذه الغبائن ومن أسهم في تناميها لتصل هذه المرحلة التي نحياها الآن ونرى أنمذجتها في “قطع الرؤوس” والتهديد بغزو مدن بعينها والتحريض على الانفصال والاعتقال على الهوية ونزعها مزاجًا وكراهية!
بذرة الوعيفي الحكاية الأولى قلت إن “كوة من الوعي” انفتحت أمامي حين ووجهت بذات أساليبي “العنصرية” الطفولية ووجدت أن هناك أيضًا من ينظر إليّ من أعلى ويراني دون. أول ما فطنت له إن من الضروري أن أعرف الآخر وأعرفه بنفسي لأزيل كل وهم في “أناي” ولديه عني وعنه. هذا مجهود قد يبدو شاقًا وكبيرًا في بلد مثل السودان لا تزال تسيطر عليه “دولة المستعمر” بكل أدواتها الخبيثة في ذرع الفتن وبذر بذور الكراهية. لكن الوعي كثورة يتخلق بطيئًا، ويمكن لأي شخص من موقعه أن يسهم فيه بالقدر المعقول. في الحكاية الأولى تعرفت على نفسي وعلى “الجنقو” بسبب واقعة القطار، لكني أثق تمامًا أن آخرين لم يتحقق وعيهم ومعرفتهم ومن ثم احترامهم لـ “الجنقو” إلا بعد أن قرأوا رواية “الجنقو مسامير الأرض” لعبدالعزيز بركة ساكن. هذا عمل أدبي أسهم – في رأيي – بقدر كبير في فهم فئة سودانية ظلت مهمشة ومنسية على مدار التاريخ السوداني الحديث، أن تتعرف على الجنقو “نموذج” أو غيرهم وتحترمهم، أو يحدث العكس هذا هو الوعي المطلوب لنسف خطاب الكراهية من جذوره، وهو مجهود لكي يتحقق بالكامل يتطلب منا المضي في ثورتنا ضد “الدولة القديمة” وأن نعمل بكل طاقتنا على إنهاء مظهرها الأكبر في القبح وأعني حرب الجيش والدعم السريع.
.. ومن ثم نذهب في طريق دولة المواطنة والحقوق المتساوية.
الوسوممنصور الصويم
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: منصور الصويم خطاب الکراهیة
إقرأ أيضاً:
وسط الدمار والركام… سيدتان تستعيدان ذكريات الألم والعودة إلى داريا
"داريا دمار وركام داريا 2025-04-09malekسابق حملة تنظيف لمجرى نهر بانياس في طرطوس انظر ايضاً حملة إزالة الركام ومخلفات الدمار من المدارس في دارياريف دمشق-سانا أكدت محافظة ريف دمشق أن إدارة منطقة داريا، بالتعاون مع المجتمع المحلي، تواصل …
آخر الأخبار 2025-04-09حملة تنظيف لمجرى نهر بانياس في طرطوس 2025-04-09مؤتمر طبي في جامعة حمص بالتَّعاون بين كليَّة الطِّب البشري ومنظمة ميد غلوبال العالمية 2025-04-09الجامعة الافتراضية السورية تمدد تسجيل الطلاب القدامى في عدد من البرامج 2025-04-09الابتكار في زمن الأزمات… محاضرة في كلية الهندسة المدنية بجامعة دمشق 2025-04-09الهيئة الطبية الدولية تفتتح مركزاً صحياً في بصرى الشام 2025-04-09إزالة السواتر الترابيّة وفتح الطُّرق المغلقة في قريتي عرجون والحوز بريف القصير 2025-04-09الرقابة التموينية في اللاذقية تغلق ثلاث فعاليات تجارية مخالفة 2025-04-09معاون وزير الاتصالات: تطبيق رؤية مختلفة في عمل المؤسسة السورية للبريد 2025-04-09الوزير هيكل يبحث مع وفد فرنسي سبل التعاون في قطاع الاتصالات وتقانة المعلومات 2025-04-09عمليات جراحية نوعية مجانية ضمن حملة “أم الشهيد” في حمص
صور من سورية منوعات أول دراسة سريرية بالعالم… زراعة الخلايا الجذعية تحسن الوظائف الحركية لمرضى الشلل 2025-03-26 جامعة ناغازاكي تطور “مرضى افتراضيين” لتدريب طلاب كلية الطب 2025-03-24فرص عمل وزارة التجارة الداخلية تنظم مسابقة لاختيار مشرفي مخابز في اللاذقية 2025-02-12 جامعة حلب تعلن عن حاجتها لمحاضرين من حملة الإجازات الجامعية بأنواعها كافة 2025-01-23
مواقع صديقة | أسعار العملات | رسائل سانا | هيئة التحرير | اتصل بنا | للإعلان على موقعنا |